بدأت قصة خالد ووفاء حينما زارت أم وفاء جارتها، أم خالد. اشتكت إليها كثرة المضايقات التي تتعرض لها ابنتها في ذهابها وإيابها من المدرسة، واقترحت أن يرافقها خالد كونهم جيران ويدرسان في نفس المدرسة. وافقت أم خالد دون تردد. حدث ذلك في السنة الثالثة من الثانوية.
في أحد الأيام التي ستظل عالقة في ذاكرة وفاء، كان خالد جالسًا تحت الظل الوارف للسدرة القريبة من باب المدرسة. "وفاء تأخرتِ!". قال أول ما رآها. "تهاوشت مع البنات". سارا معا. "يقولون أنا خذولة". التفت إليها مستفهما. "في نهاية الحصة سألت واحدة من البنات المعلمة من يكون طَرفة بن العبد الذي يقول محمود درويش أنه لا يريد أن يموت قبل أن يقرأ شعره. فأخبرتنا أنه من شعراء الجاهلية وله قصيدة من ضمن المعلقات". استفسر: "ما معنى معلقات؟". قالت بينما تلتفت يمنة ويسرة لتعبر الشارع، "يعني نفس الأفلام الحلوة اللي يعطونها أوسكار، قَبْل كانوا يعلقون القصيدة على الكعبة إذا كانت حلوة". أكملت فضفضتها "وبعدها صارت تشرح بعض أبيات قصيدته، ووصفه لحبيبته بأنها خذول. قالت المعلمة الخذول يعني الغزال التي خذلت صاحباتها وصارت ترعى فقط مع ولدها. فالتفتت وحدة من البنات عليّ وقالت: "نفسك أنتِ خذولة". ورددتها أكثر من بنت في الفصل. كانا يسيران حذاء الحديقة العامة القريبة من منزلها. عقله ليس معها، قلبه فقط. اعتاد منها هذا النوع من الفضفضة التي لا تنتهي. لكنه لم يكن يعرف أن هذه المرة هو مقصود فيها. سرح عن حديثها وهو ينظر إلى الحديقة ويفكر في شراء وردة التوليب المفضلة عندها لعيد الحب الذي اقترب. لكن ماذا لو لم تقبلها؟ هل ستخبر والدتها ثم يتوقف عن مرافقتها كل يوم وينضم إلى قائمة الشباب الذين يضايقون وفاء؟ ربما عليه أن… "مع السلامة خالد، مشكور على إنصاتك". قطعت حبل أفكاره حين وصلت بيتها. أكمل مسيره ناحية بيته وهو لم يحسم أمره بعد، أيشتري لها وردة أم لا.
***
مر عيد الحب وانتهى ولم تحصل وفاء على وردة التوليب. قضت ذلك اليوم كله في غرفتها. أشعلت شموعًا ورقصت وغنّت وحلمت بوردة توليب. بينما ذهب خالد إلى الشاطئ. جلس ينصت إلى الموج وينظر للرجال حوله غارقين في الحديث مع حبيباتهم. قرر أن يكون عيد الحب القادم مختلفًا. سيجلس مع وفاء على هذا الشاطئ. سوف يهديها وردة توليب. وسوف ينظر في عينيها، وهي تتنسم عبقها، ليقول لها أنه يحبها.
***
في السنة الأخيرة من الثانوية توقف خالد عن السير مع وفاء إلى المدرسة. صار يقلها بسيارته. لم تخرج أحاديثهم عن يومياته ويومياتها. كان ينصت إليها طوال الطريق حتى يصل إلى بيتها وهي لم تنته بعد. لم تحدث أمور مهمة. غير أن جسد وفاء بدأ يتغيّر. وخالد يلاحظ هذا التغيير.
في الرابع عشر من فبراير، تجرأ وسألها فور ركوبها سيارته: "عندك شيء الليلة"؟ فكرت قليلا وقالت، "لا شيء. لماذا تسأل؟". قال "تريدين الذهاب إلى البحر وقت المغرب؟". ابتسمت نصف ابتسامة وقالت "أوكي". قال، "الساعة الخامسة سأكون أمام البيت".
