Via behance.net |
يحدق فهد في فنجان قهوته الذي يهتز مع رجرجة الطائرة. يستحضر اهتزاز قلبه كلما داهمته ذكرى داليا، التي لم يكن طول الزمن كفيلا لنسيانها.
هبطت الطائرة. استقل سيارة أجرة إلى الڤيلا التي سيقضي فيها نهاية الأسبوع. صاحبة الڤيلا سيدة صينية طويلة بشكل ملفت وشعرها يحاذي أذنيها. رحبت به وأخذته بجولة تعريفية إلى أن أوصلته للغرفة التي سيقطنها. يشاركه في هذه الڤيلا نزلاء آخرون.
سرت أيامه على نحو جيد. في صبيحة يومه الأخير قرر أن يتناول فطوره في الحديقة. حضّرت له العاملة فطوره المعتاد: بيضة مسلوقة وقطعة توست مع زبدة الفول السوداني وقهوة. جلس يتناول فطوره وجلست سيدة البيت تدردش معه لتسليه. أخبرته، بإنگليزية مكسرة، أن جل نزلائها من الصين. وأنها تتلهى بإدارة هذا العقار مع عقارين آخرين. وقد استطاعت قبل سنتين أن تتقاعد في سن مبكرة بفضل العوائد المرتفعة. تقضي أيامها برتابة مع ابنتها وثلاث قطط وعاملة وسائق. بينما تتحدث بلا توقف، تداعت إلى فهد صورة داليا. وتساءل "إلى متى؟".
***
بعد ثلاثة أسابيع عاد مجددا إلى نفس المدينة. نزل في فندق مع أصدقائه. في ليلتهم الأولى ذهبوا إلى ملهى ليلي. أكثر فهد من الشرب. وأخرج هاتفه، دون اكتراث بالعواقب، وأرسل رسالة نصية إلى السيدة الصينية يخبرها أنه رجع ليقضي نهاية الأسبوع هنا، ويرغب في الخروج معها لتناول العشاء. ثم وضع هاتفه في جيبه. بعد دقائق ليست طويلة، صرخ في وجه أصدقائه "قالت نعم".
اختار مطعما يابانيًا في أحد الفنادق الفاخرة. في لوبي الفندق أخبرهم العامل أن باصا سيمر بعد دقائق ليأخذهم إلى المطعم الذي يقع في ركن بعيد. لم يكن في الباص سواهما وسائحين أوروبيين. تحدثت عن زيارتها الأولى لهذه المدينة، "لم يكن أي من هذه الأبراج موجودا أول ما وصلت"، أكملت تلخص الخمس وعشرون سنة الماضية، "في بداية التسعينات نصحني صديق والدي للانتقال هنا. الشركات الصينية العاملة هنا كثيرة والفرص وفيرة. جئت لا أعرف شيئا عن البلد الذي سأعمل فيه ولا أتحدث غير الصينية. زوجي كان يعمل في الحكومة وجاء إلى شركتنا لمتابعة مشروع بيننا وبين الوزارة التي كان يعمل فيها. كان مختلفا جدا. لم يشعرني أني أقل منه لأنني أجنبية. صينية بالتحديد. تزوجنا بعد سنتين من معرفتنا ببعض. وأنجبت ميثاء، وأهله بعد لا يعرفون شيئا عني. ثم أصيب بسرطان الدم. خاف عليّ وعلى ابنته. أخبر أهله بكل شيء، ثم رحل بعد أشهر قليلة". التفتت إلى فهد وهزت رأسها، "حدث ذلك بسرعة. بعد وفاته جاءتني مضايقات من أهل زوجي. يريدون أن أقبل بالقليل من تركته وأتنازل عن البقية، وأن تكون ميثاء في رعايتهم. رفضت في البداية. لكني شعرت بالخوف. ثمة من يلاحقني ويراقبني. فرأيت أن أقبل على شرط أن لا أُحرم من ابنتي". أنصت إليها بتركيز، "يمكنني تخيل كم كان ذلك صعبًا. لكن ألا تحنين إلى الصين وأقاربك هناك؟". حدّقت فيه لوهلة ثم فلتت منها ضحكة، "يااااه حين أتيت هنا أنت كنت طفلا، بيبي يا فهد بيبي". شاركها فهد ضحكها بوجه محمَر. وأكملت، "والدي توفى قبل سنوات قليلة. كنت إلى جانبه في مرض وفاته. أخبرني أنه يريد أن يتنازل بكل ثروته لي لأن لا أحد من أخوتي أولاه أي رعاية أو اهتمام، لكني رفضت. لا أريد لهذه الوصية أن تجلب لي عداوتهم. الآن أنا ألتقي بأخي وأختي في كل رأس سنة صينية".
