رحلة إلى اليابان - قصة قصيرة

 









سبتمبر،

تقلّب على سريره وهو يرجو أن تعود الجائحة مرة أخرى حتى لا يجمعه فصل واحد مع هؤلاء الطلبة.


أغمض الأستاذ سعود عينيه بعدما أطفأ نور الغرفة، واستلقى في منتصف سريره وجسده ما زال يرتجف. كان يستذكر ما وقع له في العام المنصرم، حين باشر عمله مدرسًا للتاريخ لطلبة المرحلة الثانوية. كم يكره طلبة السنة الرابعة! هؤلاء الحمقى الطافحون بالتستوستيرون. جرّعوه العذاب جراء تصرفاتهم الخرقاء ولامبالاتهم بمآلات أفعالهم.


في يومه الأول، نثروا مفرقعات على أرض الفصل، أمام السبورة، حيث يقف. وحين وطئت قدماه إحداها وقفز هلعًا، ماج التلاميذ بالضحك. استمرت مقالبهم من حين لآخر، وعندما حاول أن يفهم سبب سلوكهم هذا، أخبروه بصراحة فجّة أنهم لا يرون أي أهمية لهذه المادة المملة التي لن ينتفعوا بها في عملهم أو حياتهم المستقبلية.


بقية المعلمين يشتكون أيضًا من التصرفات الطائشة للتلاميذ، خاصة من أولئك الذين سيودّعون عما قريب هذه المدرسة ليبدأوا حياتهم الجامعية. وبكونه العنصر الجديد في المدرسة، تجرّأ عليه التلاميذ أكثر.



***



تحيا الكويت.

عاش الأمير.

تحيا الأمة العربية.


بدأ طابور الصباح كالمعتاد. رُفع العلم، وشرع التلاميذ يغنّون النشيد الوطني، وأمارات النعاس ظاهرة عليهم. ثم تابعوا، بتململ واضح على مُحيّاهم، ممارسة العمليات الرياضية مع أستاذ البدنية. ويمكنك أن تسمع همهماتهم أثناء فقرة الإذاعة المدرسية. لكن حين بدأ الناظر بتوجيه كلمته بمناسبة بداية العام الدراسي الجديد، سكتت جميع الأصوات. للناظر هيبة في قلوب التلاميذ. وقف في وسط الساحة، تحرّك الرياح لحيته البيضاء الطويلة وغترته، التي اعتاد ارتداءها دون عقال. 


في صبيحة ذلك اليوم الدراسي الأول، ألقى عليهم كلمة تشجيعية، وذكّرهم بأهمية عقد النية في العلم الذي يطلبونه.  ووجّه تحية وشكرًا لكل من يعمل على إنجاح المدرسة، من معلمين وتلاميذ وحتى عمال النظافة، فلكلٍّ دوره المهم الذي لا يمكن الاستغناء عنه. وأعرب عن تفاؤله بأنهم يستطيعون معًا أن يخلقوا بيئة استثنائية تحبّب الطلبة بالعلم. ثم أخبرهم أن في جعبته الكثير من المفاجآت السارة للتلاميذ المتفوقين والملتزمين بالأخلاق الرفيعة.


ثم تغيّرت نبرته وهو يلتفت إلى مجموعة من المعلمين المجتمعين خلف العلم: التدخين ممنوع منعًا باتًا. لا يليق بطلبة العلم، ولا بحملته، ممارسةُ هذه العادة القبيحة. ولا يليق أن تنبعث منهم رائحتها الكريهة. ما حدث في العام الماضي لن أسمح له أن يتكرر.


الناظر، الذي لم يكن يخاطب التلاميذ إلا بعبارات مثل، "يا أحبابي" و"يا أبطالي"، هو أحد أسباب جرأة التلاميذ على معلميهم. لطالما انحاز إلى صفّ التلاميذ حين يشتكي أحد المعلمين من سلوكٍ سيّء لأحدهم، فلا يكون من الناظر إلا أن يطلب من التلميذ التوقيع على تعهّد بعدم تكرار هذا الفعل. هذا أقصى ما كان يفعله.


