ورد بلاغ إلى غرفة العمليات يفيد بالعثور على شخص متوفى داخل مركبته:
(ج. ج. ن)
(33 سنة)
لا توجد آثار إصابات أو عنف ظاهر على جسده. وأفاد التقرير الطبي بوجود كميات كبيرة من الهيروين في الدم بهدف الانتحار، لا مجرد التعاطي.
وبعد تفتيش المركبة، عثرنا على رسالة مكتوبة بخط اليد (أُرفقت نسخة منها).
رقم البلاغ: 2025/667802
الضابط المبلّغ: النقيب / خالد سعد
الموضوع: انتحار شاب
التاريخ: 8 أبريل 2025
الوقت: 23:44
***
أهلا،
مرت ثلاثة شهور كاملة منذ آخر لقاء بيننا. كلما شرعتُ في التواصل معك تذكرتُ كلامك الجارح فأمتنع. لكن الأمر الآن أصبح أكبر من مشاعري. الأمر أكبر مني ومنك.
نعم، سأبدأ رسالتي لأخبرك أن كلماتك جرحتني. جرحتني وآلمتني واخترقت أجزاءً بعيدة في أعماقي.
كلماتك التي تتفوه بها هي التي تؤلمني، وليست التي تكتبها، فأنت تعرف كيف تنتقي مفرداتك قبل أن تضعها على الورقة، كما كان جليًا في الرسالة التي كتبتها لي في لايدن.
لكن كلماتك التي تتفوه بها دون وعي أو تفكير كانت مؤلمة، وأنا أشك أنك تتذكرها. ورغم ذلك، لم تفارقني تلك الكلمة اللعينة منذ أطلقتها من فمك.
حسنًا، أريد الآن أن أخبرك بكل شيء، لأنك يجب أن تعرف.
يجب أن تعرف أن هناك أمرًا واحدًا سيّر سنوات حياتي الماضية. أمرًا واحدًا شكّلني على ما أنا عليه اليوم، وهو أنني فقدت الأمل في الحياة باكرًا.
خلافًا لكل صديقاتي اللاتي ظللن طوال حياتهن يحلمن بالوقوع في الحب والأمومة، عرفتُ منذ وقت مبكر أنني لن أقع في الحب، ولن أسمع كلمة "ماما" أبدًا.
وهذه القناعة سيَّرت بقية حياتي.
ففي مراهقتي، وبعد أن فقدت أيَّ معنى لحياتي، سعيتُ جاهدة، وبذلتُ قصارى جهدي لأعوّض ما لن أناله أبدًا.
رحلتُ بعيدًا في خيالي، ووضعت مسافة بيني وبين الواقع الذي أعيشه كل يوم، فوجدت في أفلام الكرتون اليابانية (الأنمي) ما أبحث عنه. انكببت على مشاهدتها وتقمصت شخصياتها، حتى أنني لبست ملابسها في مهرجانات الكوسبلاي، وأتقنت تلوين وجهي لأشبهها. وصرت أقلِّد تصرفاتها وأردد عباراتها الشهيرة. نعم تعلمت اليابانية، وعُرِفتُ مذّاك بالفتاة التي تتحدث اليابانية. وصار أصدقائي ينادونني باسم: ورورد-شان.
انغمستُ في عيش هذه الحياة الطفولية، وخلقت الطفلة التي كنت أعرف أنني لن أنالها. وكذلك انغسمت في الفن الكوري، ووقعت، مثل كثير من الفتيات، في حب المغنين الكوريين الذين ما زلت أستمع إلى أغانيهم طوال الوقت. ولم يكن غريبًا أن أدمن مشاهدة الأفلام وقراءة الروايات الفنتازيّة، فقد وجدتني أهيم بكل شيء يبعدني عن واقعي اليومي.
