لقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون، يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم.
ول ديورانت، قصة الحضارة
هذه إحدى قصص التسامح الديني والتعايش مع الآخر في تاريخ الحضارة العربية. تدور أحداثها في الشام منذ انتقل الحكم إلى العرب، حتى جاء عبد الملك بن مروان بسياسة التعريب، حيث بدأت الأمور تتغيّر.
سنتعرف على أسرة منصور وحفيدها: يوحنا بن سرجون بن منصور الرومي، نسبة إلى كنيسة الروم الأرثوذكس (الخلقيدونية). الشهير باسم يوحنا الدمشقي (675-754م). عملت هذه الأسرة في خدمة الأمويين، وقدمت لهم الولاء وحفظ لها العرب مكانتها الرفيعة في المجتمع السوري. لكن حين تبدلت الأمور وبدأ التضييق على المسيحيين في الشام، ابتعد أفرادها عن البلاط الأموي، ثم شرع الحفيد بكتابة ما سيُعد لاحقًا أول كتاب في نقد العرب وعقائدهم: كتاب الهرطقة المئة.
التسامح: المرحلة السفيانية
لم يعان المسيحيون في بلاد الشام الكثير من تبدّل الأوضاع في السنوات العشر التي عقبت الفتح. فلم يلجأ الفاتحون إلى الشدّة ليفرضوا على المغلوبين معتقداتهم الإسلامية بل لبثت سوريا بلداً «مسيحيًا» فيها كنائس رائعة ذائعة الصيت على نحو كنيسة القيامة وكنيسة اللّدّ والرّها وحافظت على طابعها حتى نهاية الحقبة الأموية. وكان السواد الأعظم من سكان المدن مسيحياً.
البطريرك أغناطيوس الرابع، لبنان في تاريخه وتراثه
مرت الدولة الأموية بمرحلتين: الأولى هي فترة السلالة السفيانية، التي حكم فيها معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية، واتسمت هذه المرحلة بالتسامح مع غالبية السكان المسيحيين في الشام. وهذه السياسة امتدادًا لما كان عليه الوضع منذ فتح الشام، وبداية تولي معاوية بتكليف من عمر بن الخطاب.
حيث لا نجد هدمًا متعمدًا للكنائس لإحلال المساجد مكانها، ولم يُمنع المسيحيون من ممارسة عباداتهم، بل إن معاوية أمر بإعادة بناء كنيسة الرها الكبرى بأمواله الخاصة بعدما تهدمت جراء الزلزال.
واستمر الفاتحون العرب على ما يمكن أن نعده نهج النبي تجاه المسيحيين، حيث أرسل إلى مسيحيي نجران كتابا عاهدهم فيه على أن: "لنجران وحاشيتهم جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وبيعهم، وصلواتهم لا يغيروا أسقفًا عن أسقفيته، ولا راهبًا عن رهبانيته، ولا واقفًا عن وقفانيته". كذلك سارت الأمور في الشام.
في بعض الحالات، كان المسلمون والمسيحيون يشتركون في إقامة صلواتهم في المكان نفسه، كما أشار نجيب عوض في المسيحية الأموية إلى أن بعض الاكتشافات الآثارية عثرت على معابد تحتوي على قبلتين، أحدها في بئر أورا في صحراء النقب، حيث وُجدت قبلة باتجاه الشرق وأخرى ناحية مكة.
كذلك الحال في دمشق، ففي كاتدرائية يوحنا المعمدان صلى المسيحيون في جزئها الغربي والمسلمون في الجزء الشرقي، منذ فتح دمشق حتى زمن الوليد بن عبدالملك. يقول نجيب عوض: "الأكثر إثارة للاهتمام هو وجود مؤشرات على وجود رغبة بين مسيحيي المنطقة الأموية بالترحيب بوجود المسلمين في أماكن عبادتهم والسماح ببعض التنازل فيما يتعلق بزينة الكنائس والمظهر لإشعار المسلمين كأنهم في مساجدهم الخالية من الصور".