في تمام الخامسة كان خالد أمام بيت وفاء، ومعه كيس بداخله قهوة سوداء و آيسكريم بنكهة الفانيليا. خرجت إليه وتوجها إلى الشاطئ. افترشا الرمال الباردة. أخرج قهوته من الكيس وناول وفاء الآيسكريم وهو يخبرها، "بدأ يذوب". فتحته بسعادة غامرة وقالت "الطريقة المفضلة عندي لتناوله حين يبدأ بالذوبان".
بينما يرتشف قهوته الساخنة وهي تتناول الآيسكريم الذائب، ساد الصمت دقيقة كاملة، لا صوت سوى أمواج البحر وزقزقة العصافير التي تتعالى كلما دنت الشمس من الأفق. كسرت الصمت، "قررت ما أدخل الجامعة". سألها "تقلديني؟". علت وجهها ابتسامة. قرر خالد أنه بعدما يتخرج من الثانوية سيشرع فورا في العمل مع والده في محله لبيع الأقمشة. "قررت أفتح محل خاص فيني وأبيع فيه ورد والناس بتناديني بائعة الورد". مدت ذراعيها إلى الإمام بحركة مسرحية وهي تقول العبارة الأخيرة. شرب ما تبقى من قهوته، "الورد بسرعة يذبل ولا أحد يشتريه إلا بالفالنتاين". رمقته بطرف عينيها، "الناس التي تقدر الجمال تشتري ورد طول السنة". أخبرها ضاحكا، "تدرين، هذه الوظيفة مناسبة لك جدا، لأنك ستجدين وقتًا لكل الروايات التي تريدين قراءتها". ثم سألها، "أمك وأبوك ما رأيهم؟". صارحته، "أنت أول شخص أخبره بقراري هذا". التفتت إليه "ألا تفكر بالمستقبل، تتخيل كيف وأين ستكون بعد كم سنة؟". رد بنبرة ظاهرها الجدية، "طبعا. دائما أحلم وأخطط للمستقبل حتى يكون للواقع معنى يستحق أقاتل من أجله". أدركت أنه يتكلم بسخرية، على عادته يسخر بملامح جادة. وقررت أن تسايره بسؤالها، "وما المستقبل الذي تحلم فيه؟". رد دون تردد، "أنتِ". أخرج وردة توليب من الكيس وأهداها إياها وهو يترقب ردة فعل من عينيها. المفاجأة جعلتها ترمي كوب الايسكريم من يدها وتندفع بجسدها ناحيته. ضمته بحركه سريعة وطبعت على شفتيه قبلة اختلطت فيها مرارة البن مع حلاوة الفانيليا. كان خالد مستلقٍ على ظهره، جسدها فوق جسده، وشعرها الطويل يحيط بخديه يحجب رؤية أي شيء سوى عينيها. أغمض عينيه وشعر بارتياح وسعادة بالغة أنه اشترى وردة التوليب بعد طول تردد.
يعرف جيدا ماذا يريد أن يفعل بعد التخرج من الثانوية. يتقدم لخطبتها.
***
بعد أشهر من زواجهما، كانت وفاء تقف أمام طاولة في محل الورد الذي افتتحته قبل أسابيع. أمامها مجموعة من الورود التي تعمل على تقليمها وجمعها في باقات. حين تنهمك في العمل، على عادتها، لا تنتبه لمرور الوقت، لكنها الآن تشعر بضيق، عضلات بطنها يابسة كما لو أنها تستعد لتلقي لكمة. رن هاتفها.
ألو؟
وفاء!
أهلا أمي، كيف حالك؟
مازلت تذكرين أن لك أُمًا.
لماذا تقولين هذا؟
لم أراكِ لأكثر من شهر، ولا حتى سمعت صوتك.
مشغولة بالمحل. لم أتوقع الشغل سيكون إلى هذا الحد.
هجرتينا يا وفاء. لنا حق عليك، أكثر من زوجك ومحلك.
لا تقولين هذا الكلام. عمري مراح أهجركم.
تدرين اليوم حفل تخرج أختك. كلنا بنكون موجودين، ستأتين؟
طبعا طبعا.
بعدما أغلقت الهاتف عاتبت نفسها على عدم زيارة والدتها أو الاتصال بها في الأسابيع الماضية، وعاهدت نفسها على أن لا يتكرر هذا الفعل مرة أخرى. عبارة «هجرتينا» وقعها ثقيل جدًا. يمكنها أن تشعر بوزن الكلمة على كتفيها. وبينما هي سارحة في أفكارها، رن الهاتف. يبدو أن أمي نسيت أن تخبرني بشيء ما، قالت في نفسها. حين رفعت الهاتف رأت رقما لا تعرفه.