أتقنت دور الفتاة الخجولة التي تتحدث اللغة اليابانية والمغرمة بالمغنيين الكوريين. هكذا يصفونني. لكنني، في الحقيقة، لم أكن كذلك. لم أكن خجولة أبدًا، بل كنت بعيدة كل البعد عن ذلك. ففي أول مهرجان كوسبلاي شاركت فيه (كنت في الجامعة)، شاهدت شخصًا متنكرًا بملابس باتمان. لم أتمالك نفسي. اندفعت ناحيته وحضنته. لففت ذراعيّ على جسده القوي، ثم أخذت صورة معه: "باتمان والفتاة الخجولة التي تتكلم اليابانية". وفي تلك الليلة، بينما كنت أحضن مخدتي، غمرني شعور لذيذ بالسعادة، مثل لذّة تناول آيسكريم بنكهة الفراولة في أيام الصيف.
لعلك تتساءل وأنت تقرأ رسالتي - ستقرأها أليس كذلك؟ - لماذا أخبرك بكل هذا؟ ببساطة، لأنك يجب أن تعرف.
وكذلك أحببتُ رجال الإطفاء.
كيف يمكنني أن أوضح لك ذلك بكلمات لا تسيء فهمها، وأنت المفتون بمعرفة الحقيقة؟
مازلتُ أتذكّر لقاؤنا الأول في مقهى كافيين، عندما دعاني شملان لأنضم إليكما. كنتَ تتحدث بهدوء ولا مبالاة، ثم تضع السماعات على أذنيك وتنكبّ على القراءة وتتجاهلنا بينما كنا نلعب الشطرنج. وحين حاولتُ أن أفتح موضوعًا معك وسألتك، "ماذا تقرأ؟"، أخبرتَني أنك تقرأ كتابًا عن الشعر القديم. لاحظت مدى القلق الذي كان يعتريك وأنت تتحدث عن هذا الموضوع، "ليس في الشعر القديم سمات للحياة العربية القديمة، لا ذكر لأصنامهم ولا للربا ولا لوأد البنات. ألا يعني هذا بأنه كُتب في وقتٍ لاحق؟ كتبه العرب لاحقًا؟". كانت هذه عباراتك، أو شيًا قريبًا منها.
ذكرتَ رجلًا يُدعى حميد، أو حامد، لا أتذكر. وقلت أنه كتب أغلب هذا الشعر القديم، حتى أنه اختلق بعض الشعراء من العدم. كان كلامك غريبًا، ولم أكن أفهم لماذا أنت مشغول بمدى حقيقة تلك القصائد القديمة أو زيفها. ما يضرك لو كانت مزيفة؟
"لأنه يقرأ هذه القصائد في صلاته". هكذا علّق شملان ساخرًا بعدما أنهيت حديثك ووضعت سماعتك واستأنفت القراءة. كنتَ تبالغ كثيرًا.
لكن حين تأملتُ لاحقًا ما جرى، خطر في ذهني أنك ربما تكون مثلي تمامًا. ربما أدركتَ شيئًا مزيفًا في حياتك، شيئًا ذا قيمة بالنسبة لك، ذا أهمية بالغة، ثم تبيّن لك زيفه. بعد ذلك، قررتَ دون وعيّ منك، أن تنصرف عن واقعك وتنغمس في العيش في واقع آخر. مثلي تمامًا. لذلك أنت تتألم حين تشاهد علامات زيفٍ تحوم في العالم الذي صار يحتويك الآن. هل أصبتُ في تفسيري؟
هل أخبرك أحد أنك، كلما تحدثتَ عن الحقيقة والزيف في الشعر القديم، يكتسي وجهك بملامح بائسة؟
"الأخطل والفرزدق وجرير، معهم فقط بدأ الشعر الحقيقي. كل ما كان قبل ذلك من شعر، بكل ما فيه من مشاعر وتجارب وحكايات، هو مجرد وهم أو ممزوج بالأوهام". بعد تلك المحادثة، لم أكترث لوجودك أبدًا في الحقيقة، وصرتُ لا أنتبه لك إلا حين تعود من الخارج بعدما تنتهي من تدخين سيجارة، لأن رائحة السجائر تقرفني.
ما الذي جرّ الحديث إلى هنا؟ آه.. نعم، رجال الإطفاء.
