لماذا يحب الناس قراءة موراكامي؟








لماذا يحب الناس قراءة موراكامي؟
بقلم: جَسْتِن وو
ترجمة: علي الصباح





هناك احتمال كبير بأنك ستجد العديد من روايات موراكامي في أي زيارة لمتجر الكتب. الروائي الياباني الذي بلغ ٦٤ عاما كَتَبَ أكثر من دزينة من الروايات بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة وكتب أخرى ليست أدبية, منذ صدور روايته الأولى "استمع لغناء الريح" عام ١٩٧٩. لاشك بأنه أحد أهم الكتاب المعاصرين, ولعدة سنوات كان الكثيرون يرون استحقاقه للفوز بجائزة نوبل للآداب. في العصر الذي لا تُقَدّر فيه القراءة مثل السابق والنسخ المطبوعة تتراجع تدريجيا لصالح النسخ الرقمية, تبقى الزيادة المستمرة في شعبية موراكامي حول العالم أمرا لافتا للنظر, (روايته الأخيرة "تسوكورو تَزاكي عديم اللون وسنوات حجه" الصادرة في ٢٠١٣ بيعت منها ٣٥٠ ألف نسخة في الأيام الثلاثة الأولى لصدورها في اليابان; ستصدر الترجمة الإنجليزية في ٢٠١٤). السؤال هو: لماذا يحب الناس قراءة روايات موراكامي؟ ما الشيء المميز في رواياته والذي يدفع الناس إلى شرائها بالرغم من عدم معرفتهم عن ماذا تتكلم؟ لماذا يحبه الناس؟

أحد الجوانب التي تميز روايات موراكامي هو أسلوبه غير المألوف في الكتابة. بعض النقاد لا يعدونه "كاتبا يابانيا", لأن نثره يبدو إنجليزيا حتى وهو في حالته الأصلية باللغة اليابانية. بتأثير واضح من كتّاب غربيين مثل فيتزجيرالد, ينحو موراكامي بعيدا عن الأسلوب الجدي والتراجيدي في كتابته إلى أسلوب أكثر فكاهة وعفوية. بل في الحقيقة, موراكامي نفسه اعترف بأنه حين يكتب يبدأ بكتابة جمله بالإنجليزية أولا ثم يترجمها إلى اليابانية. أسلوبه في كتابة فقرات قصيرة بتركيز على نفسية الشخصيات وتركيز أقل على البيئة المحيطة يفصله كذلك عن كتاب يابانيين نموذجيين مثل ياسوناري كاواباتا (أول كاتب ياباني ينال جائزة نوبل للآداب عام ١٩٦٨) أو يوكيو ميشيما (رشح لجائزة نوبل أكثر من مرة), والذي يسخّر العديد من الفقرات في وصف السياق. هذا يخلق أسلوبا فريدا في الكتابة يجده القارئ الياباني جذابا, ويجده القارئ الغربي سهلا للمتابعة.

سمة العزلة والإحساس بالخسارة سائدة في أغلب رواياته. وفي غالب الأوقات, يمتثل أبطال الرواية بالتقاليد المجتمعية بينما تتخلل العدمية كل أفعالهم. بينما هذا ليس شيئا جديدا بحد ذاته, إلا أنه من المهم أخذه بعين الاعتبار خاصة في سياق المجتمع الياباني بعد الحرب. واجه اليابانيون أوقاتا عصيبة بعد الحرب العالمية الثانية في عملية إعادة الإعمار المادي والمجتمعي. اجتاز الناس الستينيات مع الحراك الإحتجاجي الطلابي, وفترة النمو الإقتصادي في السبعينيات والثمانينيات, إلى أن انفجرت الفقاعة في التسعينيات. غالبا ما تقع روايات موراكامي في هذه السياقات المابعد حداثية. شخصياته ليست ضحايا مباشرة لهذه الأحداث, إلا أنك تستطيع أن ترى مدى تأثير هذه السياقات في نموهم وفي إدراكهم للعلاقات الإنسانية. مثل معضلة القنفذ, الشخصيات دائما منهكة من إقامة علاقات حميمية مع الآخرين, بسبب الخوف وطلبا لحماية أنفسهم والأشخاص الذين يكترثون لأمرهم. في هذا السياق, هناك انتقاد طفيف للرأسمالية وكذلك للتقدم التكنولوجي في اليابان الذي لا يجعل الناس يشعرون بأفضلية في حياتهم. من خلال هذا النقد للمجتمع الحديث بالإضافة لأسلوبه الفريد في الكتابة, يرينا موراكامي إلى أي مدى نحن بعيدين عن الأشخاص الآخرين.