ألو؟
ألو مرحبا. الأخت وفاء؟
إي نعم.
معاك دكتور عبدالرحمن من المستشفى الأميري.
***
وفاء جالسة على كرسيها أمام السرير الطبي الذي يستلقي عليه خالد. كانت إلى قربه في الأشهر الثمانية التي قضاها في المستشفى بعد وقوع حادث السيارة. بقربه حين أجرى أربع عمليات جراحية. بقربه أول ما فاق من غيبوبته. بقربه تحاول أن تفهم تأوهاته التي لا يقدر على التواصل إلا من خلالها.
خرج من المستشفى وظل في البيت بجسد مشلول وفاقد القدرة على التعبير. بذلت جهدها في العناية به. تطمعه وتتخلص من فضلاته وتحلق لحيته. تجلس أمامه ممسكة كتابا تقرأه. صار لديها وقت تقرأ كل الروايات التي تريد قراءتها كما توقع لها، لكن الشيء الذي لم تكن تتوقعه هو أن تقضي بداية عشرينياتها بهذا الشكل. على محياها علامات الذبول وهي تحدق فيه بينما نظراته تتنقل في أرجاء الغرفة، وعلى السقف، وعلى جسده الهامد، وعلى جسدها حين تهم في الخروج من الغرفة. هل كان يتجنب النظر إلى عينيها؟
ولا تدري إن كان عقله واعيا لما حدث له ويحدث لها. وإن كان ما يزال يتذكرها.
***
مرت سنة واثنتين وثلاث. لم يستجد شيء على حالة خالد. جسد هامد بنظرات مبعثرة وفم مفتوح لا تخرج منه سوى الآهات. بعد عدة أشهر أعادت وفاء فتح محل الورد الذي تجلس فيه صباح كل يوم. ثم تقضي بقية يومها بقرب خالد.
اكتسبت عادات جديدة؛ بدأت بالتدخين، وصارت تبكي بصمت، وفقدت أي رغبة بالقراءة، ولم تعد ملابسها تلائم جسدها.
في السنة الثالثة، وهي على هذا الحال، التمعت في ذهنها فكرة لليلة الفالنتاين القادمة. حاولت مرارًا أن تدفعها لكن هذا لم يجعلها إلا أكثر إلحاحا. وبعد طول تفكير، حسمت أمرها.
في صبيحة يوم الفالنتاين لم تذهب إلى محل الورد. جلست بالقرب من سرير خالد. شغلت مسلسلا كوميديا على التلفاز وباشرت إطعامه فطوره الذي كان عبارة عن مزيج سائل من الخضار والدجاج المضروبة في الخلاط. ثم تناولت فطورها وهي تشاهد المسلسل وتلتفت عليه حين تضحك، لعله يشاركها ضحكها. لكن نظراته مبعثرة وملامح وجهه غير عابئة.
بعد الظهر ذهبت إلى الصالون بعدما أحضرت ممرضة تعتني بخالد حتى المساء.
وفي صبيحة اليوم التالي ليوم فالنتاين، رجعت وفاء إلى البيت. كانت تدندن لحن أغنية. نزعت حذاءها ذو الكعب العالي. أزالت رموشها الاصطناعية. خلعت أقراط أذنيها. دخلت غرفة خالد تلقي عليه نظرة قبل أن تخلد إلى النوم.
لم يكن خالد يحرك عينيه في كل مكان. شعرت بقشعريرة على وجنتها اليمنى. وجهها اكتسى باللون الأحمر. انتبهت أنها لم تنزع وردة التوليب من وراء أذنها اليمنى. عينيه في عينيها. قذفتها ذاكرتها بصورة صديقاتها في الفصل الدراسي وهن يصرخن: "خذولة خذولة". تداعى إليها صوت أمها وهي تعاتبها "هجرتينا". تجاهد تأخذ نفسا عميقا. تتخيل أول كلمة سيتفوه بها خالد، لو استطاع أن يتكلم.
١٠ يونيو ٢٠٢٤
قصص أخرى: