العصر الذهبي لعلوم الحضارة الإسلامية




  Pathfinders: The Golden Age of Arabic Science

المؤلف: جيم الخليلي

عدد الصفحات: ٣٣٦
دار النشر: Penguin


علينا ألا نتحرج من تقدير الحقيقة, والسعي وراءها حيثما كانت, حتى وإن أتت من أجناس بعيدة وبلاد مختلفة عنا. لا شيء أعز على طالب الحق من الحق نفسه, وليس في الحق مفسدة, ولا استخفاف في حاملها.
يعقوب بن إسحق الكندي (ص١٢٤)



مصدر الصورة من مدونة hifzan shafiee



يبدأ جيم الخليلي كتابه بذكر الشؤون السياسية والاجتماعية في مقر الخلافة العباسية ببغداد, والتي سبقت قدوم المأمون الذي يعده أكبر داعم للترجمة وللعلوم في تاريخ الحضارة الإسلامية, وإن لم يكن هو الأول, فقد تُرجمت العديد من الكتب الطبية والفلكية والرياضية في عهد أبيه هارون الرشيد وكذلك كان جده الخليفة العباسي المنصور مهتما في علم النجوم\التنجيم فترجم العديد منها من اللغة الفارسية. وقبلهم من الأمويين كان عمر بن عبدالعزيز مهتما بالطب أثناء فترة حكمه لمصر حيث تعرف على مدرس الفلسفة اليونانية عبدالملك بن أبجر الكناني وانتقلت الدراسات اليونانية من مصر إلى أنطاكية وحران عند خلافته. وقبله خالد بن يزيد بن معاوية الذي ترجم بعض كتب العلوم اليونانية إلى العربية, خاصة كتب الكيمياء لحاجة الدولة الأموية في تلك الفترة إلى سك عملات نقدية عربية لأول مرة بدلا عن النقود البيزنطية, وكان ذلك في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان. يقول الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين": "ولقد كان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبًا وشاعرًا, كما كان فصيحًا جامعًا, جيد الرأي, كثير الأدب, وكان أول من تُرجمت له كتب النجوم والطب والكيمياء".

واختار المؤلف استخدام عبارة العلوم العربية بدلا من العلوم الإسلامية لأنه يرى أن العلوم الطبيعية لا تُنسب إلى ديانة فلا توجد العلوم المسيحية ولا العلوم اليهودية. ووصفها بالعلوم العربية أنسب لأن غالبية ما كتب منها كان باللغة العربية بالرغم من وجود علماء كثر لا ينتمون إلى العرق العربي.[0]


حلم المأمون

يروي ابن النديم في كتابه الفهرست:
أن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون, مشربا بحمرة, واسع الجبهة, مقرون الحاجب, أجلح الرأس, أشهل العينين, حسن الشمائل, جالس على سريره.
قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة.
فقلت: من أنت؟
قال: أنا أرسطاليس.
فسررت به وقلت: أيها الحكيم, أسألك؟
قال: سل.
قلت: ما الحسن؟
قال: ما حسن في العقل.
قلت: ثم ماذا؟
قال: ما حسن في الشرع.
قلت: ثم ماذا؟
قال: ما حسن عند الجمهور.
قلت: ثم ماذا؟
قال: ثم لا ثم.


بدأت عملية الترجمة على نطاق واسع في منتصف القرن الثامن الميلادي وانتهت في منتصف القرن العاشر, بعد أن ترجمت العديد من العلوم اليونانية والفارسية والهندية, ونشأت أجيال عديدة من العلماء تشربت هذه العلوم الجديدة ثم لم تعد هذه العلوم, بعد عدة قرون من ترجمتها, هي الأفضل بل قام العلماء في الحضارة الإسلامية بالإضافة والشرح والبناء عليها, فقلّت الحاجة إلى استمرار الترجمة على نفس الوتيرة التي كانت عليها.


