ما الذي يمكنك فعله حين لا تشعر بالانتماء؟




Photo: Martha Paquin | For The Telegraph


ما الّذي يُمكنك فعله حين لا تشعر بالانتماء؟ - ستيفاني زَمورا
ترجمة: علي الصباح


لطالما شعرتُ بالاختلاف، كما لو كنتُ قد ولدت في الحقبة الخطأ، أو ربما في الكوكب الخطأ. لا أشعر أني مناسبة لأي مكان أو لأي أحد. قد لا تلحظ ذلك حين تقضي بعض الوقت معي؛ ولكنها الحقيقة!

حين كنتُ صغيرة، كانت لدي مقدرة جيدة على التظاهر بالانسجام. أتحدث عن موضوعاتٍ لا أكترث لها، أمارس أشياء لا أستمتع بها بالضرورة، وأجعل من نفسي تبدو (طبيعية) حين أكون في الواقع أي شيء خلاف ذلك. بينما كنت أكبر، تعلمت أن أتقبل أكثر الأشياء الّتي تجعلني فريدة ومختلفة، وتعلمتُ كيف أكون نفسي على وجهٍ أكبر وأعيش في مساحة من الحقيقة والأصالة إلى جانب أيّ شخصٍ آخر.

نعم؛ مع كل الجهود الّتي أبذلها إلا أنه ثمّة لحظات يستهلكني فيها الشعور بعدم الانتماء لأيّ مكان أو لأي أحد. يحدث عشوائيًّا، غالبًا حين أكون مع مجموعة أشخاص، سواء عائلة أو أصدقاء، يقضون وقتًا طيبًا. يكون ثمّة محادثة وضحك، وقد أكون مستمتعة… حتى يتوقف ذلك الشعور بغتة؛ لأنني أدرك الحقيقة تمامًا: أنا غير منسجمة هنا.

أحيانًا، يكون الأمر أني لا أكترث للموضوع المطروح.
أحيانًا، لا أشعر بالانسجام مع الأشخاص المحيطين بي.
أحيانًا، أشعر أنني –أنا- غريبة الأطوار في المجموعة.

في الغالب يكون الأمر أنني أدرك أنني لا أعيش الحياة بالاتساق الكامل مع حقيقتي؛ لأنني لو فعلت ذلك لكنت في مكانٍ آخر، أخوض محادثة مختلفة، مع مجموعةٍ من الأشخاص المختلفين، وسوف أبدو كما أنا على وجه كامل وتام.

فعلت أشياء عديدة قبل سنوات لأنظم حياتي وعلاقاتي وعملي مع مشاعري وأهدافي الحقيقية. مررت بتحولات كبرى، وخضت نقاشات صعبة، ودفعت نفسي بطرق أجهدتني حدّ البكاء. اتسقت، وذرفت، ونضجت، وتغيّرت، وابتكرت، وتخلّيت، وشُفيت، وصُقلت. فعلت أشياء كثيرة.

حين تمر بإحدى تلك اللحظات؛ مع حقيقة كوني أتوقف عن التنفس وأشعر أن العالم خانقٌ، ومعزولٌ، وغريبٌ على نحو قاهر… أشعر بالامتنان. امتنان للصّفعات اللانهائيّة الّتي تقربني أكثر إلى حقيقتي وإلى ذاتي الكاملة. صفعاتٌ تقول لي: «يا حبيبتي، هذا لا يلائمك. لا تنتمين إلى هنا. هذه ليست أنتِ». صفعاتٌ تحثّني على اتّخاذ تغييرات، وإن كانت بطيئة لكنها راسخة، بدأت بالظّهور ظهورًا كاملًا وتامًّا في حياتي.



ما الّذي يُمكنك فعله حين لا تشعر بالانتماء؟

1) كن لطيفًا مع نفسك.
لست وحدك من يواجه هذه المشاعر، بغض النظر عمّا تُشعرك به من شدّة وتكرار أو فرادة. أذكر أني حضرت مؤتمرًا في الربيع الماضي حين سأل المتحدث الجمهور: «من هنا يشعر بعدم الانتماء؟». أكثر من نصف الحضور رفعوا أيديهم. لست وحدك من يشعر بعدم الانتماء، ثمّة أطنان مثلنا؛ لذلك أولًا وقبل كل شيء: كن لطيفًا مع نفسك؛ لأنك حتى لو كنت الشخص الوحيد في العالم الّذي -فعلًا وحقًّا وقطعًا- ليس لديه مكان فيه، فستظل عالقًا مع نفسك. حب نفسك واقبلها على وجهٍ كامل، حتى لو بدى لك أنّ لا أحد يمكنه فعل ذلك.

2) توقف عن المحاولة، وعوضًا عن ذلك انتبه إلى ما يجعلك مختلفًا.
واحدة من أكثر الأخطاء شيوعًا الّتي نقترفها حين نشعر بعدم الانتماء هي: أن نحاول أن ننسجم. إذا شعرت كما لو أنك لا تنتمي فثمّة احتمال كبير أنك لا تنتمي، وهذا ليس بالأمر السّيء! أرعي انتباهك إلى الشيء الّذي ولّد فيك هذا الشعور. ألأنك لا تكترث إلى الأمور الّتي يمارسها غيرك؟ ألأنك تقضي وقتًا مع أشخاص هم على النقيض منك؟ ألأنك لا تستمتع بما تفعله الآن؟ عدم الانسجام لا يعني وجود أي خطأ فيك أو فيمن حولك، إنه يعني أنك مختلف فحسب. استغلها كفرصة لاكتشاف ما يلزمك تغييره لتشعر بالانسجام. هذا لا يعني تغيير نفسك أو إجبارها على أن تكون أي شيء خلاف ما أنت عليه، إنه يعني: النّظر بنظرة صادقة إلى الموقف.
ربما تكون بحاجة إلى مجموعة أصدقاء جدد أو أن تقضي وقتًا أقل مع عائلتك. ربما أنت لا تواعد الشخص المناسب. ربما تفضّل أن تكون في نشاط ثقافي عوضًا عن الخروج للشرب. مهما يكن، ضعه في الاعتبار وافعل ما يلزم لتحقيق اتساق أكبر في حياتك وعملك وعلاقاتك.

3) تقبّل حقيقة من تكون.
إليك حقيقة غيّرت حياتي حين تعلمتها: لا أشعر أني منسجم ولا يجب عليّ أن أشعر بذلك. لست هنا لأنسجم، وهذا حسن. أنا هنا لأكون ذاتي البديعة والفريدة، وأنت أيضًا. ما يجعلك مختلفًا هو بالتحديد من تكون، وليس الشخص (المنسجم) مع كل أحد. قد لا تكون الشخص الّذي يسهر مع أصدقائه إلى وقتٍ متأخر في الخارج. عوضًا عن ذلك قد تكون في المنزل تدرس موضوعًا يبهجك. قد لا تكون الشخص الّذي يتواصل بمتابعة الرياضة أو الحديث عن المشاهير. عوضًا عن ذلك قد تكون الشخص الّذي يناقش السياسة ويصر على ما يؤمن به. اقبل ذلك! هذا ما أنت هنا لتكونه وهو كامل وجميل ومهم لهذا العالم. كلّما سارعت في تقبل حقيقة من تكون، ستعرف أسرع أين تكون مناسبًا، وسوف يغمرك الشعور بمزيدٍ من السرور والامتلاء من حياتك وعلاقاتك.

لذا أخبرني…
أين تُحاول أن (تنسجم) حين يكون لازمًا عليك أن تتقبّل ما يجعلك فريدًا ومختلفًا؟ أين تنعّم حوافك، تمارس وتتحدث عن أشياء أنت لا تستمع بها، أو تقلص نفسك لتحلق تحت الرادار؟ أين تحتاج أن تغيّر أو تحوّل أو تُوجد اتّساقًا أكبر في حياتك وعلاقاتك؟




ما وراء الطعام عند هاروكي موراكامي



ما وراء الطعام عند هاروكي موراكامي - إلاهيه نوزاري
ترجمة: علي الصباح


الممر مثل الشطيرة مُقحم بين نوعين مختلفين من المنازل التي تشكل توليفة شبيهة بالسوائل ذات الخصائص الجاذبية المختلفة. مبدئيًّا، هناك تلك المنازل الغابرة التي تمتلك أفنية كبيرة، ثم هناك المنازل الجديدة نوعًا ما. ليس في المنازل الجديدة أي أفنية تذكر. بعضها لا تملك أي مساحة للفناء. بقعة بالكاد تكون كافية لتعليق حبلين للغسيل ما بين حافة السقف البارز والممر الخارجي. في بعض المنازل تعلّق ملابس الغسيل على الممر الخارجي ما يدفع بي إلى الابتعاد بحذر عن الصفوف المليئة بالفوَّط والقمصان التي ما يزال الماء يقطر منها. أكون شديد القرب إلى درجة تمكنني من الاستماع إلى صوت التلفاز و(سيفون) المرحاض. يمكنني شم رائحة الكاري المنبعثة من المطبخ.
  • من قصة اختفاء الفيل

تُعرّض الكتابة عن الطعام إلى نقد قاسٍ باعتبارها سطحية وغير مهمة، وهذا غير عادل لأن الطعام شيء أساسي لوجودنا. خارج دائرة كتب وصفات الطبخ، ثمّة أدباء تناولوا جوانب الطعام الحسية والعاطفية، من (مارسل بروست) إلى (نورا إفرون)؛ إلّا أن أحدهم لم يتمكن من استغلالها نثريًّا مثلما فعل الروائي الياباني (هاروكي موراكامي). مُحبّو (موراكامي) لا يفوتون هذا الجانب، فثمّة بعض المدوّنات المخصصة للطعام الذي تحضّره شخصيات (موراكامي)، مثل ما الذي أتحدث عنه حين أتحدث عن الطبخ. يكتب (موراكامي) حبكات معقدة مع مستوى عالٍ جدًّا من الذكاء العاطفي؛ ولكن مهما كانت قصصه خيالية، تظل شخصياته قريبة من القارئ، ويوفر الطعام التوازن بين ما هو سريالي وما هو طبيعي. يمزج الطعام داخل قصصه بأسلوب ممل يلامس الأسباب العميقة المتعلقة بماذا؟ ولماذا؟ وكيف نأكل؟
المساحة المخصصة للطعام في روايات (موراكامي) غير اعتيادية. في رواية «رقص رقص رقص»، لا يمر يوم دون أن يتحدث السارد عن الطعام الذي تناوله. ليس للطعام أي علاقة بالحبكة؛ مع ذلك: يدور الكتاب حول رجل يبحث عن عاهرة وقع في حبها. يعرض (موراكامي) النظام الغذائي لبطل الرواية بابتذال ملحوظ. في أحد المشاهد، يقطن البطل في فندق ويصرّح بأنه سئم من فطور الفندق، فذهب إلى (دنكن دونتس) وحصل على اثنتين من فطائر (المفن). «يمكن أن تسأم من فطور الفندق في أحد الأيام. يكون دنكن دونتس هو الخيار المناسب. إنه رخيص وتحصل على إعادة ملئ للقهوة». يعيش هذا الرجل في الثمانينيّات في اليابان؛ ولكن هذه التفصيلة تجعله مباشرة مألوفًا وودودًا بوجهٍ أكبر.



«سواء عدَدْتَ الثقب في الدونت على أنه مساحة فارغة أو ككيان قائم بذاته فهذه تبقى مسألة ميتافيزيقية لا تؤثر في طعم الدونت بأي وجه». –روايةمطاردة خروف بري.