كثيرا ما يستدعي مخلوقات أو مشاهد سريالية في رواياته. من القطط الناطقة في "كافكا على الشاطئ" (٢٠٠٢) إلى المدينة ذات القمرين في "1Q84" (٢٠٠٩), إلى الشخصية التي ترى ذاتها المُتَخَيَّلَة في "سبوتنيك الحبيبة" (١٩٩٩) إلى الفتاة التي تنام لسنوات في "مابعد الظلام" (٢٠٠٤), غالبا ما يُضمن موراكامي بعض المشاهد الشبه فانتازيّة والتي تتحدى إدراكنا, مع ذلك بشكل ما, تشعر أنها منطقية. وأنت تقرأ فصول الرواية تعتريك الغرابة ولكن في نفس الوقت تجدها قابلة للتصديق بشكل كبير, كأنك كنت تنتظر وقوعها. بهذا المعنى, كأن موراكامي يطرح علينا سؤالا وجوديا: ما الذي تفعله لتوجد معنى لوجودك في عالم لامعقول؟ هل تقبله كما هو أم تفعل ما تستطيع لتعرف لماذا هو كذلك؟ المشاهد والشخصيات السريالية المتعددة في رواياته تستحث هكذا خواطر, من قارئ يفشل في فك هذه الرموز ومعرفة معناها الحقيقي.

المشاهد الفضولية تأخذنا إلى سمة أخرى مشتركة في روايات موراكامي: بأنه لا يفسر أبدا كل شيء. ما الذي حدث لتورو وميدوري في نهاية "الغابة النرويجية" (١٩٨٧)؟ من هم بالتحديد الناس الصغار في 1Q84؟ لمذا اختير تسوكور بالتحديد ليقع عليه اللوم في "تسوكورو تَزاكي عديم اللون وسنوات حجه"؟ موراكامي أبدا لا يقدم إجابات قطعية على هذه الأسئلة. عوضا عن ذلك, يدع المجال للقراء ليقرروا ما الذي حدث في النهاية. كثيرا ما يُنتقد من قراءه بأنه يرمي هذه المشاهد ويتوقع أنهم سيقبلونها كما هي. إلا أنه في نفس الوقت, من خلال هذه السياقات الغرائبية تكافح الشخصيات لتجد معناها الوجودي, من خلال الاستكشاف الجنسي (الجنس سائد في روايات موراكامي, سواء كان خيالا أو مضاجعة; بشكل أو بآخر, كل النساء في رواياته يرغبون بشدة في النوم مع الأبطال, والذين غالبا ما يكونون عاديون جدا), مغامرة في أرض أجنبية, التساؤل عن معنى الحياة, ومواجهة الرغبات الإنسانية. في هذا الجانب, موراكامي متمرس في علم النفس الشعبي حيث يستطيع وصف المشاعر الإنسانية بشكل دقيق ليجعل القارئ يجلس على حافة كرسيه ينتظر لمعرفة ما يحدث في عقل الشخصيات.

أحد الحوانب الأساسية في روايات موراكامي هو إصراره على تضمين الموسيقى. شغفه بالموسيقى معروف, فقبل كتابته لروايته الأولى كان قد افتتح بارا للجاز, فهو يُدخل في رواياته الموسيقى (بالتحديد الكلاسيكية والجاز) بلا مشقة. بينما تكون الموسيقى كقطعة مصاحبة للرواية, القراء المخلصون يجدون متعة بالاستماع إليها أثناء قراءة الرواية. على سبيل المثال, معزوفة سينفونيتا للملحن التشيكي ياناتشيك تكررت مرات عديدة في رواية 1Q84 وكانت تعمل كنقطة وصل بين الشخصيتين الرئيستين الرجل والمرأة. لن تتأثر القصة لو أُزيلت كل الإشارات إلى الموسيقى, لكن الموسيقى صارت سائدة في في رواياته بحيث لو خلت واحدة منها من أي إشارة لأي موسيقى كلاسيكية أو جاز فلن تبدو القصة موراكاميّة بما فيه الكفاية. تضمين الموسيقى يجعل عملية القراءة أكثر امتاعا, فكأنك تتصور المشهد في ذهنك بينما تستمع للموسيقى الخلفية التي تعمل في فيلم. (بشكل لافت, شغفه للموسيقى الكلاسيكية أناله تقديرا لدى صناع الموسيقى بحيث حالما يصدر موراكامي أي رواية تقفز مبيعات المقطوعات الموسيقية التي يذكرها.)

الجانب الإنساني لدى موراكامي هو الذي جلب له احترام الناس, حتى غير المطلعين على رواياته التي عرّفت الناس به. بعد فترة قصيرة من إلقاء جماعة أوم شينريكيو الإرهابية لغاز السارين في مترو طوكيو عام ١٩٩٥ حيث قتل ١٣ شخصا وجرح الآلاف, شرع موراكامي بمقابلة بعض ضحايا الاعتداء لمعرفة كل ما مروا به في ذلك اليوم. جُمِعَت هذه المقابلات لاحقا لتنشر في أول كتاب غير أدبي له بعنوان "تحت الأرض". لم يكتفي بهذا, إنما شرع في العام الذي يليه بمقابلة ثمانية أعضاء من جماعة أوم شينريكيو ليجاوبوا على سؤال: لماذا ارتكبت الجماعة هذا الفعل, وما موقف أعضاء الجماعة منه؟ ثم أصدر كتابه الثاني "تحت الأرض ٢: الأرض الموعودة" (في النسخة الإنجليزية هذا الكتاب دُمج مع "تحت الأرض"). حين وجه الجميع أصابعهم تجاه أعضاء الجماعة, أشار موراكامي إلى أن هؤلاء الأعضاء لا يختلفون عن أي مواطن عادي في المجتمع, وانتقد المجتمع لانشغاله بما حدث عوضا عن محاولة فهم لماذا حدث.

تجعلك تشعر وكأنك تقرأ إحدى مقابلات شخصية جاك في رواية "نادي القتال" لتشاك پولانيك.

هناك حادثتان أخرتان تعززان سمعة موراكامي على أنه أكثر الكُتّاب إنسانية في وقتنا المعاصر. عام ٢٠٠٩, فاز بجائزة القدس, والتي قد أشعلت الغضب في اليابان وفي العديد من الدول الأخرى لأن إسرائيل كانت للتو قصفت غزة. اختار موراكامي الحضور واستلام جائزته بالرغم من كل الجدل المثار آنذاك, وفي خطابه انتقد بشكل ضمني ما ارتكبته الحكومة الإسرائيلية, وقال:

"ما بين جدار عال وقوي وبين بيضة تنكسر عليه, سأقف دائما إلى جانب البيضة. نعم, لا يهم مدى صحة الجدار أو خطأ البيضة, سأقف مع البيضة… إذا قام روائي, لأي سبب, بكتابة أدب يقف إلى جانب الجدار, فماذا ستكون قيمة هكذا أدب؟"

لا عجب أن يخيب ظن الكثيرين عندما أعلن عن فوز الكاتب الصيني مو يان بجائزة نوبل للآداب في العام الماضي, وهو الذي تربطه علاقات وثيقة مع الحكومة.

لا يخشى موراكامي من انتقاد حكومته في مواضيع حساسة. عقب كارثة فوكوشيما النووية عام ٢٠١١, انتقد سياسة الحكومة النووية وأدان دورها في تهميش الأصوات المعارضة بحجة "الكفاءة" و "الملائمة". كذلك تهكم على شجار اليابان مع الصين في النزاع حول ملكية جزر دياوو\سينكاكو في شرق بحر الصين. انتقد كلا الحكومتين في إثارتهم للمواطنين في كلا البلدين عوضا عن محاولة حلها دبلوماسيا. كانت عبارة جريئة من كاتب لم يُعتَد منه ممارسة البهرجة الإعلامية, مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه القضية كانت حساسة للغاية بين اليابان والصين. بالطبع, آراءه لم تغير الكثير من ناحية النتائج (فوكوشيما لا تزال خرابا, وقضية الجزيرتين لم تحل إلى الآن), لكنه أمر مهم لشخص مشهور على نطاق واسع مثل موراكامي ليتحدث ضد الجدار بينما لا يزال الجدار منتصبا بغطرسة.

قد يخيب أمل البعض من نبرة موراكامي الغامضة وأحداثه الميلودرامية. في الحقيقة, في غالب الأوقات قد يصاب الشخص بالحيرة أكثر حين يقلب الصفحة الأخيرة من الرواية ليجد أن لاشيء قد حُل. مع ذلك, مفتاح فهم سمعة موراكامي يقع في عملية استكشاف العالم. مثل محاولات تورو اليائسة لمخاطبة ميدوري في نهاية "الغابة النرويجية", نحن عالقون في عالم اللامكان, نسعى جاهدين لمعرفة ما سيأتينا, لكن لا نمتلك جوهر الحياة أو الوجود الإنساني. سؤال بسيط مثل "أين أنت الآن؟" كاف ليجعلنا نتسائل عن سبب وجودنا هنا. ما يهم, بالرغم من ذلك هو الشجاعة للمضي قدما بينما نعبر الشعور بالارتباك في عالم يبدو بالغ السخافة.

هدية الكريسماس لابنتي: لا أحد مدين لكِ بشيء



هاري براون



هدية الكريسماس لابنتي: لا أحد مدين لكِ بشيء
بقلم: هاري براون
ترجمة: علي الصباح




(نشرت هذه المقالة في عمود صحفي، وهي موجهة إلى ابنتي ذات التسعة أعوام)


إنه الكريسماس، ولديّ المشكلة المعتادة في تحديد ما سأهديكِ. أعرف أنكِ تحبين أشياء كثيرة: كتب، ألعاب، ملابس.

لكنني أناني جدًا. أريد أن أعطيكِ شيئًا يبقى معكِ لأكثر من مجرد أشهر قليلة أو سنوات. أريد أن أعطيكِ هدية تذكركِ بي في كل كريسماس.

لو كان بوسعي أن أعطيكِ شيئًا واحدًا فقط، أريده أن يكون تلك الحقيقة البسيطة التي استغرقتُ سنوات لأتعلمها. هي كفيلة بأن تثري حياتكِ بمئات الطرق إذا أدركتِها الآن، وقد تجنبكِ مواجهة الكثير من المشاكل التي يعاني منها من لم يدركها بعد.

هذه الحقيقة ببساطة هي:

لا أحد مدين لكِ بشيء.


أهميتها

كيف يمكن لهذه العبارة البسيطة أن تكون بهذه الأهمية؟ قد لا تبدو كذلك، لكن فهم معناها يمكن أن يبارك كل جوانب حياتكِ.

"لا أحد مدين لكِ بشيء" تعني أن لا أحد يعيش لأجلكِ يا صغيرتي، لأن لا أحد هو أنتِ. كل شخص يعيش لنفسه؛ أقصى ما يمكنه الشعور به هو سعادته الشخصية. حين تدركين أن لا أحد مدين لكِ بالسعادة أو بأي شيء آخر، ستتحررين من انتظار ما هو غير محتمل الحدوث.

تعني هذه العبارة أنه لا يجب على أي شخص أن يحبكِ. إذا أحبكِ شخص ما، فهذا لأنكِ تمتلكين شيئًا مميزًا يجعله سعيدًا. ابحثي عن ذلك الشيء المميز فيكِ وعزّزيه، لتنعمي بقدر أكبر من الحب.

حين يسدي لكِ الناس خدماتهم، فذلك لأنهم يرغبون في ذلك، لأنكِ -بشكل ما- تمنحينهم شيئًا ذا معنى يجعلهم يريدون إرضاءكِ، وليس لأن أحدهم مدين لكِ بشيء.

لا يجب على أحد أن يودّكِ. أصدقاؤكِ ليسوا مُجبرين على أن يكونوا معكِ. ابحثي عن الأشياء التي تسعد الآخرين وتجعلهم يرغبون في قربكِ.

ولا يجب على أحد أن يحترمكِ. بل قد يتصرف البعض معكِ بوقاحة. لكن حين تدركين أنه لا شيء يلزم الآخرين بأن يلاطفوكِ، ستتعلمين كيف تتجنبين أولئك الذين قد يؤذونكِ. لأنكِ أيضًا لستِ مدينة لهم بشيء.


عيشي حياتكِ

"لا أحد مدين لكِ بشيء".

لكنكِ مدينة لنفسكِ لتجعلي منها أفضل شخص ممكن. لأنكِ إذا أصبحتِ كذلك، سيرغب الآخرون في أن يكونوا معكِ، وسيودّون تقديم ما تريدين مقابل ما تقدمين لهم.

سيختار بعض الأشخاص ألّا يكونوا معكِ لأسباب لا علاقة لكِ بها. حين يحدث ذلك، ابحثي عن العلاقات التي تريدينها في مكان آخر. لا تجعلي مشاكل الآخرين مشكلتكِ.

لن تنتظري المستحيل ولن تواجهكِ خيبات أمل حين تدركين أنكِ بحاجة إلى كسب الحب والاحترام من الآخرين. لا يجب على الآخرين أن يشاركوكِ ممتلكاتهم، ولا حتى مشاعرهم وأفكارهم.

إذا فعلوا ذلك، فذلك لأنكِ استحققتِ هذه الأشياء. ولديكِ كل الحق في أن تفخري بالحب الذي تتلقينه، وباحترام أصدقائكِ لكِ، وبالممتلكات التي اكتسبتِها. لكن إياكِ أن تعتبري هذه الأشياء مسلَّمات. إذا فعلتِ ذلك، قد تخسرينها. هذه ليست حقوقًا، بل أشياء يجب عليكِ دائمًا أن تكتسبيها.


تجربتي

كان حملًا ثقيلًا رفعته عن كاهلي حين أدركت أن لا أحد مدين لي بشيء. كنت أعتقد طويلًا أن هناك أشياء أستحقها، وكنت أرهق نفسي -بدنيًا وعاطفيًا- في محاولة نيلها.

لا أحد مدين لي بسلوك أخلاقي، أو احترام، أو صداقة، أو حب، أو مجاملة، أو حتى فهم. وحين أدركت ذلك، أصبحت كل علاقاتي مُرضية بشكل كبير. ركّزت على أن أكون مع أشخاص يريدون فعل ما أريده منهم لأنهم يرغبون بذلك.

هذا الفهم كان ذا فائدة كبيرة لي مع الأصدقاء، وشركاء العمل، والعشاق، والعملاء، وحتى الغرباء. كان يذكرني دائمًا بأنني يمكنني الحصول على ما أريد فقط إذا استطعت أن أفهم عالم الشخص الآخر، وكيف يفكر، وما الذي يراه مهمًا، وماذا يريد. حينئذ فقط يمكنني أن أطلب منه بالوسائل التي تقوده إلى ما أريده.


وفي تلك اللحظة أيضًا يمكنني أن أقرر إن كنتُ أرغب في أن تكون لي علاقة مع شخص ما. يمكنني أن أحتفظ بالعلاقات المهمة مع أولئك الذين تجمعني بهم أشياء مشتركة.

ليس من السهل حصر ما تعلمته طوال سنوات في كلمات قليلة. لكن ربما، إذا قرأتِ هذه الرسالة في كل كريسماس، ستتضح معانيها لكِ أكثر مع كل مرة.

أتمنى ذلك. أريدكِ أن تفهمي هذه العبارة التي ستحرركِ أكثر من أي شيء آخر:

لا أحد مدين لكِ بشيء.









برتراند رسل: ما الذي عشت لأجله



برتراند رسل


برتراند رسل: ما الذي عشت لأجله
ترجمة: علي الصباح

ثلاث ميول، بسيطة لكنها قوية على نحو قاهر، شكلّت حياتي: التوق إلى الحب، السعي للمعرفة، وشفقة لا تُحتمل لمعاناة البشر. هذه الميول، كريح عاصف، بعثرتني هنا وهناك، في مسار متقلب، وفي خضم محيط من المعاناة، وصولا إلى الحافة الأخيرة لليأس.

بحثت عن الحب، في البدء لأنه يبعث على النشوة - نشوة عظيمة جدًا لدرجة أني أرغب أحيانا بالتضحية ببقية حياتي في سبيلها. ثم بحثت عنه تاليا، لأنه يخفف الوحدة - تلك الوحدة الرهيبة التي تجعل الوعي المرتجف للمرء ينظر من أعلى حافة العالم ليجد هاوية باردة غير مفهومة. ثم بحثت عنه أخيرا لأن في اتحاد الحب الذي وجدته، تصوّف مصغّر، رؤية أولية للجنة التي تخيلها القديسون والشعراء. هذا ما بحثت عنه، بالرغم من أنه يبدو كثيرا على حياة أي إنسان، هذا - على الأقل - الذي وجدته.

بميل مساوٍ بحثت عن المعرفة. تمنيت أن أفهم قلوب البشر. تمنيت أن أعرف لمَ تضيء النجوم. وحاولت أن أعقل السلطة الفيثاغورية حيث تحتفظ الأرقام بسطوة انسيابية. ما أنجزته كان القليل من هذا، ليس الكثير.
الحب والمعرفة إلى حد ما كانا متاحين، يعرجان بي عاليا نحو السماء. لكن الشفقة دائما ما تعود بي إلى الأرض. يتردد في قلبي صدى بكاء الآلام. أطفال المجاعات، ضحايا تعذيب الطغاة، كبار السن الذين يشكلون عبئا على أبنائهم، والعالم المليء بالوحدة، الفقر، والألم الذي يسخر مما يجب أن تكون عليه حياة
الإنسان. أتوق إلى رفع هذا الشر، لكني لا أقدر، وأنا أيضا أعاني.
تلك حياتي. وجدتها جديرة بأن تُعاش، وسأسعد لأن أحياها مجددا إن أتيحت لي الفرصة.



رسالة ساراماگو إلى جدته جوزيفا



ساراماگو


رسالة إلى جدتي جوزيفا
ترجمة: علي الصباح


أنتِ الآن في التسعين. مسنّة وتعانين. أخبرتِني أنكِ، في شبابكِ، كنتِ أجمل فتاة في القرية - ويمكنني تصديق ذلك. لم تتعلمي القراءة مطلقًا. أصابعكِ غليظة ومتغضنة ولقدمكِ ملمس الفلِّين. حملتِ على رأسكِ الكثير من الحطب والقش المسروق من الحقول ليكون علفًا، وكذلك مياهًا بحجم بحيرات كاملة. تشاهدين شروق الشمس كل يوم. الخبز الذي عجنتيه على مر السنوات يكفي لتجهيز مأدبة عالمية. ربّيتي بشرًا وحيوانات، بل حتى أنكِ اعتدتِ على أخذ الخنانيص [صغار الخنازير] إلى سريركِ كي لا يهلكهم البرد. حكيتي لي قصصًا عن الأشباح والبشر المستذئبون، ونزاعات عائلية غابرة، وجريمة قتل. كنتِ عمود البيت، النار التي في المدفأة - حبلتي سبع مرات ووضعتي سبع مرات.

لا تعرفين شيئا عن العالم. لا تفقهين شيئا في السياسة، الاقتصاد، الأدب، الفلسفة أو الدين. ورثتِ مئات الكلمات العملية، مجموعة مفردات بسيطة. أنتِ مفتونة بالكوارث الكبرى وحفلات الزفاف الملكية، ومثلما أنتِ مفتونة كذلك بالفضائح المحلية التافهة وحادثة سرقة أرنب الجيران. تكتمين أحقادًا تجاه بعض الناس لأسباب لم تعودي تذكرينها، وأشخاص آخرين تعاملينهم بتفانٍ لا مبرر له. أنتِ تعيشين. كلمة "ڤيتنام" لها وقعٌ أعجمي على أذنك ولا تشكل أي أهمية في الجانب الذي يشغلكِ من العالم. خبرتي الجوع: لقد رأيتِ علم الطاعون الأسود يعلو برج الكنيسة (هل أنتِ أخبرتني بذلك أو أني حلمته؟). تحملين شرنقة صغيرة من الاهتمامات. ومع ذلك، عيناكِ لا تزالان برّاقتان وأنتِ لا تزالين سعيدة. ضحكتك أشبه بفرقعة ألعاب نارية. لم أسمع قط أحدًا يضحك كما تضحكين.