ويعزو جيم الخليلي قيام حركة الترجمة إلى ثلاثة أسباب:
  • أنها وافقت هوى بعض الخلفاء. فالمأمون كان مهتما بعلوم اليونان, ومن قبله جده المنصور كان مهتما بعلم التنجيم. ويقال أن رؤية المأمون لأرسطو في المنام, على فرض صحتها, هي التي دفعته إلى المضي قدما في الطلب من ملك الروم بإمداده بما في مكتبته من كتب علوم الأولين لترجمتها.
  • انتشار الدين الإسلامي. فقد كان حب المسلمين الأوائل وشغفهم للحصول على المعرفة, مهما كان مصدرها (ولو في الصين), حفزهم لأن ينظروا في كتب الحضارات التي سبقتهم. كذلك كان الدين الإسلامي نفسه يحثهم كثيرا على التعلم والنظر في كيفية خلق العالم, والذي كان بصورة أخفت عند من حولهم من معتنقين الديانتين اليهودية والمسيحية.
  • ظهور تكنولوجيا صناعة الورق. تعلم المسلمون صناعة الورق من الصينيين, وأول مصنع للورق في عهد الدولة العباسية كان في مدينة سمرقند ثم في مدينة بغداد, وتبع ذلك نموا في التقنيات المتعلقة بصناعة الكتب كالحبر, والأصباغ, والصمغ, والجلد المدبوغ, وتقنيات تغليف الكتب. وأصبح الورق وسيلة متيسرة للكتابة وأرخص من ورق البردي المصنوع من جذوع شجر البردي أو ورق البرشمان المصنوع من جلود الحيوانات.


وكانت عملية الترجمة نتيجة لتضافر جهود الخلفاء والعديد من التجار والنخب العلمية في المجتمع العباسي. مما صَيّر الترجمة لأن تصبح عملا مدرا للأموال نتيجة للدعم الهائل الذي يكتنفها. فكان التجار يستنفعون من الترجمة بتعلم ما يعينهم في ما يتعلق بالزراعة, والتمويل, وهندسة المشاريع والطب. وغَدَا دعم الترجمة ماليا ضرورة إجتماعية, بل صار عملا يساهم في تحسين صورتهم الإجتماعية (كما يفعل العديد من التجار اليوم بدعم المشاريع الإنسانية الغير ربحية). هذا الدعم الكبير ساهم في إثراء عملية الترجمة من الناحية الكمية والنوعية. ومن أشهر الداعمين لترجمة كتب الطب والفلك آنذاك بنو موسى بن شاكر[1] الذين خصصوا ٥٠٠ درهم شهريا لأفضل المترجمين في بغداد.
يقول عبدالرحمن بدوي: "لم يكد يوجد كتاب في اليونانية معروف لفيلسوف أو لعالم أو لرياضي إلا وتُرجم إلى العربية, بل كثير جدًا من هذه النصوص المترجمة قد فُقد في أصله اليوناني ولم يبق إلا هذه الترجمات العربية."[2].

وقد تكون هناك عوامل أخرى ساهمت في النهضة العلمية للمسلمين قبل عملية الترجمة, فمن المستبعد أن يستوعب العرب\المسلمون هذه العلوم ويهضمونها ويشرحونها ويضيفون عليها فقط لحظة معرفتهم بها من بعد ما تُرجمت في عصر المأمون "فإذا قدر للاحتكاكات العلمية أن تنجح, فمن الطبيعي فقط الافتراض أن على كلتا الثقافتين أن تكون متوازيتين من حيث مستوى النمو, لتتمكن أفكار الثقافة الواحدة من احتلال مكان في الثقافة الأخرى."[3]