كما استعان الخلفاء بمستشارين سياسيين وولاة ومؤدبين لأبنائهم من المسيحيين، منهم دغفل الشيباني، العلامة في الأنساب والذي اختاره معاوية ليعلّم يزيد العربية وأنساب العرب. واختار ابن آثال المسيحي ليكون طبيبه الخاص وواليًا على حمص. وتزوج ميسون بنت بحدل من قبيلة كلب المسيحية، وأنجبت له يزيد، ثم أخذته في طفولته ليتربى مع أخواله في البادية.
وكان شاعر الدولة والمدافع عن سياساتها هو الأخطل التغلبي المسيحي، الذي قال، في بديعته خَفَّ القَطين، أجود بيت قيل في بني أمية:
شُمسُ العَداوَةِ حَتّى يُستَقادَ لَهُم وَأَعظَمُ الناسِ أَحلاماً إِذا قَدَروا
وكان تغزّل عبدالرحمن بن حسان بن ثابت في رملة بنت معاوية، أخت يزيد، هي الفرصة التي أتيحت له للدفاع عن الأمويين. فلم يجرؤ شاعر مسلم على هجاء الأنصار لمكانتهم عند النبي، لكن الأخطل المسيحي ليس لديه ما يمنعه، فهجاهم، بطلب من يزيد، بشعر أوجعهم، حتى جاء أحدهم هائجًا يشتكي إلى معاوية مما قيل فيهم:
ذَهَبَت قُرَيشٌ بِالمَكارِمِ وَالعُلى وَاللُؤمُ تَحتَ عَمائِمِ الأَنصارِ
فَذَروا المَكارِمَ لَستُمُ مِن أَهلِها وَخُذوا مَساحِيَكُم بَني النَجّارِ
وكان الأخطل، إلى جانب سرجون بن منصور (والد يوحنا الدمشقي)، من ندماء يزيد بن معاوية على الشراب، كما نقل البلاذري في أنساب الأشراف: "المدائني قال: كان يزيد ينادم على الشراب سرجون مولى معاوية".
ونجد آثار هذه البيئة المتسامحة في شخصية خالد بن يزيد بن معاوية، حيث يصفه الزهري، كما ينقل ابن كثير في البداية والنهاية، بأنه: "كان يصوم الأعياد كلها الجمعة والسبت والأحد - يعني يوم الجمعة وهو عيد المسلمين، ويوم السبت وهو عيد اليهود، والأحد للنصارى".
واشتهر خالد بطلبه علوم الكيمياء والنجوم والطب من نصارى الشام وأقباط مصر، مثل مريانُس، وشمعون، واصطفان السكندري، حتى برع فيها، واستعان به عبدالملك عندما احتاج إلى سك عملة جديدة.
ويروي البلاذري في أنساب الأشراف هذه الأبيات لخالد، يعبّر فيها عن فرط حبه لزوجته رملة بنت الزبير بن العوام:
أحبّ بني العوّام طرّا لحبّها ومن حبّها أحببت أخوالها كلبا
ولا تكثروا فيها الضجاج فإنّني تنخّلتها عمدا زبيريّة قلبا
فإن تسلمي نسلم وإن تتنّصري يخطّ رجال بين أعينهم صلبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
كذلك نجد من آثار تلك البيئة المتسامحة اختيار الخليفة عمر بن عبدالعزيز أن يدفن في دير سمعان. ينقل ابن الجوزي في كتابه عمر بن عبدالعزيز هذا الخبر: "اشتكى عمر بن عبد العزيز لغرة هلال رجب سنة إحدى ومائة، فكان عليه عشرين يوماً، فأرسل إلى نصرانى، فساومه بموضع قبره فقال له النصرانى والله يا أمير المؤمنين! إنى لأتبرك بقربك وبجوارك، فقد أحللتك، فأبى ذلك عمر إلا أن يبيعه فباعه إياه بثلاثين ديناراً، ثم دعا بالدنانير فوضعها فى يده".