يؤمن الناظر بالتغيير من خلال المكافآت والتشجيع، لا من خلال العقاب والنقد. لكن هذه المنهجية تتغير حين يكون المخطئ أحد المعلمين. ففي العام الماضي، أنهى خدمات الأستاذ شربيني، معلم الرياضيات، الذي عمل في المدرسة أكثر من 18 سنة، فقط لأنه شمّ في ثيابه رائحة سجائر.


بعدما انتهى الناظر من إلقاء، كلمته توجّه التلاميذ إلى فصولهم أفواجًا. وبدأت مأساة الأستاذ سعود.


أول حصة دراسية لديه كانت لتلاميذ الفصل الرابع. حاول أن يتظاهر بالثقة وهو يسير إلى الفصل، فدخل نافخًا صدره، لكنه لم يكد يصل إلى أمام السبورة حتى انزلقت قدمه وسقط على الأرض. ابتل قميصه وبنطاله بالماء والصابون. لم يتعلم الأستاذ سعود الدرس من العام الماضي.


بينما هو مستلقٍ تتناهى إلى سمعه ضحكات الطلبة، فكّر في نفسه أنهم بالتأكيد لا يرونه شخصًا ذا اعتبار، ولذلك أعدّوا له مثل هذا المقلب المهين. إنهم يستقصدونه، وما زالوا ينظرون إليه على أنه العضو الجديد في جسم المدرسة. ظلّ على الأرض برهة، حتى لمعت في ذهنه فكرة. نهض، ونصف جسده الأيسر مبتل، ثم خرج من الفصل.


شعر التلاميذ بالزهو لنجاح مقلبهم وانشغلوا باللعب في هواتفهم، باستثناء فهد، ذلك الصبي القلق ضئيل الجسد، الذي تبع الأستاذ سعود عندما خرج، ثم عاد ليهتف بهم: الأستاذ راح باتجاه غرفة الناظر!


ترامق الطلبة لوهلة، ثم قال مصعب، صاحب العضلات المفتولة: ماذا سيفعل؟ هو لا يعرف من دبّر المقلب.

قال عبدالرزاق، ذو الوجه الأسمر المليء بحب الشباب: لن يستطيع معاقبة الفصل كله.

أطرق فهد يفكر، ثم قال: كل ما بيده هو حرماننا جميعا من درجات النشاط.

ثم أضاف: خمس درجات لن تؤثر.

قال مصعب وهو ينظر إلى شاشة هاتفه: ربما ينتهي الأمر بأن نوقّع تعهّدًا على عدم تكرار هذا الفعل.


كانوا متأكدين أن هذا الأستاذ، مثل غيره، لن يستطيع معاقبتهم على أفعالهم.


تهامس بعض التلاميذ: وصل الأستاذ، وصل!


دخل الأستاذ سعود بملابسه نصف المُبلّلة. سار ببطء حتى صار أمام السبورة، ثم وضع كلتا يديه على ظهر كرسي أمامه. لم يكن يطيق النظر إلى وجوههم. مرّر نظراته على سائر أرجاء الفصل، الذي امتلأ بالصمت، ثم قال: لديّ خبر سعيد وآخر حزين، وسأبدأ بالثاني. لقد اتفقت مع الناظر على وضع أسماء جميع تلاميذ هذا الفصل في قائمة الممنوعين من الذهاب في الرحلة التي سوف تنظمها المدرسة في الصيف القادم إلى اليابان. أما الخبر السعيد، فلا توجد حصة دراسية اليوم، يمكنكم الاستمرار باللعب في هواتفكم.


بدا صارمًا بأكثر مما تسمح به شخصيته، لأول مرة منذ بدأ التدريس. استدار ليخرج من الفصل سريعًا، لئلا يتيح لأيٍّ منهم التفوه بأي كلمة. خطى خطوته الأولى، فالثانية، ثم ارتفع جسمه عن الأرض ليسقط مرة ثانية. 


هذه المرة لم يضحك أيُّ أحدٍ من التلاميذ، بل سارع ثلاثة منهم إليه، يرفعونه عن الأرض بعدما ابتلّ نصف جسده الأيمن.


