موراكامي في طور التكوين: أول روايتين
بقلم: لوري پي
ترجمة: علي الصباح
في مقدمة أول روايتين له, واللتان صدرتا لأول مرة بترجمة إنگليزية جيدة, عَدّ هاروكي موراكامي رواية "مطاردة خروف بري" التي كتبها بعدهما مباشرة بأنها "البداية الحقيقية لمهنتي كروائي". "استمع لغناء الريح" (1979) و"لعبة الكرة والدبابيس, 1973" (1980) كانتا بمثابة روايات تدريببة, كفترة تمرين, والأرضية التي مهدت لبدايته الحقيقية. ينظر موراكامي إليهما بكونهما "لا بديل عنهما" مع ذلك يرى بأنه لو استمر في الكتابة على ذلك المنوال فإنه, حسب تعبيره, "سرعان ما سأصطدم بحائط". ينظر إلى تلكما الروايتين "بحب ممزوج بشيء من الخجل"; كانتا ضروريتان ليصير كاتبا, مع ذلك, لو لم يتجاوزهما لما استطاع أن يستمر في الكتابة.
كلتا الروايتين تتمحوران حول نفس الراوي\البطل المجهول وصاحبه, الشهير بالجرذ. كلاهما, الراوي والجرذ, يريدان الكتابة: الراوي أنتج الكتابان الصغيران اللذان بحوزتنا, والجرذ, الذي بدأ "ظاهريا غريبا عن الكتب", تمخض فيما بعد بعدة روايات. فإذن روايتي "الريح" و"لعبة الدبابيس" هما كتب حول محاولة الكتابة. الجذاب في تلكما الروايتين للقارئ الذي اطلع على أعمال موراكامي اللاحقة هو إمكانية ملاحظة التطور التدريجي لهذا الكاتب العالمي باتجاه "بدايته الحقيقية".
بعد أن أصدر موراكامي "الغابة النرويجية" عام 1987 صار نجما أدبيا -نتيجة لم يكن يتوقعها- وشعبيته الواسعة لم تخبو منذ ذلك الحين. قد يرى قراءه من خارج اليابان أن أعماله يابانية بعمق, إلا أن المؤسسات الثقافية اليابانية لها رأي آخر; فكتاباته تحتل فضاءً ثقافيا خاصا به هو وحده. تأخذ حيزا في عالم تسوده الوحدة مع أمل بإمكانية الحب رغم كل شيء. أحداث ساحرة وغير مفهومة تحدث لأشخاص عاديون جدا مما يؤدي إلى عمليات من البحث واختبارات كثيرة تنتهي بلا إجابات. كل وجود فردي هو كيان مستقل بحد ذاته يحتاج إلى إعادة تأكيد مستمرة من خلال القصة التي يحدّث بها نفسه, وأكبر خطر هو احتمالية تعرّض الراوي الشخصي للخسارة بحيث يصير فارغا تماما من الداخل. لعلّ هذا الجانب من رؤية موراكامي هو الذي يجد له صدى واسعا اليوم, حين تملأ الصور المُتلاعب بها الشاشات في كل مكان والتي لا تغزو فقط الحياة الداخلية بل كذلك تهدد باستبدالها. بغض النظر عن السبب الرئيس لشعبية موراكامي, فكتبه تُرجمت إلى 40 لغة وقد يكون هو أكثر الكتاب انتشارا ممن لا يكتبون بالإنگليزية.
الراوي المجهول في أول روايتين لموراكامي هو كاتب هاوٍ متأثر جدا بشخص يدعى ديريك هارتفيلد. هارتفيلد, الذي من المفترض أن يكون معاصرا لهيمنغواي وفيتزگيرالد, فشل فشلا ذريعا حين أنتج كما هائلا من الأدب العقيم, "عقيم بكل ما في الكلمة من معنى", ثم انتحر بالقفز من أعلى مبنى امباير ستيت, "ممسكا برسمة لأدولف هتلر في يده اليمنى وبيده اليسرى يقبض على شمسية مفتوحة". يصعب تخيل قدوة أسوأ من هذه لأي كاتب, إلا أن الراوي يقول بأنه تعلم تقريبا كل شيء من هارتفيلد, والذي يُصوّر الكتابة الجيدة على أنها: "الكتابة في الواقع هي الفعل الذي من خلاله نوثّق المسافة بيننا وبين الأشياء من حولنا. ما نحتاج إليه ليس إحساسا مرهفًا وإنما أداة للقياس."