أشهر المترجمين



مصدر الصورة حساب nikosniotis في فليكر

أشهر المترجمين في تلك الفترة هو حنين بن إسحق الذي كان يجيد الفارسية واليونانية والسريانية والعربية, ويرأس فريقا من المترجمين وكان المأمون يكلفه بترجمة العديد من المؤلفات وولاه رئاسة بيت الحكمة, وقيل إنه كان يعطيه ذهبا مقابل وزن الكتب التي ترجمها.[4] وكذلك الطبيب والفلكي سهل بن بشر الطبري الذي ترجم كتاب المجسطي لبطليموس. والرياضي ثابت بن قرة وقد ترجم أعمال إقليدس, وأرخميدس, وأبولونيوس, وبطليموس. وكان لأعماله بعد عدة قرون تأثير على الغرب عندما ترجمت إلى اللاتينية. وكذلك من المترجمين الفيلسوف والطبيب قسطا بن لوقا البعلبكي حيث ترجم كتب الرياضي ديوفانتوس والفلكي أرسطخرس (هو أول من قال بدوران الأرض حول الشمس) والطبيب جالينوس.

وكان أول ما ترجم هي كتب العلوم, كعلم النجوم والكيمياء والطب ثم في فترة لاحقة حتى عهد المأمون تمت ترجمة كتب الفلسفة والمنطق حيث انتبه الملسمون إلى حاجتهم لإكتساب مهارات الجدل والاستنتاج المنطقي خاصة في ما يتعلق بعلوم اللاهوت في مقابل اليهود والمسيحين الذين كانوا آنذاك مطلعين على فلسفات أرسطو وأفلاطون, مما ساعدهم في مناظرتهم مع خصومهم.
ومن أهم ما تُرجم في تلك الفترة كتاب السند هند أحد أهم كتب الرياضيات الهندية, وكتاب الأصول لإقليدس في الهندسة, وكتاب المجسطي لبطليموس في الفلك.


الكيميائي جابر بن حيان
يعد جابر بن حيان بن عبدالله الأزدي مؤسس علم الكيمياء, حيث نقّاها من الكثير من الخرافات التي علقت بها وجعلها علما تجريبيا. وعمل على تطوير عدة تقنيات كيميائية لازالت تستخدم حتى اليوم كالتبلور, والتقطير, والتبخير, والتكليس, والتكرير. والعديد من المصطلحات الكيميائية اليوم هي ذات أصول عربية مثل: الكحول, قلوي, الإمبيق, الملغمة, إكسير, البورق, رهج الغار, والكافور.

وأحيانا يتم الخلط بين الخيمياء والكيمياء على اعتبار أن الأخيرة جائت نتيجة لتطور لأولى, ولكن هذا غير صحيح, فيمكننا التفريق بينهما على اعتبار أن الكيمياء هي العلم المتعلق في المادة أما الخيمياء فهي متعلقة بفلسفة المادة. وكان لجابر اهتماما أكبر في الجانب العملي. وإن كان في ذلك الوقت قد ساد الإعتقاد بإمكانية تحويل بعض المعادن إلى معادن أعلى, كتحويل الحديد إلى ذهب, إلا أن جابر كان يعمل على أمر مختلف تماما, وهو خلق كائن حي سواء كان إنسانا أو حيوان أو نبات في المختبر وهو ما يعرف بعلم التكوين.[5]
وفي الجانب الروحي كان جابر متصوفا وله كتابات غامضة وغير مفهومة. عندما ترجمت أعماله إلى اللاتينية ووجدوا في أكثر من موضع من شروحه العلمية نصوصا غامضة قد تكون مرتبطة بمعاني خرافية أو سحرية فاشتقوا من اسمه كلمة Gibberish, وتستخدم إلى اليوم للإشارة إلى الكلام الفارغ الذي لا معنى له. وكان جعفر الصادق أحد معلمين جابر وكان يحثه على كتم الكثير من علمه.
لم يكن جابر كيميائيا فحسب, بل اهتم كذلك في الصيدلة, والطب, والفلسفة, والمنطق, والموسيقى.