ما بعد الظلام هي رواية قصيرة تبدأ أحداثها في مطعم «دينيز» بالتحديد في الساعة 11:56 مساء. بعد صفحات قليلة نتعرف إلى (تاكاهاشي)، وهو طالب وعازف ترومبون يأتي إلى «دينيز» في وقت متأخر من الليل من أجل وجبة خفيفة من سلطة الدجاج والخبز المحمص. يشرع في حوار داخلي عن سلطة الدجاج في «دينيز»، ويشرح كيف مع أنه لا يطلب شيئًا غيرها؛ إلا أنه يظل يحدق في قائمة الطعام. «ألن يكون محزنًا أن تدخل إلى دينيز وتطلب سلطة دجاج دون النظر إلى قائمة الطعام؟ إنه يشبه إخبار العالم: أنا آتي إلى دينيز كل يوم لأني أحب سلطة الدجاج». الإدراك الذاتي عند (تاكاهاشي) لحبه لسلطة الدجاج -الذي سرعان ما تعلق عليه شخصية أخرى بأنه بسبب وجود إضافات كيميائية غريبة- يمكن تفهمه.
لدى (موراكامي)، الطريقة التي نتناول بها الطعام هي انعكاس لنا. في رواية «1Q84»، الأرملة هي سيدة سبعينية ثرية تتناول أطعمة من مكونات طبيعية ووجبات غداء فرنسية مثل: (هليون أبيض مغلي، وسلطة نيسواز، وبيض أومليت مع لحم السلطعون). تأكل كميات قليلة وتحتسي شايها «مثل جنية في أعماق الغابة ترتشف ندى الصباح الواهب للحياة». ينتابك الشعور عبر نظامها الغذائي وآداب مائدتها بأنها ليست فقط أصيلة ومهذبة؛ ولكن مستنيرة أيضًا. قابلها مع (أوشيكاوا). محامٍ دنيء تحول إلى محقق وتخلت عنه أسرته ولم يعد يملك أي حياة خارج نطاق مطاردة الآخرين تحت غطاء وظيفته. هو تافه كاره لذاته وهو يأكل بما يتناسب مع ذلك؛ في حين تتناول الأرملة الخضروات الطازجة، يتناول (أوشيكاوا) الأطعمة المعالجة مثل: (الخوخ المعلب، وكعك المربى الحلو)، ويمضي أيامًا دون تناول وجبة ساخنة. الأرملة تعامل جسدها كمعبد، (أوشيكاوا) يعامله كمكب نفايات. هي في سلام مع ذاتها، هو ليس كذلك.
(يوكي)، الفتاة ذات 13 سنة في رواية «رقص رقص رقص»، لديها نظام غذائي يشبه نظام (أوشيكاوا)؛ مع أنّ انتمائها الاجتماعي مختلف جدًّا عنه إلا أن ميلها إلى تناول الأطعمة الرديئة ينبعث من المشاعر نفسها لعدم تمتعها بما يكفي من حب. والديها أثرياء ومشهوران؛ ولكنهما منفصلان عن بعضهما بعضًا ومهملان لها. لم يكن لديها أي أصدقاء حتى التقت السارد، يكبرها بعشرين سنة، الذي صار رفيقًا أفلاطونيًّا لها ومربي. في أحد المشاهد، يتصل عليها ويسألها ما إذا كانت أكلت شيئًا صحيًّا. تقول يوكي: «لنرى. في البداية دجاج كنتاكي، ثم ماكدونالدز، ثم ديري كويين». كان يوجهها بعيدًا عن الوجبات السريعة. بعدئذٍ؛ أخذها إلى أحد المطاعم حيث يتناولون شطائر لحم البقر المشوي مع خبز القمح الكامل. يقول: «جعلتها تشرب كأسًا من الحليب المفيد أيضًا. كان اللحم ليّنًا وحيًّا مع الفجل. مشبعة جدًّا. تلك تسمى وجبة». أخذ السارد على عاتقه مهمة تغذيتها التي أهملها والداها، فغذاها حرفيًّا ومجازيًّا.
غالبًا ما يُظهر (موراكامي) شخصياته وهم يحضرون الوجبات ليعبر عن مدى استقلاليتهم. في رواية «رقص رقص رقص»، (خليل) والدة (يوكي) الشاعر ذو الذراع الواحدة الذي كان يقطع شطائر لحم الخنزير ببراعة ما دفع السارد أن يتعجب بصوت مسموع عن كيفية تقطيعه للشطائر بيد واحدة فحسب. في رواية «الغابة النرويجية»، ينظر (تورو) إلى (ميدوري) برهبة في أثناء تحضيرها الغداء على وجهٍ مسرحي «هنا تذوقت سمكة مسلوقة، وفي الثانية التي تلتها كانت عند لوح التقطيع، تك-تك-تك، ثم أخذت شيئًا من الثلاجة وكومته في وعاء، وقبل أن أستوعب ذلك كانت قد انتهت من غسل قدر انتهت من استخدامه». علّمت (ميدوري) نفسها الطبخ حين كانت في الصف الخامس لأن أمها لم تعتني بأمور المنزل. حين نقابلها، تكون يتيمة يُتمًا جوهريًّا: أمها ميتة، ووالدها يحتضر، وأختها الكبير مخطوبة. كانت تعتني بنفسها جيدًا مع أنّهم تخلّوا عنها.
طبخ الوجبات هو أكثر من مجرد دلالة على الاستقلالية، هو سلوك يضفي النظام على فوضى العالم الخارجي. في رواية «1Q84» دخلت الشخصيتان الرئيستان (تِنغو وأومامي)، دخولًا غير مدرك إلى عالم بائس حيث لا يملكون أي سلطة على حياتهم. في تلك اللحظة، يُراقبُ (أوشيكاوا) غريب الأطوار (تِنغو) لأنّهُ وجد نفسه متهمًا بالتزوير لأنّه كاتب خفي لأحد أكثر الكتب مبيعًا. النمط اليومي لعودته إلى المنزل والطبخ أتاح له أن ينظر من بعيد ويدرك ما الذي يحدث حوله. غالبًا ما يحضّر وجبات دقيقة مما يجده مُتاحًا في الثلاجة. يقول (موراكامي) إنّ الارتجال هو أفضل أنواع الطبخ لديه. في أحد المشاهد، يصنع (تِنغو) «أرز البيلاف مع لحم خنزير مملح ومشروم وأرز بني، وشوربة ميسو مع توفو وواكامي». الطبخ ليس عملًا روتينيًّا لدى (تِنغو). هو «يستخدمه كوقت للتفكير حول المشكلات اليومية، وحول المسائل الرياضية، وحول كتابته… يستطيع أن يفكر حين يقف في المطبخ ويحرك يديه بطريقة أكثر انتظامًا مقارنةً معه حين لا يكون يفعل شيئًا».