وكذلك اختارت زوجته، فاطمة بنت عبد الملك، أن تدفن في الدير قرب زوجها. وذكر ابن الجوزي أن: "صالح بن على حين قدم الشام سأل عن قبر عمر بن عبد العزيز، فلم يجد أحداً يخبره، حتى دُلَّ على راهب، فأتى فسأل عنه، فقال: أقبر الصديق تريدون؟ هو فى تلك المزرعة!".
التردد على الأديرة والنزول فيها لم يكن أمرًآ مستغربًا آنذاك. فهذا يزيد بن معاوية نزل في دير مرّان عندما أرسله والده ليشارك في غزوة الطوانة، وكان حينها حديث عهد بالزواج من أم كلثوم. إلى أن جاءه خبر الجنود الذين ذهبوا للقتال وأصابهم الجوع والجدري، فتمثل بهذين البيتين:
وَما أُبالي إِذا لاقَت جُموعُهُمُ بِالغَذقَذونَةِ مِن حُمّى وَمِن مومِ
إِذا اِتَّكَأتُ عَلى الأَنماطِ مُرتَفِعاً بَدير مُرّانَ عِندي أُمُّ كُلثومِ
فما كان من معاوية حين بلغه ذلك إلا أن أرسل ليزيد يوبخه ويأمره بالالتحاق بالجيش ليصيبه ما أصاب الناس.
ثم تحل المرحلة الأموية الثانية: السلالة المروانية. حيث توسعت حدود الدولة على ثلاث قارات، وبدأت في هذه المرحلة سياسة تسعى إلى استقلال النخبة العربية وتمييز ذاتها عن الشعوب التي تحكمها، ففُرض التعريب والأسلمة، وكذلك الاستغناء عن غير المسلمين في مناصب الدولة.
انعكس هذا التحول على أفراد أسرة يوحنا، التي عاصرت الحقبتين؛ ففي الحقبة الأولى، كانت من موالي الأمويين، أما في الحقبة الثانية، فقد عُزل أفرادها من مناصبهم الرفيعة في البلاط الأموي، أو اعتزلوا العمل فيه، حتى انتهى الحال بيوحنا إلى التأليف ضد العرب، في كتابات تحمل نفسًا عنصريا.
الجد منصور: من البيزنطيين حتى الفتح العربي
وأيضًا هؤلاء العرب الذين منحهم الرب في هذا الوقت السيطرة على العالم، كما تعلمون، إنهم [أيضًا هنا] معنا. ليسوا فقط غير أعداء للمسيحية، بل يمتدحون ديننا أيضًا، ويكرمون كهنة ربنا ومقدِّسيه، ويدعمون الكنائس والأديرة.
رسالة إيشوعياب الثالث (ت 659م)، حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة
تبدأ قصة أسرة يوحنا مع جده منصور، الذي تنسبه بعض المصادر إلى قبيلة تغلب أو كلب، فاسمه من الأسماء الدارجة في تلك القبيلتين.
كان أول دور لعبه في دمشق في السنوات الأخيرة من حكم الإمبراطور موريكيوس (حولي 602م)، حيث اختاره ليشرف على جمع الضرائب من سكان دمشق وتقديمها إلى بيزنطة. نجح في هذه المهمة، فأبقاه هرقل، خليفة موريكيوس، في منصبه.
لكن عندما احتل الفرس سوريا عام 614م تعاون معهم منصور، وصار يرسل إليهم أموال الضرائب. لم يغفر له هرقل هذا التصرف أبدًا. فبعد سنتين من عودة دمشق إلى الحكم البيزنطي عام 630م، زارها هرقل، وخلال زيارته عاقب منصور بالسجن والتعذيب، ثم وافق على تغريمه ١٠٠ ألف دينار ذهبي تعويضا عن السنوات التي امتنع فيها عن تحويل الأموال إلى بيزنطة، في مقابل أن يبقى في منصبه.