جلسا إلى الطاولة. طلب فهد أطباقًا متنوعة من السوشي. تناول قطعة من السلمون، غمسها بصلصة الصويا وتناولها بينما يستمع إليها تتحدث عن أفضلية المنازل الصغيرة على الشقق لتدني سعر الرسوم المستحقة عليها. تناول قطعة أخرى من التونا، غمسها في صلصة الصويا وقبل أن يتناولها أوقفت حديثها وقالت، "خذ شريحة زنجبيل". لم يفهم فهد ما ترمي إليه. "قبل أن تنتقل من طعام إلى آخر تناول شريحة زنجبيل لتجعل حلمات لسانك مستعدة لتذوق الطعم الجديد دون تأثير من الطعم السابق". أعجبته الفكرة. أخذ شريحة زنجبيل، بالعصي الخشبية، ومضغها. استشعر مزيج الخل والسُّكَر الغريب في الزنجبيل. بينما حلمات لسانه تتخفف مما ذاقته قبل قليل، سرح فهد يتذكر آخر مرة صادف فيها داليا. كانت تسير مع صديقتها وحين شاهدته اندمجت معها فجأة بحديث ضاحك. تتحدث وتتضاحك بصوت عالٍ. ربما حتى صديقتها استغربت نوبة الضحك تلك. لم يكن فهد يعرف كم شريحة زنجبيل يجب عليه أن يتناول الآن.
سألته في نهاية اللقاء متى سيعود مرة أخرى. أخبرها: بعد ثلاث أسابيع.
***
خلال الأسابيع الثلاثة امتلأ هاتف فهد بصور كثيرة لقطط السيدة الصينية. تفاصيل دقيقة ليومياتها مع النزلاء. وقصص عن غباء خادمتها التي تذهب معها في بعض الأيام للعب التنس. ووعود كثيرة عن رحلات يمكنها أن تصحبه فيها معها إلى الصين، حيث ستجعله يرى عالما لم يكن يحلم بوجوده.
في يوم وصوله أرسل لها عنوان الحانة البلجيكية التي سيتقابلان فيها للعشاء. أخذ طاولة مطلة على الشاطئ. طلب بيرة بلجيكية، وبينما هو ينتظرها لمح فتاة تشبه داليا. تلك الفتيات اللاتي يشبهن داليا يبدو أنهن أيضا يلاحقنه في كل مكان. وصلت السيدة الصينية بجينز أزرق وبلوزة زيتية. "أعتذر تأخرت عليك. لكن هناك بعض الأعمال التي يجب عليّ أن أنتهي منها اليوم. أخبرتهم أني لن أعود إلا في الغد". أخذ رشفة من البيرة ونادى النادلة ليطلب منها ريزوتو مع المشروم وهي طلبت سباغيتي مع كرات اللحم، وشددت على أن لا يُضاف إليه جبن. بينما يتناولان عشاءهما كان فهد ينصت إليها وينقل بصره بينها وبين المرأة التي تشبه داليا. إلى أن استوقفه لمعانٌ عند أذنيها. لؤلؤة كبيرة بلون ذهبي خفيف تزين شحمة أذنها. وحين تلتفت تظهر لؤلؤة صغيرة خلف شحمة أذنها. أشار إليها، "بديعة". ابتسمت وتحسست شحمة أذنها، ثم أقرت، "أفضّل اللؤلؤ على سائر المجوهرات. ليس لأحد فضل في كونه جميلا وكاملا. تختبئ اللؤلؤة في ظلمة المحارة، وتتشكل يومْا بعد يوم، طبقة فوق طبقة، ثم تمكث وحيدة متوارية في عتمتها تنتظر ذلك الشجاع الذي سيغامر ويخاطر ليغوص وينتزع المحارة من القاع ثم يخلصها منها، فتكافئه بالثروة والسعادة". نادى النادلة ليطلب كأسا ثانية من البيرة. طلب منها أن ترشح له نوعا مختلفا، فشرعت تشرح بتفصيل عن كل الأنواع المتوفرة، في تلك الأثناء انتبه إلى أن السيدة الصينية رَنَت ناحية الشاطئ. "هل هناك منفذ إلى البحر؟". سألته.
على شاطئ البحر. يسيران بأكف متشابكة. جلسا عند مقعد خشبي يحدقان في الموج الهائج. الهواء يعبث بشعرها. تنهدت، "كم لؤلؤة مخبوءة في هذا البحر؟". مر وراءهما أربعة أو خمسة صبية يتحدثون بصوت عالٍ. اقترب فهد منها وقبلها. تراجعت. قبلها ثانية. وثالثة. ولم يكن فهد، في تلك الأثناء، يفكر إلا في شيء واحد.