الجاحظ والأحياء
لعل أكثر ما أشتهر به أبوعثمان عَمر بن بحر الجاحظ المعتزلي هو الأدب, وكتابه البيان والتبين يعد أحد أهم أركان الأدب العربي. ولكنه أيضا زاول علم الأحياء, حيث كان من القلائل الذين أبدوا اهتماما بهذا العلم من بين العرب في تلك الفترة. وفي كتابه كتاب الحيوان, تأمل في تأثير البيئة على الحيوانات ومحاولتها للتكيف والتوائم معها, بأسلوب مشابه لما جاء به أرسطو في كتابه تاريخ الحيوانات. ولكنه خلافا لأرسطو الذي رفض أن تكون صفات الحيوانات مكتسبة بالوراثة, رأى الجاحظ أن الصفات المتشابهة لبعض الحيوانات كالكلاب والثعالب والذئاب تدل على أنهم انحدروا من سلف مشترك. وهذا الرأي وافق نظرية لامارك التطورية التي جائت في القرن الثامن عشر. فيكون هو أول من لمّح إلى فكرة التطور من قبل العلماء المسلمين قبل أن يأتي ابن طفيل في رسالته حي بن يقظان ليلمح إليها أيضا في كيفية نشأة الطفل.



الخوارزمي
ممن عاشوا في العصر الذهبي للعلوم في الحضارة الإسلامية محمد بن موسى الخوارزمي الذي يعد مؤسسا لعلم الجبر. فقد قام بأخذ مجموعة من القواعد الرياضية المغمورة إلا لفئة قليلة, وحولها إلى إرشادات لحل المشكلات اليومية. يقول الخوارزمي "إنه ألّف كتابه حول الجبر من أجل تلبية ما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم وفي مقاسمتهم وأحكامهم وتجاراتهم وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأراضي وحفر الأقنية والهندسة وغير ذلك من وجوهه وفنونه…"[6]
وكان من ضمن العلماء المقربين للخليفة المأمون. وفي رسالة علمية له جدول فيها إحداثيات مئات المدن المعروفة, ودون فيها تعليمات لكيفية رسم خرائط للمدن الجديدة, مما يجعله أيضا أول جغرافي في الإسلام.[7]



فيلسوف العرب والمعلم الثاني
أول من أدخل الفلسفة اليونانية إلى المسلمين ووافق بينها وبين الدين الإسلامي بصورة مقبولة هو أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي الملقب بفيلسوف العرب. وساهم بإدخال المصطلحات الفلسفية إلى اللغة العربية. فقد كان الكندي يتسائل حول كل ما يحيطه, ويستخدم المنطق للتعرف على نشأة الكون وخالقه. فقد كان يرى استحالة وجود مقادير لا نهائية من أي شيء, مما أوجد عنده فكرة عدم أزلية الكون, ورأى أن الزمن كذلك ليس بأزلي ولكنه بدأ مع بداية الكون. هذا المفهوم مشابه, للمفهوم المعاصر لعلم الكونيات المبني على بداية للمكان والزمان (الزمكان) أثناء الإنفجار العظيم قبل بلايين السنين.
لم يكن الكندي فيلسوفا فحسب, ولكنه كان ككثير من علماء عصره, عالما موسوعيا, فله إسهامات عديدة في الرياضيات والفلك, والبصريات, والطب والموسيقى وعلم التعمية.
ففي الرياضيات ساهم, مع الخوارزمي, بإدخال الأرقام الهندية إلى العالم الإسلامي ثم إلى أوروبا لاحقا. وفي علم التعمية يشار إليه بأنه طور ما يعرف بتحليل التكرار Frequency Analysis في النصوص المشفرة\المعماة. وفي الموسيقى كتب الكندي العديد من النصوص حول نظريات الموسيقى وساهم في تطوير بعض الآلات الموسيقية واستخدم كلمة موسيقى اليونانية في اللغة العربية لأول مرة.
وتعرض لإنتقادات عدة من بعض العلماء واتهم بأنه يريد إستبدال الوحي بالعقل. وتعرض في آخر حياته إلى الضرب المبرح وصودرت مكتبته فقرر أن يعتزل الناس, فعاش وحيدا حتى مات.

بعد الكندي جاء أبو نصر الفارابي, الملقب بالمعلم الثاني بعد المعلم الأول أرسطو[8], وساهم في إكمال مسيرة أسلمة الفلسفة اليونانية, وبخاصة فلسفة أرسطو. وكانت له محاولات أكثر تقدما لفهم الوحي والنبوة من وجهة نظر فلسفية خالصة. وكان يرى "أنه لا حجّة ولا يقين أحكم من اجتماع عقول كثيرة, لأنّ هذه العقول المختلفة إذا اتفقت بعد التأمل والتدرب والبحث والتنقير والمعاندة فلا شيء أصحّ مما اعتقدته, وشهدت به, واتفقت عليه. والمتبع لهذه العقول يكون أقرب الناس إلى الحقيقة, وأعرفهم بها. غير أن الجماعة المقلدين لرأي واحد, المدّعين لإمام يؤمهم فيما اجتمعوا عليه بمنزلة المقلدين لرأي واحد, والعقل الواحد ربما يخطئ في الشيء الواحد…"[9]

ثم جاء بعدهم العديد من الفلاسفة الإسلاميين, كابن سينا والرازي وابن رشد وابن باجه وأخوان الصفا, الذين كانت لهم مساهمات كبيرة, ليس فقط في ترجمة ونقل الفلسفة اليونانية, بل تطويرها وتعديلها وإضافة العديد من المسائل إليها. فقد أخذ الفلاسفة المسلمون من اليونانيين والإسكندرانيين ٢٠٠ مسألة لكنها بلغت في أدوارها المتأخرة على أيديهم إلى ٧٠٠ مسألة.[10]

"إن هذا التوفيق الذي أراد الفلاسفة المسلمون أن يعملوا على بيانه من خلال التأكيد على عدم التعارض بين الفلسفة والدين لا يعكس عدم قبول فئة من المسلمين لعلوم الأوائل فحسب, (...), بل يعكس أمرا في غاية الأهمية ويتعلق بطبيعة العلاقة بين الحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات الأخرى, ففي وقت وصلت في الحضارة الإسلامية إلى أوج ازدهارها وتقدمها, كان من الطبيعي أن يشعر العرب بالتفوق الحضاري على غيرهم بدعوى أنهم أفضل الأمم, وأن آخر الأنبياء كان منهم, إضافة إلى تصورهم أنهم يملكون الحقيقة المطلقة, وأن الإسلام قام بنسخ كل الشرائع قبله. ففي ظل انتشار هذا التصور بين المسلمين وقف الفلاسفة المسلمون موقفا مخالفا لموقف العامة, بل لموقف الخاصة من أصحاب الثقافة التقليدية, وهو الموقف الذي يتجسد في ظاهرة الانفتاح على الآخر. فهذه الظاهرة جديرة بالاهتمام إذا ما تناولناها من زاوية نظر دينية. فالفلاسفة لا يتحرجون من البحث عن الحكمة في أي وعاء وجدت, من دون النظر في اعتقاد صاحب تلك الحكمة أو جنسه, فالحق حسب الغزالي يعرف بالحق ولا يعرف بالرجال مثلما هو الحال بالنسبة إلى منهج الفقهاء وأصحاب الحديث."[11]


الفيزيائي ابن الهيثم

الباحث عن الحق, ليس ذاك الذي يدرس كتابات الأولين ويتبع هواه ويضع ثقته فيها, ولكنه الذي يسائل إيمانه بها ويتسائل عن مدى انتفاعه منها, وهو الذي يخضع للحجة والبرهان وليس إلى كلام إنسان خلق مليئا بالعجز والخلل. بالتالي, يجب على من ينظر في كلام العلماء, إذا كان الحق غايته, أن يجعل من نفسه ندا لكل ما يقرأ, وأن يُعمل عقله في لبها وظاهرها, ويوجه لها سهام النقد من كل جهة. ويجب عليه أيضا أن يراقب نفسه وهو يفحصها بصورة انتقادية حتى يتجنب الوقوع في التحيز أو التساهل.
ابن الهيثم (ص١٥٢)