بعدما تخرجتُ من الجامعة، قضيتُ الشهور الأولى في انتظار وظيفتي. فقد كنتُ آخذ روايتي صباح كل يوم وأذهب إلى ستاربكس القريب من منزلي. أجلس وأقرأ الرواية حتى وقت الظهيرة. لفت انتباهي شاب طويل جدًا، يأتي بثياب العمل، وكان يعمل رجلَ إطفاء. منذ دخوله المقهى حتى خروجه كنت أعجز عن القراءة. أترك الكتاب مفتوحًا دون أن أتجاوز الصفحة التي دخل معها. له حضورٌ آسر، ولم يكن يفارق ذهني لأيام.
اسمه سلطان. التقطت اسمه وأنا أستمع إليه يطلب قهوته، "اسبرسو دبل شوت، بليز". يأخذ فنجانه ويجلس أمامي على الأريكة الملاصقة للزجاج. يسند ظهره، ويمسك بكفه اليسرى صحن الفنجان، ويتناول الفنجان بيمينه، ثم يرتشف منه ببطء وهو ينظر إلى المارّة. لم يلتفت إليّ أبدًا، بينما كنتُ أسترق النظر إليه وأنا أحاول إخفاء اختلاج صدري. هكذا كل يوم.
إلى أن التمعت في ذهني فكرة. ففي أحد الأيام التي أتى فيها إلى المقهى في الوقت المعتاد، استجمعتُ قواي ونهضتُ من مكاني وتوجهتُ إليه. ابتسمتُ وأنا أمدّ إليه كفي:
- مرحبا أستاذ.
- أهلا، مرحبتين.
- لفتت انتباهي ثيابك، وأحببتُ أن أعرف ما إذا كنتَ تعمل في الإطفاء؟
- نعم، هل تودين الإبلاغ عن حريق؟
ثم ضحك. لكنه كان محقًا، إذا كان لديك حريق يشتعل فأفضل ما تفعله هو أن تطلب رجل إطفاء، أليس كذلك؟
- لا لا، ليس لديَّ حريق.
تصرفتُ كما لو أن وجنتيّ احمرتا خجلًا، وأكملت:
- لدي مشروع في الجامعة لتصوير فيديو توعوي، وأحببت أن أعرف إمكانية الذهاب إلى محطة الإطفاء وتصوير الفيديو هناك.
بعد دقائق كنتُ في محطة الإطفاء برفقة رجل إطفاء. وبعدها بأيام قليلة استيقظتُ على سريره. ثم لم أجد حاجة لأعود مرة أخرى إلى ستاربكس. فقد انتهيت من قراءة روايتي، وبدأتُ في عملي الجديد، "الموظفة الخجولة التي تتقن اليابانية"، هكذا كانت الزميلات يقدمنني لبعضهنَّ.
ما الذي حدث لرجل الإطفاء؟ انتهى. ومنذ ذلك الحين حافظت على هذين المسارين في حياتي: الأول ورود-شان المرحة والطفولية، والثاني ورود الشهوانيّة والحقيقية جدًا. فكل من رأى مني الوجه الحقيقي كان يختفي من حياتي مباشرة. لم أكن أدعه يمكث فيها طويلًا، ولا أعطيه فرصة ليقترب أكثر.
باستثنائك أنت. لأنك أنت، دون غيرك، يجب أن تعرف كل شيء.
سارت الأمور على ما يرام. وتمكنت من السيطرة على «ورود الشهوانية». حصرت مغامراتي وقصرتها على زياراتي لمدن شمال البحر الأبيض المتوسط، حيث أحتفل هناك بعيد ميلادي في أكتوبر من كل عام.
في أول زيارة لي لإحدى الجزر اليونانية، أهديتُ نفسي شابًا شديد الشبه بشخصية كيليان جونز. التقيته في أحد الملاهي الليلية. ربما هو لا يتذكر مروري في حياته من شدة ثمالته تلك الليلة، لكنها كانت بالنسبة لي ليلة لن أنساها. في السنة التالية، كنتُ محظوظًة أيضًا، فقد قضيت ليلة عيد ميلادي مع شاب شديد الشبه بآدم قالاقر، لا أظنك تعرفه، لكنه الشاب الذي كنتُ أضع صورته خلفيةً لهاتفي حين تعرفت عليك وسألتني ما إذا كان ممثلًا تركيًا، هل تتذكر؟ ثم قضيت السنة التالية مع شاب يشبه عمر أفيلا، أو هكذا رأته عينيّ بعدما أنهيتُ زجاجة شاردونيه كاملة. وفي سنة لاحقة، كنتُ في مدينة پورتو، ولم أوفّق في العثور على رجل يقضي معي الليلة، فرجعتُ الفندق بعد منتصف الليل حزينة. لكن موظف الاستقبال البرتغالي، الذي كان يصغرني بثلاث سنوات، بعدما تذمرتُ له مما جرى، بدّد حزني.