لا تحتاج لأن تذهب إلى طبيب نفسي لتعرف أن الطعام يمكن أن يهبك شعورًا بالراحة؛ ولكن لدى (موراكامي)، الراحة يمكن الحصول عليها بالتركيز الذهني الكامل أيضًا، الذي يأتي بتحضيره. في رواية «نهاية يوميات طائر»، فقد (تورو) وظيفته أخيرًا، وأنفق جلّ وقته يطبخ ويبحث عن قطته الضائعة. في بداية الكتاب، يرن الهاتف حينما كان يحضّر (السباجيتي) -الفصل الأول- وشطيرة طماطم بالجبنة -الفصل الثالث-، وحاول أن يقاوم الرد عليه لحين الانتهاء من تحضير طعامه. «تركت الهاتف يرن ثلاث مرات وقطعت الشطيرة إلى نصفين. ثم حملتها إلى صحن، مسحت السكين، ووضعتها في درج أدوات المائدة، قبل أن أصب لنفسي قدحًا من القهوة كنت قد سخنتها. ما يزال الهاتف يرن».  (تورو) واعٍ بكل خطوة غير مهمة في ذلك التسلسل، من طريق ترك الهاتف يستمر في الرنين، كان يحاول أن يحجب العالم الخارجي عن اقتحام روتين يومه.
يمكن لأي أكول شره أن يعترف، نحن نأكل لنملأ الفراغ أحيانًا. في القصة القصيرة «هجوم المخبز الثاني» استيقظ شخصان حديثي الزواج في منتصف الليل مع شعور لا يقاوم بالجوع. تزوجا لأسبوعين فحسب ولم يعتادا على بعضهما بعد: «علينا أن نؤسس لفهم زواجي دقيق مع الوضع في الاعتبار قواعد السلوك الغذائي. دع عنك أي شيء آخر». اختصارًا للقصة: بعد فشل البحث عن الطعام في مطبخهم، قادا سيارتهما إلى (ماكدونالدز) ليسرقا منه؛ ولكن عوضًا عن طلب المال، طلبوا ثلاثين (بيج ماك)! هو أكل ستة، وهي أكلت أربعة، وحالما تلاشى جوعهما، شعرا بالقرب من بعضهما بعضًا.
في رواية «كافكا على الشاطئ»، حين فر (كافكا) من بيته، نزل في فندق وكان يتناول فطورًا كبيرًا من التوست والحليب الساخن ولحم الخنزير المملح والبيض. إنها وجبة دافئة ومغذية وكفيلة بأن تشبعه؛ ولكنه لا يشعر بالشبع. بينما يبحث حوله عن وجبة ثانية، قاطعه الصوت الذي في رأسه «الفتى المسمى كرو»: «لن تعود إلى البيت، حيث تستطيع أن تملأ نفسك بما شئت… أنت هربت من المنزل، صح؟ فكّر بذلك. اعتدت على الاستيقاظ باكرًا وتناول وجبة فطور كبيرة؛ ولكن تلك الأيام انتهت، يا صديقي». كان للتو قد ترك حياة سهلة لكنها مليئة بالوحدة في بيت والده مع نية غير واضحة لأن «يسافر إلى مدينة بعيدة ويعيش في ركن في مكتبة صغيرة». اختار مكانًا عشوائيًّا: «شيكوكو، قررت. إلى هناك سوف أذهب. ليس ثمة سبب لأذهب إلى شيكوكو، فقط من قراءة الخريطة شعرت أنه يجب أن أذهب إلى هناك». سوف يصل إلى وجهته أو يدرك السبب اللاواعي وراء رغبته في ترك منزله؛ ولكن شعوره بالجوع النهم كان إشارة على مسار رحلته، وكأنه لا يستطيع أن يشعر بالشبع إلا إذا أحس بالأمان.
ثمّة فقرة في رواية «كافكا على الشاطئ» تروي أسطورة من كتاب «المأدبة: فلسفة الحب» لأفلاطون، بأنّ كل شخص مخلوق في البداية من شخصين، ثم فصلهما الله بعد ذلك ولهذا يظلان في حياتهما يبحثان عن نصفهما المفقود. هذه الفكرة -والفكرة المشابهة لها بأن البشر وحيدون بوجهٍ متأصل- واضحة في كثيرٍ من قصص (موراكامي)، خاصة حين تتناول شخصياته الطعام. مغازلة (ميدوري) مع (تورو) في رواية «الغابة النرويجية» تحدث حيث يتناولان الطعام. يتقابلان أول مرة في مطعم هادئ قرب الجامعة: يأكل (تورو) لوحده (أومليت مع مشروم وسلطة فاصوليا خضراء) و(ميدوري)، التي تتعرف إليه بسبب وجودهما في فصل مشترك، تترك أصدقاءها وتذهب لتقديم نفسها إليه. تسأل ما إذا كانت تعيقه فأجابها مباشرة: «لا، لا شيء لتعيقيه». يدرك القارئ أن (لتورو) مشاعر تجاه (ميدوري) حين تغيب في الجامعة لينتهي به المآل بأن يصاب «ببرد، ويتناول وجبة غداء بلا طعم وحيدًا».


في حين تُبنى علاقة بوساطة مشاركة الطعام في رواية «الغابة النرويجية»، تنتهي علاقة أخرى في أثناء تناول الطعام في رواية «نهاية يوميات طائر». أخذ (تورو) على عاتقه الواجبات المنزلية، مثل: التسوق من البقالة، وإعداد العشاء؛ في حين كانت زوجته (كوميكو) في العمل. غالبًا ما تعود في الساعة السادسة والنصف مساءً؛ ولكن في إحدى الليالي لم ترجع إلا عند التاسعة. حين عادت إلى المنزل شرع (تورو) في طبخ طبق مقلي من اللحم والبصل والفلفل الأخضر والفاصوليا المبرعمة؛ ولكن في أثناء أعداده الطعام بدأت زوجته بالشجار معه لأنه لا يعرف أنها «تكره اللحم المقلي مع الفلفل الأخضر كليًّا». إنها تمامًا مثل نوع الشجارات اللاعقلانية التي تفتعلها حين تكون منزعجًا من شخص ما وتبحث عن شيء تتصيّده له، وهي تلقي بظلالها على مستقبلهم كزوجين. بعد فصول قليلة، لا تأتي البيت البتة، ويتسكع (تورو) بلا هدف في المطبخ ليتناول فطوره لوحده. إنه أكثر إيجاعًا للقلب مما يبدو عليه: لم يفوتا تناول الفطور ولو لمرة واحدة منذ تزوجا -إنها بداية النهاية.
في مقابلة بعنوان «فن الأدب» في باريس ريفيو، يقول (موراكامي) إن وظيفته ككاتب أدبي هي أن «يراقب الناس والعالم، دون أن يحكم عليهم». فهو يصف شخصياته وهم يأكلون ويحضّرون الطعام بتفاصيل كثيفة، وسرعان ما يغدو سلوكهم مألوفا لنا حين نراهم عبر عدساته. كلنا مررنا بجوع (يوكي) للوجبات السريعة حين شعرنا بفراغ داخلنا، وسكون (تِنغو) الساحر حين نطبخ عشاءً في المنزل بعد يوم مجهد، وشعور (تورو) بالوحدة والتوق حين نتناول طعامنا لوحدنا ونتمنى لو نتناوله مع شخص نكترث له.
يستخدم (موراكامي) الطعام لينقل مشاعر عالمية من: الراحة، والحب، والشراكة، والاستقلال. مثلما لاحظ (تورو) حين تناول خيارة في رواية «الغابة النرويجية»: «إنه أمر جميل حين يكون مذاق الطعام طيبًا. يجعلك تشعر بأنك حي». حين يلقي هذه الملاحظة مع حبة خضار تحتوي على صفر سعرة حرارية ومذاقها يغلب عليه طعم الماء يلمح إلى أنك تستطيع أن تجد ما يرضيك حتى في أكثر الأشياء يُسرًا. يمكنك أكل الخيار دون تذوقه، أو يمكنك أن تعيش، وتقدّر الطعم اللطيف المخبوء وراء القشرة المرة. نحن لا نأكل لنعيش فحسب، بل نأكل لنتذوق الحياة.