كان للفيزيائي والرياضي أبوالحسن علي بن الهيثم اهتماما كبيرا بالنهج العلمي, وتقدير التفاصيل الدقيقة في أبحاثه وإجراء التجارب بدقة وتسجيل نتائجها بعناية فائقة مما يجعله رائدا في وضع أسس المنهج العلمي حتى قبل تأسيسه خلال النهضة الأوروبية. فهو حول التجربة العلمية من كونها عملا عاما للبحث إلى وسيلة نموذجية لإثبات النظريات العلمية. وتفكيره العقلاني جعله لا يقبل أي تصور لهذا العالم لا يمكن إثباته تجريبيا, وكانت محل ثقته دائما ترتكز في قدرته على المراقبة والإستنتاج, لإعتقاده أن من خلال المنطق والإستنتاج يمكن احتواء كل الظواهر الطبيعية إلى حقائق وقوانين رياضية.
في الفترة ما بين أرخميدس ونيوتن, يحتل ابن الهيثم مكانه كأكبر فيزيائي بينهما, ويعد كتابه ذو السبع مجلدات, كتاب المناشير, من أعظم كتب الفيزياء إلى جانب كتاب مبادئ الرياضيات لنيوتن.




إلى هنا, اكتفي بذكر هذه الشخصيات وإنجازاتها بشكل مختصر للإيجاز ولعرض لمحة سريعة من علوم الحضارة الإسلامية وأبرز روادها. ولمن أراد تفاصيل أعمال هؤلاء العلماء وغيرهم كابن سينا, والزهراوي, وعباس بن فرناس, والبيروني, والطوسي, وابن رشد, والبتاني, وابن يونس, ابن النفيس, وغيرهم الكثير, أنصحه بالعودة إلى كتاب جيم الخليلي, ففيه شرح فني\تفصيلي لعلومهم.

















-----
0- أرى أن عبارة علوم الحضارة الإسلامية أكثر ملائمة من عبارة العلوم العربية, لأن العاملين فيها كانت تجمعهم بيئة ثقافية واحدة وهي البيئة الإسلامية, وإن اختلفت أديانهم وأعراقهم, حيث كانت اللغة العربية والديانة الإسلامية هما السائدان.
1- وهم محمد وأحمد والحسن, وقد برعوا في الميكانيكا والهندسة ولهم عدة كتابات علمية, وبنوا قنوات مائية في بغداد وسامراء. وهم الذين قدموا المترجم الشهير حنين بن إسحق إلى المأمون.
2- عقيل عيدان, شؤم الفلسفة: الحرب ضد الفلاسفة في الإسلام ص٨٤.
3- جورج صليبا, العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية, ص٢١.
4- عقيل عيدان, شؤم الفلسفة: الحرب ضد الفلاسفة في الإسلام ص٣٩.
6- جورج صليبا, العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية, ص١٣٠.
7- أحمد بن الطيب السرخسي كان معاصرا للخوارزمي وينافسه على لقب أول جغرافي في الإسلام لتأليفه كتاب المسالك والممالك.
8- يقول حاجي خليفة في كشف الظنون أن أرسطو سمي بالمعلم الأول لأنه هذب وجمع ما تفرق من مباحث المنطق ومسائله, فأقام بناءه متماسكا وجعله أول العلوم الحكمية وفاتحتها, وأن الفارابي ألّف كتاب يجمع ويهذب ويحرر ما ترجم قبله وجعله مطابقا للحكمة لما عليه الحكمة وأسماه التعليم الثاني.
9- منجي لسود, إسلام الفلاسفة ص٨١.
10- عقيل عيدان, شؤم الفلسفة: الحرب ضد الفلاسفة في الإسلام ص٢١٠.
11- منجي لسود, إسلام الفلاسفة ص٨٠.