أنا جالس هنا أمامكِ لكني لا أفهم. أنا لحمكِ ودمكِ ولكني لا أفهم. جئتِ إلى العالم، ومع ذلك لم تبذلي أي جهد لفهمه. أنتِ الآن قريبة من نهاية حياتك، بالنسبة إليكِ، العالم لا يزال كما هو حين أتيتِ: علامة استفهام، لغز عصي على الإدراك، شيء لا يشكل أي جانب من إرثكِ، الذي لا يعدو كونه عدة مئات من الكلمات، قطعة أرض يمكنك أن تقطعينها خلال خمس دقائق، منزل غير مسقوف وأرضيته موحِلة.

عصرتُ يدكِ الصلبة، مسّدتُ وجهكِ ذو الخطوط وشعرك الأبيض، الذي صار ينمو دقيقًا بسبب كثرة الأعباء التي ينطوي عليها رأسكِ - ولا أزال لا أفهم. كنتِ جميلة، كما تقولين، ويمكنني أن أرى أنكِ كذلك ذكية. من الذي استلب العالم منكِ؟ ولماذا؟ قد يمكنني أن أفهم وأفسر كيف، ولماذا ومتى لو تمكنتِ من انتقاء كلماتكِ من حصيلة كلماتي التي لا تعد ولا تحصى، تلك التي يمكنكِ فهمها. لكن لا فائدة الآن. سيستمر العالم بدونكِ - ومن دوني. ولن نتمكن بعد من أن نقول لبعضنا البعض ما يهم حقيقةً. أو قد نتمكن؟ سأفشل في إعطائكِ العالم الذي تستحقينه لأن كلماتي ليست لكِ. أسوأ من ذلك، ينتابني شعور بالذنب لأمرٍ أنتِ لم تتهميني به أبدًا. لكن جدتي، كيف يمكنك الجلوس أمام بابك الخارجي، تنظرين إلى السماء الشاسعة المليئة بالنجوم، تلك السماء التي لا تعرفين عنها شيئا والتي لم تسافرين عبرها قط، وفي هدأة الحقول وظُلمة الأشجار، ومع سكينة وطمأنينة سنواتك التسعين ومع نار شبابك التي لا تزال تشتعل، تقولين: "العالم في غاية الجمال، مما يجعلني حزينة كلما فكرت أن عليّ أن أرحل!".

هذا ما لا يمكنني فهمه - لكن هذا خطأي وليس خطأكِ.

لاسا دي سيلا - أغانٍ مترجمة












تُقرع الأجراس
في جميع نواحي المدينة المغمورة
في الشوارع الفارغة
ولمئة ميل في الأرجاء

تُقرع الأجراس
تحلّق الطيور رأسا على عقب
قلبي تائه منذ دهور

تُقرع الأجراس
تستعد السفن للرحيل
هذا كان بيتي
لا شيء يتحرك الآن, لا شيء يتنفس

تُقرع الأجراس
تدقّني من نومي
لم يكن نومي هادئا
لكن أحلامي كانت عميقة

تُقرع الأجراس
كلانا يعلم
لم يبقى شيء لنقوم به
سوى أن نسير إلى هناك ونرحل

يمكنك أن تميل رأسك للأسفل
وتريحه على ركبتي
يمكنك أن تروي لي حكاية
لا تنتهي بهذه الطريقة

تُقرع الأجراس
كلانا يعلم
لم يبقى شيء نقوم به
سوى أن نسير إلى هناك ونرحل




+++++





أقطن هذه المدينة الآن
أُنادى بهذا الاسم
أتحدث بهذه اللغة
الأشياء ليست كما كانت
ليس ثمة سبب
سوى أن هذه بلادي
والأماكن التي سكنتها توارت

سافرتَ كل هذه المسافة
عليك أن تمضي
ولا تنظر وراءك لترى
كم قطعت
رغم انحناء جسدك
تحت الضغط
على هذه الطريق
لا مكان للتراجع

قلبي يتمزق
لا أستطيع النوم
أحب رجلا
يخشاني
يظن أنه إذا لم
يحرس نفسه بسكين
سأحيله عبدا لي
لبقية حياته

أحب هذه اللحظة
حين ينقلب التيار
ستكون ثمة نهاية
للحنين واللهفة
إذا استطعت أن أواجه
الملائكة والرجال
فلن يبتلعني أحد
في الظلام مرة أخرى

سافرت كل هذه المسافة
عليك أن تمضي
ولا تنظر وراءك لترى
كم قطعت
رغم انحناء جسدك
تحت الضغط
على هذه الطريق
لا مكان للتراجع