هناك بلا شك مسافة شاسعة بين الراوي والعالم المحيط به. مثل سائر كتابات موراكامي, هذه العزلة أو المسافة ممزوجة بالواقع; إنها حالتنا الإدراكية والمعرفية كبشر:
"هوة تفصل بين ما نسعى لإدراكه وما يمكننا إدراكه. عميقة لدرجة لا يمكننا قياسها مهما طالت أداة القياس. الذي يمكنني تدوينه هنا مجرد قائمة. لن يكون رواية أو حتى أدبا, ولا هو فن كذلك. هو مجرد دفتر عليه خط بالمنتصف, قد يحتوي على قيمة أخلاقية."
الراوي يعيش في حجيرة خاصة معزولة ولا يتواصل إلا مع شخصين أو ثلاثة: صديقه الجرذ, وجي مالك حانته المفضلة, وربما بشكل مؤقت جدا, الفتاة ذات الأصابع التسعة والتي كادت أن تصبح حبيبته قبل اختفائها من حياته إلى الأبد.
الآن وقد صار موراكامي روائيا بارزا لعقود, يبدو تنصله من أعماله الأدبية الأولى أشبه بشكوك كاتب مبتدئ عنها من أن تكون إعلانا للاستقلالية." قد لا أنتج ما تتوقعه مني, وذلك الصنف من الكتابة قد لا يكون ممكنا بعد الآن, لكنني على أية حال أكتب, ولديّ شيء أريد قوله". يقرر البطل بعناد; هو معجب بكون ديريك هارتفيلد "محارب", وبحجم الخيبة التي تعتريه, هناك بلا شك بقايا لمعركة في داخله أيضا. يحتاج إلى تلك الحرب لينجو من فعل الكتابة, والتي عدّها بأنها "نشاط ضار بالصحة". في كتابه "عمَّ أتحدث حين أتحدث عن الجري" والذي كان عبارة سلسلة مقالات حول جوانب من سيرته الذاتية المتعلقة بهوسه الصحي البدني والذهني, يعبر عن ذلك بقوله:
"حين نشرع بكتابة رواية أو نستخدم الكتابة لنخلق قصة, سيؤدي ذلك إلى طفو سموم غائرة عميقا في النفس البشرية, سواء أعجبنا ذلك أم لا. يجب على جميع الكتاب أن يواجهوا هذه السموم وجها لوجه, وأن يكونوا واعين بالخطر المحدق بهم منها, وأن يجدوا وسيلة للتعامل معها, لأن بدون ذلك لن يكون ممكنا لأي نشاط إبداعي أن يتحقق."
شبّه الكتابة بمعضلة أكل سمك الينفوخ, حيث يكون "أشهى جزء هو الجزء القريب من السم" يستمر موراكامي في شرحه بأن "أولئك الذين يسعون إلى مهنة كتابة طويلة الأمد عليهم أن يطوروا نظام مناعة خاص بهم يمكنه أن يقاوم مخاطر السموم (في بعض الأحيان مميتة) الكامنة فينا."
موراكامي لا يسمي لنا أبدا هذه السموم في كتابه. يترك السؤال عائما: ما هذه القوة العصيّة على التغيير والتي لها القدرة على الفتك, تلك القوة التي لا يرى مهربًا من مواجهتها؟ حسب روايتيّ "الريح" و"لعبة الكرة والدبابيس" هي بلاشك: الإحباط. هذا السطر الأول من رواية موراكامي الأولى: "ليس ثمة كتابة تامّة. كما أنه ليس ثمة شيء كالإحباط التامّ." فمنذ البداية تتضح الموازاة بينهما; ما يصح على أحدهما يجب أن يصح على الآخر. وجود أو عدم وجود الإحباط في تلكما الروايتين يُلوّن الحبكة, حيث ينهمك مجموعة من الفتيان الضائعين والمُبعَدين بالتفكير لإيجاد وسيلة للهرب من حياتهم الجامدة. احتوت روايات موراكامي اللاحقة على قدر أكبر من التصعيد وحبكة أكثر تعقيدا; المساعي الخطرة التي سيّرت الأحداث في "وقائع نهاية الطائر" و"1Q84" لا تحمل أي انعكاس للاجترار العبثي للأفكار كما في "استمع لغناء الريح". الشخصيات البارزة في رواياته التالية غير منغمسين بالسلبية التي نراها في "الريح" و"لعبة الدبابيس والكرة". بقدر الجبرية التي قد استحوذت عليهم كما استحوذت على الأبطال اللاحقين, إلا أنهم لا يزالون يتخذون القرارات, لعلمهم بأن ما يقدمون عليه قد يكون مسألة حياة أو موت. قريبا من نهاية رواية "مطاردة خروف بري", حتى الجرذ نفسه يتخذ قرارا بطوليا, إلا أنه في الروايات السابقة كان يصر على عبثية الحياة وعدم قبول إمكانية السعادة. على سبيل المثال, في رواية "لعبة كرة الدبابيس" يقع في حب امرأة إلا أنه يتركها بشكل متعمد, رغم كل الألم الذي صاحب ذلك لكليهما. حين يتشجع الراوي باقتراح أنه "يمكنك أن تحاول أن تكون أقوى, حتى ولو بشكل يسير", يجاوبه الجرذ:
"بكل صراحة, هل تؤمن بما تقول؟"
"نعم بالطبع"
يُطيل الجرذ نظره في كأسه ثم يقول بكل جدية, "افعل لي معروفا وقل لي أنك تكذب".