تلك التجارب جعلتني أقترب من ذاتي الحقيقية أكثر، ولو لأيام معدودة في السنة. ورغم الحدود التي وضعتها على نفسي، إلا أن داخلي يشتعل كلما رأيتُ شابًا وسيمًا يرتدي مريلة أو لباسَ مضيف طيران أو يضع محدد عيون. هذه الأفكار هي ما يغمرني حين أحتضن مخدتني كل ليلة. "آيسكريم بنكهة الفراولة في أيام الصيف". لكنني عرفتُ أيضًا أن الشباب ذوي الوسامة الآسرة غالبًا ما يكونون مثليين. ولهذا فكّرتُ أن أتعلم رسم البورتريه لأتجول في مدن شمال البحر الأبيض المتوسط وأرسم بورتريهات عارية لهؤلاء الشباب. نعم، يجب أن تعرف أنني حتى الذكور المثليين لم أكن أريد أن أدعهم وشأنهم. لكن من سوء حظي باءت كل محاولاتي في الرسم بالفشل.
وظل الفراغ الذي يخلّفه غياب الحب هائلًا. فلم تعد النشوة التي أجنيها من الرجال العابرين الذين ألتهمهم مثل كومة رمال متحركة تكفي لسد هذا الفراغ.
أدركتُ ذلك حين بلغتُ الثلاثين من عمري، قبل أن ألتقيك بسنة واحدة. حينها شاركتُ في ماراثون للجري، وحين بدأ المشاركون في الجري انتابني دوارٌ مفاجئ وأنا أشاهد العدّائين الرجال يتجاوزونني بعيدًا. توقفت بعد دقائق. ولمعت في ذهني فكرة.
أردتُ ألّا ينتهي العام إلا وأنا متزوجة. شخص يمكنني أن أمسك كفَّه وأتجول معه في العلن. نعم، نسيت كل شيء في تلك اللحظة، نسيت الحقيقة التي أدركتها عن نفسي قبل سنوات، وشعرتُ أن حياتي لن تستقيم إلا إذا تجاهلتُ هذه الحقيقة وأصبحتُ زوجة. ربما كان بلوغي الثلاثين دورًا في هذا القرار، لكني متأكدة أن زواج أختي الصغرى قبل ذلك الماراثون بأسابيع هو ما حرّك داخلي شيئًا كان قد مات منذ زمن طويل، وحاولتُ إنعاشه.
وهذا ما كان. لن ينتهي العام إلا وأنا زوجة أحدهم. سأمسك بيد رجل أحبه، أو لا أحبه، وأنا أتجول أمام الناس. لا يهم من يكون. وأنت، دون غيرك، يجب أن تعرف ما حدث.
تقرّبتُ من كثير من أصدقائي العزّاب الذين لا يعرفوني إلا بـ«ورود-شان» الخجولة التي تتقن اليابانية. أظهرتُ لهم جوانب أخرى مني. لمّحت حينًا، وصرّحتُ في أحيان أخرى. لكنهم كانوا يتساقطون واحدًا تلو الآخر. خسرت الكثير من الأصدقاء في تلك المعركة. حتى أنني كدتُ أن أخسر صديق طفولتي، شملان.
ثم وسعت نطاق أهدافي إلى من كنت أعدّهم مجرد معارف لا أكثر. لم أكن أفكر فيك حينها. أنتَ من هؤلاء الأشخاص الذين يدخلون حياتنا ويخرجون منها دون أن ننتبه إليهم. إلى أن بلغتُ الحادية والثلاثين وأرسلت لي تلك الرسالة التي جعلتني لا أستطيع أن أتجاهلك.
بعد سنة كاملة من المحاولات الفاشلة، تصالحتُ مجددًا مع حقيقتي: أنني لن أقع في الحب أبدًا. فقد فشلتُ فشلًا ذريعًا، وخسرتُ الكثير من سمعتي في سبيل ذلك. وواسيت نفسي بأنني يمكن أن أصير أمًا لابن أختي الذي مازلت أتحدث معه كل يوم عبر مكالمات الفيديو. وحينها وصلتني رسالتك: "ألف مبروك، تبدين الآن أجمل". كنتَ آخر شخص أتوقع منه رسالة مثل هذه حين غيّرتُ صورتي في الواتساب إلى صورة يظهر فيها شعري.
أول ما خطر لي في تلك اللحظة أننا يمكننا أن نكون رفقاء سرير عابرين، ثم نختفي من حياة بعضنا. هذا ما خططتُ له. لكن ها أنا الآن أبعث لك هذه الرسالة، لأخبرك بالحقيقة كاملة، وبأن ذلك الخيار لم يعد متاحًا. وهذا يحدث لأول مرة في حياتي.
عندما رجعتُ للتواصل معك عن قرب، دُهشتُ لأنك لم تتغير. مازلتَ مهووسًا بالحقيقي والمزيّف. أخبرتني أنك تعمل على كتاب عن العلاقة بين الإبداع والمؤثرات العقلية، "هل المبدع حين يكون واقعًا تحت تأثير المخدرات والكحول يكون تعبيره صادقًا عن ذاته؟". لا أفهم لماذا تشغلك هذه الأسئلة. لكنني حين دعوتك للقدوم إلى لايدن وتجربة كل ما تشاء من مؤثرات عقلية بنفسك حتى تكتب عنها بشكل واقعي، كنتُ أسعى لأن تجمعنا مدينة واحدة. وبعد أن نجتمع في مدينة واحدة، يمكن حينئذ أن تحدث الكثير من الأمور. وهذا ما كان.
التقينا في لايدن.
لم تنتبه إلى وقوفي أمامك في المقهى. كنتَ منهمكًا في الكتابة أمام حاسوبك المحمول، تكتب بخشوع عميق، إلى أن قطعته بجلوسي أمامك. كنتَ تتصرف كما لو أننا لم نلتقِ في الليلة السابقة ولم نتشارك سريرًا واحدًا. برودك استفزّني.
حدّثتني عن أبي نواس وتجربته مع الكحول. تلوتَ عليّ الكثير من أبياته الشعرية. وأخبرتُك أنني أحببت كلماته في أغنية «يا عاذلي» التي عرّفتني عليها بالأمس، وسمعتها عدة مرات حتى كدتُ أثمل بسبب كلماتها في طريقي إلى المقهى، حيث جلستُ أمامك أنتظر فراغك من الكتابة عند الخامسة بالضبط. وأعتقد لو لم يأتِ موظف المقهى ليخبرنا أنهم سوف يغلقون الآن، لربما مكثتَ تكتب دون أن تنتبه إلى مرور الوقت.
لم تكن تكفّ عن الحديث عن هكسلي وفيليب ديك وبوكوفسكي وهمنقواي في تلك الليلة. لم أكن أعرف أن الكثير من الأدباء هم في الحقيقة مدمنون على شيء ما. هل تتذكر تلك الليلة؟ استغرق عشاءنا زهاء ساعتين لأنك لم تكن تُغلق فمك عن الحديث. كنتُ أتناول عشائي وأنا أبتسم عند رؤية حماسك المتقد. فيك شيء ما يشتعل حين تتكلم عن الكلمات التي تكتبها. هكذا وصفتَها. وفيك شيء يشبهني. كلانا لجأ إلى مكان بعيد بحثًا عن الدفء في أرجاء أوروبا الباردة. ويمكنني أن أرى بوضوح كيف تلتمع عيناك خوفًا من خطر مجهول لا يراه أحد غيرك. لكنك في الوقت نفسه كنت تعاني من وحدة شديدة. عزلة فرضتها على نفسك ووحدة فُرضت عليك. كان ذلك جليًا حين أخبرتني أنك لا تملك رفيقًا في هذه الدنيا غير الكلمات. لكن هل خطر في ذهنك مرة أن هذا يمكن أن يتغيّر؟ ربما بعد فترة قريبة؟ قريبة جدًا؟
لنعد إلى لايدن.
بعد العشاء ذهبنا إلى الفندق. حيث حدث ما لا أحب أن أتذكره.
أخبرتني أنك ابتعتَ مخدرًا لا أتذكر اسمه، ربما نوع من أنواع المشروم، لا أستطيع أن أتذكر. وأنك قلق من أن تأخذه وحدك فتصاب بنوبة هلع أو تخلع كل ثيابك وتجري في الشارع. فوافقتُ على مرافقتك. في البداية سألتني بعض الأسئلة عن عملي في الجامعة، وحياتي منذ انتقلتُ إلى هنا. محاولة لا بأس بها لتظهر اهتمامك بي. ثم سرعان ما عدتَ إلى الحديث عن أدبائك الذين تكتب عنهم. حماسك بالكتابة لا ينافسه شيء آخر. تكتب كما لو أن حياتك تتوقف على ذلك.
ظهرت على جبهتك حبيبات عرق، وصار رأسك أكثر خفة. ثم دخلتَ في نوبة من الضحك حين حاولتَ الوقوف على قدميك، إلى أن أجلستُك قربي على السرير، ريثما استعدت اتزانك.
لكنك لم تكن حاضرًا بشكل كامل. كنتَ تحدّق في أرجاء الغرفة دون أن تجيب سؤالي. "هل كان سعيّك لمعرفة الحقيقة يستحقها؟". تقلّب عينيك في كل مكان وتطلق بعض الضحكات من حين لآخر. "أم أن حياتك ستكون أفضل دون معرفتها؟". كأنك لا تسمعني.
وبعد سلسة من الهدوء والضحك، قلّبتَ عينيكَ عليّ من أعلى إلى أسفل، وسألتني:
- تعرفين قصة الزير سالم؟
- سمعتُ به، أظن شاهدتُ بعض حلقات المسلسل.
- تعرفين ما معنى كلمة زير؟ زير نساء؟
- اممممم… زير يعني لديه علاقات كثيرة.
- تعرفين ما هو مؤنث كلمة زير؟
هل تتذكر؟ لأنك فور أن تلفظتَ بالسؤال ابتسمتَ ابتسامة متعجرفة ثم سارعتَ بوضع كفّك على فمك وفلتت منك ضحكة. بعد ذلك أخذتَ نفسًا عميقًا لتستعيد ملامحك المحايدة، لكنك أعدتَ السؤال مرة أخرى، وهذه المرة سقطتَ من السرير إلى الأرض من شدة الضحك. اعتراني ذهول شديد مما رأيت. شيء لا يشبهك أبدًا. شعرتُ أنني أمام شخص آخر.
خرجتُ مسرعة إلى شقتي. لم أكترث بالمطر. لم أكترث بالبرد. وحين وصلتُ الشقة دسستُ وجهي في المخدة، وبكيت. أسلتُ الكثير من الدموع المالحة على المخدة. وذهني يستعيد صورتك وأنت تضحك على الأرض. ما كان لي أن ألتقي بك بعد الذي حدث بيننا في تلك الليلة.
وعندما استيقظتُ في اليوم التالي، نهضتُ لأنزع ثياب الليلة الماضية وأغسل المكياج، فعثرتُ على الرسالة التي دسستَها في جيب معطفي. ربما حين ذهبتُ إلى دورة المياه في المطعم؟ تلك الرسالة الغارقة في الذوق واللطافة، التي لم تكن تشبهها أبدًا وأنت تحت تأثير المادة المخدرة. وكنتُ في حيرة عميقة، لا أعرف أيكما أنت: الذي يكتب، أم الذي يتعاطى؟
لكني لم أطل التفكير في ذلك. لأننا لن نلتقي مجددا. هكذا عاهدتُ نفسي حينها. حتى حدث ما لم أتوقعه بعد أسابيع قليلة، ووجدتُني مجبرة على أن أبعث لك هذه الرسالة.
لأنك قريبًا سوف تصبح أبًا.
بانتظار سماع صوتك،
المخلصة لك،
ورود-شان