+++++





إلى أين تفر
حين ينحسر مدُّك
عن نشوة ثيابك
الصيفيّة؟

أرحلُ بعيدا عن هنا
حيث ينام الصمت
في أغوار الحزن المقدس
العميقة

وأنا أحلم بك
وأنا أحلم بك
أحلم بك
أحلم بك

ماذا ستقول
حين تُمزق الأيام
قدميك
في الشوارع الصاخبة

وتنهمر عيناك مطرُا
من ألمٍ إلى ألم؟
أقول ليس مجددا
ليس مجددا
ليس مجددا

لماذا تهيم
حتى تتوارى الشمس
إلى نداءاتٍ من أعماق البحر؟

أحلّق مثل العصافير
وتُثْمِلُني كلمة
أوشك أقع في الحب
فقط لو كنتُ أعرف

لكن الخير سيندفع
خلالي أنا وأنت
أنا وأنت
أنا وأنت



+++++





العنكبوت الوحيدة على شبكتها تنتظر
تأمل أن تصيد بعض السعادة
من غيرُك إذن سيأتي هنا

أجدك حيث أريدك
أجدك حيث أريدك

العنكبوت الجميلة الوحيدة تهواك جدا
تسألك أن تأتي لتعيش في عشها
تطعمك, تكسيك, تعطيك قلبها

أجدك حيث أريدك
أجدك حيث أريدك

لا أدري لمَ تفتعل هذا الخصام
تجعل أنثى العنكبوت تبكي الليل كله
ليس عليكَ أن تكون وحيدا مرة أخرى

أجدك حيث أريدك
أجدك حيث أريدك

العنكبوت الوحيدة على شبكتها تنتظر
تأمل أن تصيد بعض السعادة
ياه, متى تعود السعادة ثانية




+++++





ليس بيديّ وسيلة لأثبت ذلك
لا دليل لكني مؤمنة
بعد ألف ليلة وليلة من اليوم
سأصير حرّة

سجني سوف يتداعى
الظلمة سوف تتلاشى
بعد ألف ليلة وليلة من اليوم
سيحل التغيير

حديقة تنمو تحت الأرض
كنز ينتظر أن يجده أحد
عصفور لم يغرد بعد

ليس عليك أن تصدق ذلك
لكن انتظر وسوف ترى
بعد ألف ليلة وليلة من اليوم
سأصير حرّة



+++++






قلتَ أنك ستبقى معي
وتؤيني إلى الأبد
كان وعدًا صعب الإنفاذ
لا يمكنني لومك على تعكر الجو

بعد كل الذي قيل وحدث
لن أسألك إلى أين أنت ذاهب
لا تبقى على اتصال, فأنا لا أفتقدك كثيرا
سوى في لحظات الصباح الباكرة

استعن بلسانك المعسول مرة أخرى
ثمة شيء واحد أريد معرفته
هل آمنت بالكذبات التي حدثتني بها؟
هل عنيتَ كلمات الحب التي أهديتني إياها؟

أغفر رغبتك بأن تكون حرا
أدرك مدى توقك لأن تهيم مرة أخرى
وأتعاطف مع عيناك الزائغتين
لكني لا أستطيع أن أسامح فظاظتك

استعن بلسانك المعسول مرة أخرى
ثمة شيء واحد أريد معرفته
هل آمنتَ بالكذبات التي حدثتني بها؟
هل عنيتَ كلمات الحب التي أهديتني إياها؟
هل آمنتَ بالكذبات التي حدثتني بها؟
هل عنيتَ كلمات الحب التي أهديتني إياها؟



+++++






أحاطت بي عاصفة
حُمِلتُ بعيدًا
التففتُ, والتففت

أحاطت بي عاصفة
هذا ما حدث لي
لذلك لم أتصل
ولم يكن بمقدورك أن تراني

كنتُ أصعد عاليا
أخبط في الأرض
وأتحطم وأتحطم

أحاطت بي عاصفة
الأشياء من حولي تتطاير
والأبواب تُصفَق
والنوافذ تتكسر
ولم أستطع استماع حديثك
لم أستطع استماع حديثك
لم أستطع استماع حديثك

كنتُ أصعد عاليا
أخبط في الأرض
وأتحطم وأتحطم

أصعدُ عاليا
أصعدُ عاليا