قريبا من نهاية "لعبة كرة الدبابيس", وقبل أن يغادر المدينة للأبد, يُجري الجرذ حوارا مع جي مالك الحانة, وهو أقرب ما يكون للرجل الحكيم وكاهن الاعتراف.
"انت تعرف يا جي أن الجميع سيتعفن, صح؟"
"نعم"
"وهناك طرق عدة للتعفن.. فإليك إذن خلاصتي. مهما كانت التغييرات التي يمرون خلالها, أو النمو الذي يقومون به فكل ذلك ليس إلا خطوة في طريق الاضمحلال."
لا تبدو الحياة طيبة للراوي حينما يكون في أسوأ حالاته. "وجهي وروحي ليسا إلا قواقع فارغة من الحياة, ليسا ذوي قيمة عند أي أحد." تنتهي رواية "استمع لغناء الريح" بانتحار ديريك هارتفيلد مع نقش مقولة لنيتشه على شاهد قبره -"كيف لأولئك الذين يعيشون في نور النهار أن يدركوا عمق الليل؟"- قد تكون هذه هي القيمة الأخلاقية التي وعدنا الراوي بأن "دفتره" سيحويها.
لن يكون غريبا بأن على المرء أن يكون محاربا ليستمر في الكتابة ليواجه إحباطا بهذا العمق. ليس غريبا كذلك شعور موراكامي بأنه لو استمر بالكتابة بهذه الطريقة فإنه سيصل إلى نهاية مسدودة. "استمع لغناء الريح" لا تذهب لأي مكان سوى الدوران حول نفس اليأس: بالرغم من وجود حبكة بسيطة لكنها تظل عبارة عن نص مليء بالمشاعر, والركود يمكنه أن يأخذ فقط الكاتب والقارئ بعيدا. "لعبة كرة الدبابيس, ١٩٧٣" تحتوي إلى حد ما على قصة تتقدم أكثر إلى الأمام: سعي الراوي ليلعب في آلته المفضلة للعبة كرة الدبابيس, و"سفينة الفضاء ثلاثية الزعانف" التي حطت في أحد المرات داخل حانة جي. وجدها بشكل ملغز داخل مستودع تبريد لحفظ الدجاج, لكنه لا يقوم بتشغيلها. عوضا عن ذلك, يتحدث "معها" عن الأيام الخوالي, كما لو كانا عاشقين سابقين:
تقول له "يبدو الأمر غريبا, كأنه لم يحدث."
"أوه, لقد حدث فعلا. لكنه الآن انتهى."
"هل يجعلك هذا حزينا؟"
أومأتُ برأسي: "لا. هناك شيء ما جاء من لاشيء, والآن عاد من حيث أتى, هذا كل ما في الأمر."
تنتهي الرواية بما يبدو أن ركود الراوي قد عاد; التطويق استمر. القرار الحاسم الوحيد الذي اتخذه الجرذ بعد أن هجر المدينة للأبد. قراره بالرحيل, كما أشار عليه جي, يشير إلى أنه لا يزال يرى أهمية إحداث تغيير. إحباطه ليس شاملا كما ادعى. كذلك موراكامي كان يجب عليه أن يرحل عن عالم هذين الكتابين. كان يجب عليه أن يغادرهما مغادرة فنيّة حاسمة ليستطيع الاستمرار بالكتابة, ويمكننا أن نلقي نظرة خاطفة على ما احتاج أن يخلفه وراءه.
يقول الراوي, في أحد محطات "استمع لغناء الريح":
"في وقت ما, كان الجميع يريد أن يبدو هادئًا.
قررتُ عند نهاية المرحلة الثانوية أن لا أُظهر سوى نصف ما يعتريني من مشاعر. لا أذكر السبب الرئيس وراء ذلك, ولكن هذا كان سلوكي لعدة سنوات تالية. إلى أن وصلتُ لمرحلة وجدت فيها نفسي كإنسان غير قادر على التعبير بأكثر من نصف ما يشعر به.
لا أعرف ما علاقة هذا بكون المرء هادئًا. لكن إذا أمكننا أن نَعُدّ ثلاجة يذوب فيها الثلج طوال السنة بأنها هادئة, فهذا إذن ما كنته.
لذلك استمرُ بهذه الكتابة…"
هل "لذلك" تعني أن كتابته تلك كانت محاولة ليتوقف عن أن يكون هادئا, وليتمكن من التعبير بأكثر من نصف ما يعتريه من مشاعر؟ يبدو كذلك. إلا أن في رواية "الريح" هي لم تأتي عابرة. الفقرة الخاصة حول كونه هادئًا أنشأت سياقا لما قاله الجرذ قبل أن يرحل نهائيا من حانة جي:
"انظر يا جي, الأمر ليس هكذا, تظاهُر الجميع بأنهم متوافقون بلا استفهام أو نقاش حول الأشياء -لا يوصل أي أحد لأي مكان. أكره أن أقول هذا, لكن… أشعر كما لو أنني أمضيتُ وقتًا أطول بكثير مما يجب داخل عالم من ذلك النوع."
ما تفوه به الجرذ داخل عالم القصة هو مسألة وجودية: الطفولة يجب أن تنتهي يوما ما. لكن من القراءة الحديثة, يبدو مغريا أن ننظر إلى هذا الوداع من موراكامي لكتابة تلك النوعية من الروايات بأنها رسالة لنفسه بأن الوقت قد حان بأن يلقي بكلِّه وأن يقول كل شيء يعنيه. في كتابه "عمَّ أتحدث حين أتحدث عن الجري", ذكر بأنه حين كتب رواية "مطاردة خروف بري", "تبدى لي الأمر بأنه إما أن أكون أو لا أكون, لذا وضعت كل ما لدي فيها." ربما هنا في "لعبة الكرة والدبابيس" كان هذا التصور قيد التنفيذ.
لن يستغرب أي مُطَّلِع على أعمال موراكامي استخدام النساء كثيرا في المجازات. يحدد فقدان حبيبة أو زوجة مسار القصة مرارا ومرارا. تفتح النساء للأبطال أبواب عوالم ملغزة من "الجانب الآخر" حيث تحدث الأمور الحاسمة. يقطعن سلبية الأبطال ويجسدن إمكانية الاتصال والأمل في عالم, لولاهن, سيكون منعزلا.
في رواية "استمع لغناء الريح", المعاناة التي واجهتها المرأة لتعبر عن ما يهمها بشدة هي من حددت المسار الذي سلكه الراوي -ووكذلك فن موراكامي- في رواية "مطاردة خروف بري". تلك المرأة هي الفتاة ذات التسعة أصابع; علاقة الراوي المتعثرة والمبهمة معها دفعت حبكة الرواية. اعترفت له بصعوبة, بعد عدة كذبات وتمويهات, بأنها تسمع أصواتا تحدثها بأشياء فظيعة, وبأنها أجهضت نفسها مؤخرا. ليس ما يحتويه هذا الإلهام هو ما يهم; لكن القصة تَعْلَق عند مدى الصعوبة التي تواجهها للتعبير عن حقيقة ما تعنيه. صعوبة التعبير الحقيقي هي التحدي الأساسي الذي واجهته الروايات الأولى.
البطل المجهول في أول روايتين هو نفسه الراوي في "مطاردة خروف بري", هذه الرواية التي وجد موراكامي فيها طريقه التي سار عليها منذ ذلك الحين. تبدأ بجنازة امرأة كانت صديقته وأحيانا تشاركه السرير, وكان عمره ٢١ سنة (نفس العمر الذي كان عليه في "استمع لغناء الريح"). في هذه الرواية, كما في سابقتيها, يجد الراوي نفسه "عالقا, غير قادر على المضي خطوة واحدة في أي اتجاه". وحين تحاول صديقته أن تدفعه ليصرح بما يعتريه وتسأله عن ما يشغل ذهنه, يجيب الراوي: "ليس اليوم, لدي مشكلة في الحديث."
من خلال قراءة أولية لـ "مطاردة خروف بري" بدون الأخذ بعين الاعتبار الروايتين السابقتين, قد نصدقه حين يقول أن ما يعانيه هو تحدٍ مؤقت. لكن بعد قراءة "الريح" و"لعبة كرة الدبابيس" لا يمكننا أن نقبل كلامه على ظاهره. هذه المعاناة ليست مختزلة في فترة عابرة, بل هي مزمنة. كان جواب صديقته, "أنت غير قادر على حمل نفسك لقول ما تريد حقا أن تقوله, أليس هذا ما تقصده؟" هنا أُسُّ المشكلة, ذات العجز كان قد خلَّفه الجرذ وراءه حين غادر المدينة. تجاوز هذا العجز في الكلام هو الذي جعل من "مطاردة خروف بري" بداية حقيقية.
في الفصول الأولى من "مطاردة خروف بري", يتجلى "الجهاز المناعي" لموراكامي القادر بقوة كافية على دفع السموم على صورة امرأة تمتلك أذنان جميلتان جدا. حين يدعوها البطل إلى العشاء في مطعم راقٍ لأنه يريد رؤية أذنيها, تجيبه, "حدثني وجها لوجه, لأنها زاويتي المفضلة". كيفية التعبير هي المشكلة. تعرض تشخيصها: "يبدو أنك تحتاج المزيد من التعلم عن وسائل التعبير عن المشاعر." هي بلا شك قادرة على التعبير عن مشاعرها; تخبره بأن عليهما أن يكونا "صديقين حميمين جدا". ثم تضيف, "أمر آخر, في الوقت الحالي -لنقول خلال الأشهر القليلة القادمة- لا تتركني. موافق؟"
هذه امرأة تعرف ما تريد ويمكنها التعبير عن ذلك بوضوح. هي قطعا غير عالقة الإحباط, وأحد مهامها في الرواية دفع الراوي ليتجاوز عجزه.
"... أنت أفضل بكثير مما تظن."
قلت متحيّرا "لماذا تراودني هذه الأفكار إذن؟"
أجابت بحيوية "لأنك تعيش نصف حياة, النصف الآخر لا يزال في مكان ما غير مُستَغَل."
هذه المرأة معاونة ماهرة ليس فقط للراوي بل لموراكامي نفسه كروائي. أخذت بيد بطل الروايتين السابقتين لتعلمه كيف يعبر عن ما يقصده بالتحديد, كيف يعبر عن مشاعره. مهمتها الظاهرة في القصة هي أن تعلم حبيبها كيف يصل إلى الأجزاء الغير مستغلة من ذاته. لكن ضمنيا, يمكننا أن نشك بأنها ليست إلا خيال موراكامي يدفعه لحالة "أكون أو لا أكون", إيجاد الشجاعة اللازمة للاعتقاد بأن التواصل الأكمل ممكن, وأن الإنعزال يمكن كسره ولو بعد حين. ويبدو أن هناك بعدًا جنسيا لهذا التحول الفني; فـ "الريح" و"لعبة كرة الدبابيس" تخلوان من أي مشاهد جنسية كاملة, بينما في "الغابة النرويجية" والروايات اللاحقة نجد أن الجنس يُعرض بانفتاح, وفي الواقع, لحظة بلحظة. لعل موراكامي كان يحتاج أن يطلق المارد من القمقم قبل أن يتمكن من استظهار قواه الحقيقية كروائي.
بالرغم من أن المسار الذي اتخذته روايات موراكامي اللاحقة على "مطاردة خروف بري" لم تكن خطيّة, إلا أنها سارت في اتجاه كانت الشخصيات تمتلك خلاله القدرة على التعبير أكثر وأكثر. أصدق مثال على ذلك في "الغابة النرويجية", حيث الشخصيات -بشكل عام النساء التي يقع البطل في حبهن- يعبِّرن عن مشاعرهن بدقة شديدة تجعل من الحوار وكأنه حاد جدا ومفسر لذاته. هذا الصدق في الرواية شكل بداية الانطلاقة, حتى غدت هذه المفارقة من الوعي الذاتي طاغية ثقافيا.
مهما يمكن أن يُقال عن تلك الرواية الشهيرة, إنها تنقل رسالة غير قابلة للدحض بأن هناك أشياء أهم في الكتابة الناجحة من أن يحاول المرء بأن يكون هادئا. الدوران حول كوكب الإحباط الأسود ليس الخيار الوحيد; إنه ليس كذبا بأن "يمكنك أن تجعل من نفسك أقوى, ولو حتى قليلا". في "استمع لغناء الريح" و"لعبة كرة الدبابيس,١٩٧٣", كان موراكامي مثل شخصية الجرذ, قد ودّع عالم المشاعر النصف معبر عنها. استطاع أن يقيس بنجاح المسافة -بينه وبين قُرّاءه, بين القلوب الإنسانية, بين ما نعرفه وما لن نتمكن من معرفته- وقرر, بالرغم من الصعاب, أن يقفز بعيدا عنها.