بعدما خرج الأستاذ سعود، ترامق الطلبة بعيون واسعة وأفواه مفتوحة، حتى كسر مصعب حاجز الصمت: ما قصة رحلة اليابان؟


رد عبدالرزاق: مستحيل! كيف يمكن أن يرسلوا كل الطلبة في رحلة كهذه؟


اعتاد الطلبة على الرحلات المفاجئة التي يحرص الناظر على تنظيمها كل سنة، إلا أن تلك الرحلات لا تشمل أكثر من فصلين أو ثلاثة، وغالبًا ما تكون إلى المسجد الكبير، أو معرض الكتاب، أو جال الزور في بر كاظمة، مرة واحدة فقط نظّمت المدرسة رحلة إلى جزيرة فيلكا، وكان ذلك قبل عدة سنوات، ولم تتكرر بعدها.


لكن اليابان! هذه الرحلة خارج نطاق خيالات الطلبة.


تساءل فهد: ربما هذا ما عناه الناظر اليوم في كلمته عندما قال أن لديه مفاجآت كثيرة للمتفوقين؟

ثم أضاف: ربما يقصد معرض الإكسبو الذي سيقام في اليابان، شاهدت العديد من الإعلانات عنه في إنستقرام.

وافقه عبدالرزاق: حتى أنا شاهدتها. يقولون أنه سوف يستمر ستة أشهر. إعلانات كثيرة جدا عنه وعن المشاركة الكويتية فيه. يبدو أن هذه هي المفاجأة التي عناها الناظر.


كان مصعب مستغرقًا في التحديق إلى الحائط. ثم أكمل فهد تساؤله: ماذنبي أنا لأُحرَم من السفر إلى اليابان؟ أنا لم أشارك في المقلب ضد الأستاذ، وحلمي أن أرى اليابان.

علّق عبدالرزاق: حلمي أنا أيضا. أنا مثلك، لم أشارك في هذا المقلب. لا أستحق أن أُحرَم من رحلة كهذه.


خيّم الصمت في الفصل. سرت في عروقهم فكرة واحد. المبادرة بالاعتذار من الأستاذ ومعاهدته على عدم تكرار ما حدث.


أما مصعب، فما يزال يحدّق في الحائط.



***



ذهب الأستاذ سعود إلى منزله مبكرًا في ذلك اليوم، فلم يكن بمقدوره البقاء بثيابه المبللة. وفي اليوم التالي، حين عاد إلى الفصل لتقديم الدرس، استقبله الطلبة باعتذارهم إليه، وأغلظوا له الأيمان أنهم لا يعلمون من سكب الماء والصابون، إذ لم يدخلوا إلى الفصل إلا بعد الطابور. ورجوه أن يسامحهم، وألّا يعاقبهم بهذ العقوبة القاسية، لأنهم يحلمون أن يكونوا من ضمن الطلبة المشمولين في الرحلة إلى اليابان.


أجابهم الأستاذ سعود: أصدقكم القول، أنا لا أكترث بالشخص الذي ارتكب تلك الحماقة. لا يهمني من فعلها. ولكن إذا عاهدتموني على انضباط سلوككم في الفصل من الآن حتى نهاية العام الدراسي، فأعدكم أنني سأتوسط لكم عند الناظر لتنضموا إلى الرحلة.


تنفّس الطلبة الصعداء، واستشعروا مدى طيبة قلب أستاذهم. ووافقوه فورًا على هذا العرض المغري، وبدأ الأستاذ سعود يُعلّمهم أول درس في التاريخ.



***



في الفسحة الأولى، اجتمع الأستاذ سعود مع مجموعة من الأساتذة لتناول الفطور. سأله الأستاذ تيسير، معلم الفيزياء، عن سبب غيابه أمس، فأخبره: لأنني أدرّس مجموعة من الأوغاد الذين سكبوا ماءً وصابونًا في مكان وقوفي في الفصل، وكان ما كان.

تعاطف معه الأستاذ تيسير قائلًا: كان الله في عونك. نحن فعلًا نعاني مع هؤلاء الطلبة المدللين. يجب أن يُسمح بضرب الطلبة لتأديبهم، كما تربّينا نحن، وانظر كيف أصبحنا! أجمل ما يكون.

تدخل الأستاذ شوقي، معلم الرياضيات: جيل عفن حقًا. تخيّلوا، رغم أنني بهذا السن، مع ذلك يصرخ عليّ أحد التلاميذ بعبارة «يا الأصلع!» كلما أعطيتهم ظهري لأكتب على السبورة. هل هذا يليق؟ نحن عمرنا ما فعلنا ذلك مع معلمينا.

تأفف الأستاذ تيسير: هذا غيض من فيض. أنا كرهت التدريس بسببهم. والمشكلة أن هناك من يدافع عنهم ويمنع عنهم العقاب من باب أن التشجيع والمكافأة هي الأنجح على تحفيز الطلبة وتغييرهم للأفضل. كلام فارغ.

أضاف الأستاذ شوقي: أفكار متعفنة.

قال الأستاذ سعود: التشجيع، إذا استُخدم بالطريقة الصحيحة، فإنه قد يجدي نفعًآ. على الأقل، يعطيهم أملًا.

ردّ الأستاذ شوقي: جرّبناه طوال السنوات السابقة ولم ينفع. هؤلاء الطلبة مستحيلون.



***



نوفمبر،

استمر شهر العسل بين الأستاذ سعود وتلاميذه لأكثر من شهرين. الطلبة منضبطين إلى أقصى حد، ويبادرون إلى سؤاله بعد انتهاء كل درس عن رحلة اليابان، تفاصيلها، مدة الإقامة، والمدن التي سيزورونها.


رفع عبدالرزاق يده: أستاذ، هل سنستقل القطار السريع؟ سمعتُ أنه يسير أسرع من الطلقة.

أجاب الأستاذ سعود دون تفكير: مؤكد، سوف نستخدمه. هو أفضل وسيلة للتنقل بين المدن البعيدة.

سأله فهد وعلامات الإحراج والتردد بادية عليه: أستاذ..

ابتسم الأستاذ سعود رغم توالي الأسئلة الكثيرة عن الرحلة: نعم يا فهد، تفضّل.

قال فهد، وعيناه تتقافزان في أرجاء الفصل: هل هناك فرصة أنني.. يعني.. خلال الرحلة، أقابل كيكو ميزوهارا، ويعني مثلًا، أصوّر معها؟

لم يتمالك الأستاذ سعود نفسه: هاهاهاها! تحبها يا فهد؟

احمرّت وجنتا فهد. أكمل الأستاذ سعود جوابه: لا تقلق، أنا بنفسي سأضمن لك مقابلتها. لأننا في رحلة رسمية وذلك سيجعل الوصول إليها أمرًا ليس صعبًا. ستقابلها، وتصوّر معها، بل وتحضنها بعد. ما رأيك يا فهد.


لم يتمالك فهد نفسه، فاندفع نحو الأستاذ وأخذه بالحضن، وارتفعت أصوات الطلبة المبتهجين بما سمعوا، والمنهمكين بالتخطيط لرحلتهم إلى اليابان.


هتف الأستاذ سعود: طيِّب، إلى هذا الحد ننهي الأسئلة المتعلقة باليابان، لأن الحصة التالية تكاد تبدأ.


أوقفه صوت مصعب: سؤال أخير يا أستاذ.

ردّ الأستاذ سعود وهو يجمع أغراضه م المكتب أمامه: بسرعة يا مصعب.

قال بنبرة جادة: هل يمكن لنا أن نجرب الساكي في الرحلة؟

ردّ ممازحًا: مصعب يا مصعب، تريد أن تشرب الخمر في رحلة مدرسية؟ نعم، مسموح يا مصعب.


تعالت أصوات الاندهاش من التلاميذ. حتى مصعب نفسه لم يصدّق الإجابة التي سمعها. حاول أن يتأكد مما سمع: قلتَ مسموح يا أستاذ؟

ردّ بتعابير جادة: نعم، أنا أضمن لك بأنه مسموح، بشرط أن يكون الساكي خاليًا من الكحول.


ثم سارع الأستاذ بالخروج من الفصل وسط ضحكات التلاميذ على خيبة أمل مصعب.



***



ديسمبر،

كانت الأجواء إيجابية في غرفة المدرسين. أستاذ شوقي يصحح أوراق اختبارات وهو يدندن أغنية «على حسب وداد قلبي». علّق الأستاذ تيسير: دامت عليك الأفراح يا شوقي.

ردّ الأستاذ شوقي: أنا سعيد جدًّا جدًّا. ألم تلاحظوا التغيير في الطلبة؟

أيّده الأستاذ تيسير: بلى، لاحظت. كما لو أن مخلوقات فضائية خطفتهم من الأرض، وصحّحت برمجتهم، ثم أعادتهم.

علّق الأستاذ سعود بزهو: يبدو أن التشجيع أثمر مع الطلبة. ها هم أمامكم يتغيرون للأفضل.

رفع الأستاذ شوقي عينيه عن الأوراق، وقال: في الحقيقة، سمعت خبرًا غريبًا من بعض الطلبة، يزعمون أن هناك رحلة مدرسية إلى اليابان! يعني، صحيح أن الدولة غنية، وميزانية الوزارة وفيرة، لكن ارسال عدد كبير من تلاميذ الثانوية للتجوال في شوارع اليابان هو شيء لا أستطيع فهمه.

عبّر الأستاذ تيسير عن استغرابه: سمعت عن هذه الرحلة من بعض الطلبة، واستغربتها جدًّا. لكن في الوقت نفسه، هذه الرحلة تندرج ضمن نهج الناظر في إغراق الطلبة بالدلال.

قال الأستاذ شوقي: إذا كان ما يزعمون صحيحًا، فأرجو أن أكون من المدرسين الذين سيلتحقون بها.

رد الأستاذ تيسير: هذا الفصل الأول قد انتهى، وكلها أسابيع قليلة ويعود الناظر من إجازته. عندها، سيتم تبليغنا بجدول رحلات الفصل الثاني، وسنعرف من الذين سيذهبون في الرحلة، سواء من المعلمين أو من الإدارة.



***



يناير،

قدّم أستاذ سعود حصّته وهو يلحظ فراغ الكرسي الذي يجلس إليه مصعب. ربما منعه المرض من الحضور. فكّر في نفسه، ثم شرع في تقديم درسه. إلا أن تفاعل التلاميذ كان على غير العادة. طاقتهم منخفضة، ولا أحد يرفع يده للمشاركة. هامدين على كراسيهم.


لم يستطع الاستمرار على هذا النحو، سألهم: ما الأمر؟ ما بكم اليوم؟ لا تتكلمون، هل حدث شيء؟

أجابه عبدالرزاق بصوت منخفض: أستاذ، هل رحلة اليابان حقيقية؟


احتشدت عيون التلاميذ على وجه الأستاذ تنتظر جوابه: طبعًا حقيقية، ومن الذي شكّك فيها؟


رد عبدالرزاق: بالأمس، جاء بعض التلاميذ من فصل آخر، وأخبرونا أن هذه الرحلة يستحيل أن تكون حقيقية، فلم تحدث رحلة مثلها لهذا العدد الكبير من التلاميذ من قبل. حاولنا إقناعهم دون جدوى، حتى تجرّأ أحدهم واستهزأ بمدى سذاجة عقولنا التي تصدّق مثل هذه الأخبار، وهنا اندلع شجار عنيف معهم، لكننا لقّنّا هؤلاء الأوغاد درسًا يا أستاذ، ولكن مصعب…


تساءل أستاذ سعود: ما بال مصعب؟


قال عبدالرزاق: مصعب لم يستطع أن يطرد أفكارهم من رأسه. بعد نهاية اليوم الدراسي، رأى أنه من المحتمل أن يكون كلامهم صحيحًا، وأن الوحيد الذي بإمكانه أن يؤكد أو ينفي هو الناظر، لكنه غير موجود الآن بسبب إجازته. فقرّر التوقف عن القدوم إلى المدرسة لأن الرحلة التي حلم بها، لا تبدو حقيقية.


اعتدل أستاذ سعود في وقفته، وأجاب بحزم: اسمعوني جيدًا. هل تعرفون ماذا يقول عنكم الناظر؟ دائمًا يقول أنكم أنتم أبناؤه وأحباؤه. هل تتوقعون من ذلك الرجل العظيم، الذي يحبكم جدًا، أن يعدكم بشيء ثم لا يفي به؟ يتلاعب بكم مثلا؟ هذ التصرف لا يليق بمن هم مثله. وأنا على تواصل أسبوعي معه لأطمئن على صحته، وفي كل مرة أتحدث معه، ماذا يقول لي… ها؟ توقعوا. نعم نعم، يسألني عن تنسيق الرحلة، ويسأل عن أبنائه التلاميذ الذين يحبهم جدًا. أنتم أبناء الناظر وأحبابه، لن يخيب ظنكم. هل كذبت عليكم في شيء من قبل؟


ردّوا جميعًا: لأ يا أستاذ.


أكمل جوابه: إذن، عليكم أن تصدّقوني حين أقول لكم أنني أقوم على تنسيق جميع تفاصيل الرحلة مع الناظر، وتحديد التلاميذ الذين سيكونون فيها، وهم، كما أخبرتكم سابقًا، من يملكون درجات مرتفعة وسلوكًا منضبطًا.


استفسر أحد التلاميذ، والذي لم يرفع يده قط منذ بداية العام الدراسي: يعني يا أستاذ، الناظر بنفسه أكد لك هذا الشيء؟


أجاب الأستاذ سعود: الناظر بنفسه أكد لي أمر الرحلة أكثر من مرة. لا عليكم من هؤلاء التلاميذ الذين يشككون في أمرها، أتدرون لماذا يفعلون ذلك؟ لأنهم فشلوا في الحصول على درجات تؤهّلهم للالتحاق بها، وأتوقع كما لاحظتم من تصرفهم معكم أن سلوكهم غير منضبط، أليس كذلك.


رد التلاميذ: صح يا أستاذ.


ختم أستاذ سعود كلامه: حسنًا، أريد منكم أن تطردوا أفكار هؤلاء الطلبة غير المنضبطين، أصحاب الدرجات المنخفضة. وأريد منك يا عبدالرزاق أن تتحدث مع مصعب وتقنعه بالعودة، فهو قد سار شوطًا طويلًا وستمر الأيام الدراسية سريعًا حتى نجد أنفسنا جميعًا نتجول في شوارع اليابان، ونتناول السوشي، ونستمتع بالانغماس في ينابيع الماء الساخنة أمام جبل فوجي، بينما نتذكر هؤلاء الطلبة الفاشلين الذين حاولوا التشكيك في هذه الرحلة، ونضحك عليهم وعلى خيبتهم.


ردّ عبدالرزاق بتفاؤل، وبابتسامة ترتسم على محيّاه: حاضر يا أستاذ، غدًا سيعود مصعب إلى المدرسة.


خرج الأستاذ سعود من الفصل وهو يتنفس الصعداء.



***


فبراير،

في غرفة المعلمين، كان الأستاذ تيسير منشغلًا بقراءة الجريدة، بينما يجلس فهد أمام مكتب أستاذ سعود يستفسر منه عن بعض المسائل التي أشكلت عليه من الدرس الماضي.


دخل الأستاذ شوقي وهو يدندن: معايا ريال معايا ريال.


أشاح الأستاذ تيسير وجهه عن الجريدة وسأله: ماذا معك؟


جلس أستاذ شوقي إلى مكتبه وقال: للتو جئت من مكتب الناظر، وأعطاني هذا الظرف. فيه جدول رحلات هذا الفصل.

ارتفع حاجبا الأستاذ تيسير: لم أرَ الناظر في الطابور، كيف هي صحته؟

رد الأستاذ شوقي: لا بأس، ما تزال بادية عليه أمارات التعب، وما يزال يواجه صعوبة في النطق والمشي، ويعتمد على كرسيه المتحرك.


التفت الأستاذ سعود إلى فهد وأمره بالانصراف، فنهض من أمام مكتبه وخرج من غرفة المعلمين.


امتلأت عينا الأستاذ تيسير بالفضول: أخبرنا ماذا في الجدول؟

أخرج الأستاذ شوقي الورقة من داخل الظرف وقال: لا يوجد شيء لنناقشه أصلًا.

تعجب الأستاذ تيسير: يعني، لا توجد رحلات؟

قال الأستاذ شوقي: رحلة وحدة فقط.

انحنى الأستاذ سعود للأمام: ما هي التفاصيل؟ أرجوك!

رفع الأستاذ شوقي الورقة أمام وجهه وقرأ: رحلة إلى بيت السدو، يوم الخميس الموافق السابع عشر من أبريل. ثم قلب نظره بين وجهي الأستاذ سعود والأستاذ تيسير، اللذين كانا يحدقان فيه، وصرخ: ها ها ها ها ها ها ها.

قال الأستاذ تيسير بصوت مرتبك: ماذا يعني؟ رحلة اليابان كذبة؟

رد الأستاذ شوقي ساخرًا: أكبر كذبة بلعناها نحن والتلاميذ! ها ها ها ها ها.


انتبه الأستاذ سعود إلى مرور فهد من خارج نافذة الغرفة، كان يتلصص عند الباب.



***



وصل فهد إلى الفصل بعيون غارقة في الدموع، أما الأستاذ سعود فقد توجه بخطوات سريعة إلى السطح، إلى مكان يُطل على الساحة.


توقّع أن هذا سيحدث، لكن ليس بهذه السرعة.


بعد دقائق قليلة، تابع من مكمنه التلاميذ وهم ينزلون السلالم مسرعين ناحية غرفة الناظر. تجمهروا أمام باب مكتبه المقفل، وصاحوا فيه ليخرج: أخرج يا كذاب! أخرج يا مخادع! لماذا كذبت علينا؟ أخرج.


اقترب بعض المعلمين ليفهموا ما الذي يحدث، لكن التلاميذ تجاهلوا وجودهم وشرعوا في ضرب الباب بأيديهم وأرجلهم، حتى كاد الباب أن ينخلع.


أخرج الأستاذ سعود من جيبه علبة سجائر مارلبورو، وضع سيجارة في فمه وأشعلها. أخذ نفسًا عميقًا وعاد يتابع المشهد من بعيد.


فُتح الباب، وظهر الناظر على كرسيه المتحرك، مستغربًا الجلبة عند مكتبه. كان حاسر الرأس والذراعين، والماء يتقاطر من جسده. جاهد نفسه ليفتح فمه: يا… أح… باااا…


لم يتمكن من إكمال الكلمة، ولم يكن التلاميذ يريدون تضييع المزيد من الوقت في الاستماع إليه. انهمرت أياديهم على جسده، انتزعوه من كرسيه المتحرك وطرحوه أرضًا، وتناوبوا على ركله.


كان المعلمون حولهم عاجزين عن الوصول إلى الناظر، واكتفوا بالصراخ على التلاميذ، دون جدوى.


أخذ الأستاذ سعود نفسا من السيجارة، وفكّر، إنهم يتصرفون على فطرتهم.


ثم سحلوا الناظر إلى الساحة. وتمكن الأستاذ سعود من تمييز فهد، الذي جرّ الناظر من لحيته حتى استلقى بالقرب من سارية العلم. بطن الناظر وصدره يرتفعان وينخفضان بوتيرة سريعة، وتظهر لحيته البيضاء الطويلة وقد تخلّلها اللون الأحمر. امتزج دمه مع ماء وضوئه. وكان يتأوه بصوت خافت لا يكاد ينتبه إليه أحد.


لم يبقَ إلا الخطوة الأخيرة. قال الأستاذ سعود في نفسه وهو يدوس على سيجارته.


شاهد مصعب جالسًا على صدر الناظر، يوجّه إليه لكمة تلو الأخرى، واستمر هكذا حتى بعد أن توقّف الناظر عن إبداء أي ردة فعل. انحنى تلميذ بجانب مصعب، قال له شيئًا، فترجّل مصعب مع بقية التلاميذ، وانصرفوا ناحية باب المدرسة.


جلس أستاذ سعود على الأرض وأسند ظهره إلى الجدار، وقال في نفسه، يجب عليّ أن أبقى هنا حتى أتأكد من انصراف جميع الطلبة ثم يمكنني الخروج.


نهض ليلقي نظرة على الساحة، فشاهد مصعب وقد عاد يمشي على مهل دون أي مبالاة، حتى وقف أمام الناظر، ثم بصق على وجهه، ورجع إلى بقية التلاميذ خارج المدرسة.




فبراير، 2025