تركت هذه العقوبة أثرًا عميقًا في نفس منصور، وأسرَّها في نفسه. وعندما حاصر العرب دمشق عام 635م، خرج إليهم وفد برئاسته، وتفاوض مع خالد بن الوليد على فتح أسوار المدينة وتسليمها للعرب مقابل إعطاء الأمان لأهلها من السوريين ولممتلكاتهم ولكنائسهم، باستثناء الروم.
واستمر منصور في منصبه بعد الفتح العربي، حيث وافق عمر بن الخطاب بأن يبقيه مسؤولا عن الشؤون المالية في دمشق.
الأب سرجون: الفيل الذي يصعب التخلص منه
وكما كانت سياسة التسامح مع الرعايا غير المسلمين هي الطابع المميز لفترة خلافة معاوية رضي الله عنه، كذلك نرى سياسة التعاطف والاهتمام المتزايد وحسن المعاملة تجاه الموالي من المميزات الأخرى في عصر معاوية.
علي الصَّلابي، الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
لعب الطاعون دورا في تسارع وفاة كبار قادة فتح الشام، ليجد معاوية الفرصة مواتية ليتولى جميع ولايات الشام، واستمر في منصبه قرابة عشرين عامًا. عرف بخبرته السياسية كيف يتعامل مع أهل الشام ويكسب ولائهم، حتى كانت له سمعة حسنة في كتابات المسيحيين آنذاك، حيث وصِفَت سنوات حكمه بأنها سنوات عم فيها سلام استثنائي.
فقد كتب يوحنا بن الفنكي، أحد الرهبان في شرق سوريا، كتابا بعنوان كتاب النقاط الرئيسة سنة 687م، وأتى فيه على ذكر معاوية، معللًا حسن تعامله مع المسيحيين بأنه تنفيذ لوصايا النبي فيهم، يقول: "من [الغربيين] صار رجل يدعى معاوية ملكا وسيطر على مملكتي الفرس والرومان. ازدهر العدل في أيامه، وساد سلام كبير في المناطق التي سيطر عليها. سمح لكل شخص بأن يتصرف كما يريد؛ لأنهم - كما قلت من قبل - أيدوا وصية معينة من الذي كان مرشدهم تتعلق بالمسيحيين والرهبنة. وبتوجيهاته، أيدوا أيضًا عبادة إله واحد، وفقًا لعادات الشريعة القديمة. وفي البداية، أيدوا تراث معلمهم محمد، بحيث يحكمون بالإعدام على كل من يجرؤ على [انتهاك] قوانينه".
وبعد اغتيال الخليفة عثمان بن عفان، اختار معاوية أن تكون القدس هي المكان الذي يتحالف فيه مع عمرو بن العاص ضد علي بن أبي طالب، كما ينقل ابن سعد ذلك الاتفاق في الطبقات الكبرى: "وكتَبا بينهما كتابًا نُسْخَتُه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تعاهد عليه معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ببيت المقدس من بعد قتل عثمان بن عفّان وحمل كلّ واحد منهما صاحبَه الأمانةَ، إنّ بيننا عهد الله على التناصر والتخالص والتناصح فيما أمر الله والإسلام ولا يَخْذُلُ أحدُنا صاحبه بشيء".
وحين بويع بالخلافة، اختار أن يكون حفل تنصيبه في إحدى كاتدرائيات القدس، وليس في دمشق، كما يذكر السجل الماروني الذي يعود إلى نهاية القرن السابع للميلاد، والذي ينقله مايكل فيليب في كتابه حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة: "في عام 971 [660/661م]، العام الثامن عشر من حكم كونستانس، اجتمع كثير من العرب في أورشليم ونصبوا معاوية ملكا، وصعد وجلس في الجلجلة. صلى هناك، وذهب إلى الجثمانية، ونزل إلى قبر مريم المباركة، وصلى هناك".
لا شك أن قبائل فلسطين المسيحية، قضاعة وجُذام، قد شعرت بالابتهاج حين انتشر خبر صلاة معاوية عند قبر مريم وفي جثسيماني. وكان ولاء تلك القبائل مع معاوية وابنه يزيد، كما يشير نجيب عوض.
وفي الوقت الذي كان فيه معاوية واليا على الشام، توفي منصور (حوالي 651م)، وخلفه ابنه سرجون في بلاط معاوية، وزيرا للشؤون المالية وعضوا في مجلس الحكم أو كما تصفه المصادر العربية: "كاتب معاوية وصاحب أمره".
استمر سرجون في منصبه الرفيع حتى زمن عبدالملك بن مروان، ولعب أدوارا مهمة في خدمة الأمويين، لا تقل أهمية عن دور والده. حتى أن معاوية، لحظة إدراكه بقرب أجله، اختار مجموعة من الأشخاص، مثل الضحاك بن قيس، ومسلم بن عقبة، وسرجون، لتسيير شؤون الدولة إلى حين عودة يزيد، الذي كان يقود حملة عسكرية ضد البيزنطيين، ليستلم مهامه خليفةً لأبيه.
استغرقت عودة يزيد إلى دمشق أسبوعين بعد دفن معاوية. وسيظل نفوذ سرجون يتعاظم في دمشق حتى أن عبدالملك بن مروان سيضطر إلى أن يحتال حيلة كي يتخلص منه.
من قتل الحسين؟
كان سرجون نديما ليزيد بن معاوية، كما ذكرنا. وعندما تولى يزيد الخلافة، كان سرجون من مستشاريه المقربين. واستشاره ليرشح من يرى فيه الأهلية لمواجهة ثورة الحسين في الكوفة. فأشار عليه بأن يجعل عبيد الله بن زياد، الذي وثق فيه معاوية وأولاه البصرة. فقرر يزيد أن يجمع له ولاية الكوفة أيضا رغم عدم محبته له.
والقصة كما أوردها البلاذري في أنساب الأشراف: "بلغ يزيد بن معاوية أنّ الحسين عليه السلام يريد الخروج إلى الكوفة فغمّه ذلك وساءه فأرسل إلى سرجون مولاهم وكان كاتبه وأنيسه فأستشاره فيمن يولّيه الكوفة فأشار بعبيد الله بن زياد،
فقال: إنّه لا خير عنده،
قال: أرأيت لو كان معاوية حيّا فأشار عليك به أكنت تولّيه؟
قال: نعم،
قال: فهذا عهد معاوية إليه بخاتمه وقد كان وّلاه فلم يمنعني أن أعلمك ذلك إلا معرفتي ببغضك له،
فأنفذه إليه وعزل النعمان بن بشير".
التعريب والأسلمة: المرحلة المروانية
إن سرجون يدلّ علينا [يفتخر] بصناعته، وأظن أنه رأى ضرورتنا إليه في حسابه، فما عندك فيه حيلة؟ فقال [سليمان بن سعد]: بلى، لو شئت لحوّلت الحساب من الرومية إلى العربية. قال: افعل.
عبد الملك بن مروان
كانت الأوضاع السياسية مضطربة للغاية بعدما توفى معاوية الثاني دون تعيين خليفة له، وأصبحت الحجاز والعراق تحت حكم ابن الزبير، بينما الأمويين متنازعين فيما بينهم حول عدة شخصيات. حتى اتفقت قبائل الشام على دعم مروان بن الحكم للخلافة.
في ذلك النزاع وقفت قبائل فلسطين، بقيادة نائل بن قيس الجُذامي، في صف ابن الزبير، وهو الموقف الذي لن ينسى عبدالملك بن مروان أن يعاقبهم عليه.
آلت الأمور إلى مروان بن الحكم الذي تولى الخلافة قرابة عام واحد، ثم خلفه ابنه عبدالملك بن مروان. ومعه استؤنفت الفتوحات بعد توقف بسبب الانشغال بالنزاعات الداخلية.
أما سرجون، فقد ظل محتفطًا بمكانته الرفيعة في البلاط الأموي، كما يظهر في حادثة أعمدة جثسيماني.
فبعد أن انتهت الحرب مع ابن الزبير، الذي كان متحصنًا في مكة، لاحظ عبد الملك الحاجة إلى إعادة ترميم الكعبة، فقرر أخذ بعض الأعمدة من جثسيماني في القدس، وهو مكان يحمل أهمية كبيرة للمسيحيين.
إلا أن سرجون نجح في إفشال هذا القرار بعد أن تدخل مع أحد المسيحيين الفلسطينيين وطلبا من إمبراطور بيزنطة أن يرسل أعمدة بديلة إلى عبد الملك. يروي ثيوفان المعترف في تاريخه هذه الحادثة: "أعطى عبد الملك تعليمات لإعادة بناء معبد مكة وأراد إزالة أعمدة جثسيماني المقدسة. الآن سرجيوس، ابن منصور، وهو مسيحي جيد، كان أمين خزانة، ووقف على علاقة وثيقة مع عبد الملك، وكذلك نظيره، باتريسيوس الملقب كلاوسيس، الذي كان بارزا بين مسيحيي فلسطين، توسل إليه ألا يفعل ذلك، ولكن لإقناع جستنيان، من خلال دعاءهم، بإرسال أعمدة أخرى بدلا من تلك الأعمدة؛ وهذا بالفعل ما حدث".
ظل عبد الملك يعترف بمكانة سرجون وأهميته في البلاط. ففي إحدى زيارات الأخطل إلى الخليفة، أخبره بأنه ينزل في بيت سرجون، فكان رد عبدالمك ثناءً عليه، كما روى الأصفهاني في الأغاني: "وحُكي أن الأخطل قدم على عبد الملك بن مروان، فنزل على سَرجون كاتبه.
فقال عبدُ الملك: على مَنْ نزلتَ؟
فأخبره.
فقال: قاتلَك اللّٰه! ما أعلمك بصالح المنازل!".
إلا أن الأمور لم تستمر كسائر عهدها. ودعونا نبدأ بهذه الحادثة:
في إحدى الليالي، استيقظ كاهن في جبل الزيتون بالقدس، حيث توجد العديد من الكنائس والأديرة المسيحية، على أصوات مزعجة لعمال بناء. عرف لاحقا أنهم بصدد إنشاء قبة الصخرة.
اختار عبد الملك ذلك الموقع، وسط تلك البقعة المليئة بالكنائس والأديرة المسيحية، ليكون ظاهرا بارزا على ما حوله من مبانٍ مسيحية، ثم زيّنه بآيات قرآنية تؤكد على نبوة وبشرية عيسى بن مريم، وأن ليس لله ولد.
الهدف واضح: حين يشاهد المسيحيون من قضاعة وجُذام هذا المبنى في هذا المكان، لن يكون لديهم أدنى شك أن السيادة والكلمة العليا باتت للمسلمين. كذلك تحمل رسالة مفادها: أنكم خسرتم برهانكم على ابن الزبير، ونحن انتصرنا، أو كما قال الأخطل:
وَتَستَبينَ لِأَقوامٍ ضَلالَتُهُم وَيَستَقيمَ الَّذي في خَدِّهِ صَعَرُ
وفي أحد الأيام، أصدر عبد الملك أمرًا إلى سرجون، لكنه تفاجأ بتجاهله وعدم اكتراثه. هذا التصرف أغضب الخليفة الذي لا يريد أن يعزله بطريقة مشينة يمكن أن تسبب له متاعب لا داعي لها من شخصية بأهمية سرجون عند أهل الشام. فاضطر أن يحتال حيلة ليتخلص منه.
ولعل الاضطرابات مع البيزنطيين كان لها دور في القرارات التي اتخذها عبد الملك لتقليل اعتماد الدولة على كل ما هو غير عربي وإسلامي. مثل:
- استبدال الدينار البيزنطي بالدينار العربي، الذي احتوى على عبارات مثل أن "الله لم يلد ولم يولد".
- تحويل الدواوين إلى العربية.
- إحلال العرب في إدارة الدواوين بدلًا من الفرس والروم.
فأوكل عبد الملك إلى سليمان بن سعد الخشني مهمة تعريب الدواوين، وعندما أتمها، أولاه إدارة الديوان خلفا لسرجون. وهكذا وجد عبد الملك طريقة لائقة للتخلص من سرجون.
يقول أبو بكر الصولي في أدب الكُتَّاب: "وكان ديوان الشام إلى سرجون بن منصور، وكان روميا نصرانيا، كتب لمعاوية ولمن بعده إلى عبد الملك بن مروان، ثم رأى عبد الملك منه توانيًا، فقال عبد الملك لسليمان بن سعد مولى لحسين، وكان على مكاتبات عبد الملك والرسائل: ما أحتمل سحب سرجون، أفما عندك حيلة في أمره؟
فقال: بلى أنقل الحساب إلى العربية من الرومية.
فقال: افعل.
فحَوَّله، فولاه عبد الملك جميع دواوين الشام وصرف سرجون".
إلا أن هذه السياسة كانت تدريجية، ولم يتخلص فورًا من كل العاملين من غير المسلمين. لأن يوحنا استمر بعمله كاتبا في البلاط الأموي، يتابع هذه العملية عن قرب، ويرى كيف يتم التخلص من مسيحي إلى آخر فقط لأنه من دين مختلف. ومن هنا، بدأت مشاعر الاستياء تتراكم في نفسه.
هجرة يوحنا إلى فلسطين
يذكر نجيب عوض في المسيحية الأموية سلسلة من الأحداث التي دفعت يوحنا إلى الاستقالة من البلاط الأموي والانزواء في دير مار سابا، في سبيل خدمة المسيحية والدفاع عنها. سأكتفي بذكر بعضها اختصارًا.
تولى الوليد بن عبد الملك الخلافة بعد أبيه، وفي عهده بلغت حدود الدولة أقصى اتساعها. وفي عهده أيضًا قرر تحويل كاتدرائية يوحنا المعمدان إلى المسجد الأموي، غير آبه باعتراضات المسيحيين، حسبما ورد في موجز دائرة المعارف الإسلامية: "فالأخبار التى لدينا تفيد أن معاوية بن أبى سفيان وعبد الملك بن مروان قد تفاوضا مع نصارى دمشق -دون جدوى- ليتنازلوا عن الباسيليقا ليحولها المسلمون إلى مسجد، لكن الوليد بن عبد الملك قرر مصادرتها، وصادرها بالفعل دون أن يضيع وقتا فى أية مفاوضات".
وفي عهد يزيد بن عبد الملك، صدر عام 721م أمر بكسر جميع الصلبان في كل الأماكن العامة، وإزالة الصور والأيقونات من أماكن العبادة.
تذكر المصادر البيزنطية أن ساحرًا يهوديًا يدعى بصير نصح يزيد بأنه إذا تخلص من الأيقونات، فسوف يعمّر سنوات مديدة. ولكن قد يكون للمشاركة في الصلاة بالكنائس بين المسلمين والمسيحيين دور في مثل هذا القرار. وهو القرار الذي ألغاه خليفته، هشام بن عبد الملك ليوقف هذا التدخل في أماكن عبادة المسيحيين.
حسم يوحنا أمره، وقرر الاستقالة من البلاط الأموي في بداية عهد هشام بن عبد الملك (724م)، متخليًا عن حياته المرفهة، ليدخل حياة الرهبنة بدير مار سابا قرب القدس، ويشرع في تأليف الكتب دفاعا عن إيمانه المسيحي. فقد عكف على الرد على كل من المانوية والنساطرة واليعاقبة وكذلك على بدعة تحطيم الأيقونات التي فرضها الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث.
وبعد سنوات، عندما تولى الوليد الثاني الخلافة بعد هشام، بلغ يوحنا خبرًا أزعجه جدا. فقد تعرض بطرس، أسقف دمشق وصديقه المقرب، إلى التعذيب بقطع لسانه والنفي إلى اليمن، حيث مات هناك، بأمر الخليفة. وذلك لأنه خطب في الساحات العامة وهاجم عقائد المسلمين.
قد تكون هذه الحادثة هي التي أوقدت الشرارة عند يوحنا ليشرع في تأليف كتاب في انتقاد العرب وعقيدتهم بأسلوب مليء بالسخرية والتصغير، وضمنه بعض الحجج التي يمكن للمسيحي أن يستخدمها ليدافع عن عقيدته في جداله مع المسلمين.
الهرطقة المئة
اعتمد يوحنا في كتابته عن الإسلام على ما علق بذاكرته من آيات سمعها من المسلمين خلال نقاشاتهم مع المسيحيين. ويبدو أنه لم يقرأ مباشرة من القرأن لأنه، حسب بعض من ترجم كتابه من اليونانية، أخطأ في أسماء السور، فذكر: سورة الثور الصغير (البقرة)، وسورة المرأة (النساء)، وادعى وجود سورة باسم ناقة الله. ثم ضمّنه ذكر بعض القصص عن حياة النبي وعلاقته بزوجة زيد في محاولة للتقليل من مكانة ناقل هذه العقائد. لكنه تناول مسألتين كانتا ذات أهمية في ذلك الوقت بين الأوساط الإسلامية، مثل مسألة خلق القرآن ومسألة القدر.
إحدى محاولاته للتقليل من العقائد الإسلامية، كان إطلاقه على العرب اسم: إسماعيليين. وهي تسمية تحمل دلالات عنصرية وسلبية في التراث المسيحي. كما ركّز على الإشارة إلى ورود ذكر الجمل (أو الناقة)، وهو الحيوان الذي عادة ما يُستخدم لربط العرب بصورة نمطية سلبية تهدف إلى الانتقاص منهم. وما تزال هذه الممارسة مستمرة حتى اليوم.
لكن يتساءل نجيب عوض في ما إذا كان تسخيف المسيحيين من الجمال هو أسلوبهم لمواجهة تقليل المسلمين من المسيح الذي ركب الحمار: "ركوب المسيح للحمار اعتبر من المسلمين دليلا على قيمته النبوية الدنيا والثانوية بعيون الإله. في النهاية، بالنسبة إلى هؤلاء المسلمين، ظهر التفوق النبوي لقائدهم، محمد، بركوبه الجمل، وهو شيء لم يمنحه الله إطلاقًا لنبي المسيحيين. لم يركب المسيح حتى حصانًا".
هل أثّر يوحنا الدمشقي في نشأة وتطور علم الكلام الإسلامي؟
يبالغ البعض في جعل كتابات يوحنا هي بداية علم الكلام الإسلامي، وذلك لأن المسائل التي ناقشها كانت متداولة ومشهورة قبل كتابه.
فالحسن البصري له رسالة في القدر أرسلها لعبد الملك بن مروان. وأما في ما يتعلق بخلق القرآن، فيوحنا ذكر في كتابه أن القائلين بهذا القول من المسلمين يخشون على أنفسهم من الاتهام بالبدعة. فهذه المسائل كانت متداولة في الشام والعراق آنذاك.
لكن دانييل سحاس يلفت انتباهنا إلى أن مؤلفات يوحنا، رغم كونها مكتوبة باليونانية، إلا أنها كانت مقروءة عند علماء الإسلام، فيذكر أن أبو الحسن الأشعري سار في تقسيمه وتخطيطه لكتابه مقالات الإسلاميين بنفس ما سار عليه يوحنا في كتابه ينبوع المعرفة: "إلى ثلاثة أقسام بترويسات متطابقة تقريبًا، ومناقشة بترتيب مختلف".