يوميات: من مدريد إلى لشبونة

"اصعد ثلاثة سلالم متحركة ثم أتجه يسارا"، هذا ما قاله لي عامل في محطة القطار حين شككت في اتجاهي، ابتعت علب مياه من الدكان الأول، ثم تجولت في المحطة سريعا مستمتعًا بصوت جمال المجيم يغني راحت سُلَيمة، وحاملا حقيبة ممتلئة على ظهري، وأخرى صغيرة على صدري. وصلت مبكرا عند الساعة السابعة مساءً، والشمس تغرب بعد التاسعة، يوم طويل. 
ارتأيت أن أشرب قهوة وشرعت في قراءة قصة المكتبة الغريبة لموراكامي إلى أن أنهيتها، العوالم والشخصيات والأحداث الغرائبية في كتابات موراكامي يحلو للقارئ أن يعايشها على مدار أيام، ويظل في كنفها. قصص موراكامي القصيرة لا تجزي عن رواياته. في الأيام القليلة الماضية تحدثت عن موراكامي كثيرا! رواياته عادية، عادية جدا. وكثيرا ما تكون ذات رتم رتيب. أحيانا أشعر أنها لا تحكي شيئا، إلا أن كثيرا مما فيها يشبهنا. كنت قد قررت أن أنتهي من مؤلفاته المترجمة إلى العربية ثم أبدأ بالإنجليزية.

طافت بذهني ذكريات عن أصدقاء لا أدري أين رحلوا. أصدقاء الطفولة، لماذا يوجدون في حياتنا إذا كنا سنفارقهم ثم نظل معلقين ببعض، كذكرى يسووءنا فواتها؟ الآن وقد كبرنا، صارت لنا أحزاب سياسية نتعصب إليها، وموقف محدد تجاه الدين، وعادات كثيرة تراكمت حينا بعد حين، إذا ما التقينا هل سنكون كما كنا أم أننا لن نستطيع احتمال ما صرنا إليه؟ أي من الذكريات ما زالوا يحتفظون بها عني؟ هل يمكن أن تمضي بنا الأيام ولا نلتقي أبدًا.. ماذا لو لم أستطع إيجاد أشخاص مثلهم أشاركهم ذاتي؛ نضحك حتى ندمع، نتنافس في ارتكاب حماقات، نقضي ساعات في نسج مستقبلنا، نتصالح بعد أوانٍ قصير من تشاجرنا. البعض يعبر مرحلة الطفولة ولا يكاد ينتبه إلا بعد...

تداركني الوقت. تناولت وجبة سريعة  في المقهى وتوجهت إلى القطار الذي تحرك عند العاشرة مساءً. عربة النوم تضم أربعة أسرّة، اثنان متقابلان وفوقهما آخران. بدأت قراءة الفصل الأول من كليلة ودمنة على جهاز "الكندل"؛ فصل طويل تناول كيف تمكن واشٍ من تعكير صفو الود بين متحابين. الكتاب ترجمه للعربية ابن المقفع في القرن الثاني الهجري عن النسخة الفهلوية المترجمة عن الهندية. لا أعرف مدى قدم النسخة الهندية الأصلية، لكن بالتأكيد مضى عليها أكثر من خمسة عشر قرنا، وفي ذلك الزمان احتال مؤلفها باستخدام الحيوانات كشخصيات يمرر خلالها آراءه. وسمعت أن ابن المقفع كذلك احتال بترجمته لهذا الكتاب، بحيث أضاف خياله وزاد على النص الأصلي بعض آرائه، ليمررها وكأنها ضمن الترجمة. بالرغم من بعد الزمان إلا أن الواقع لم يتغير. الكتّاب ما زالوا يحتالون بالحيل نفسها إلى اليوم، كنت أقرأ الفصل وأشرد قليلا أو أتشاغل بحديث جاريّ في العربة حتى أنهيته عند الساعة ١٢.


كانت ليلة صيفية حارة. استلقيت بظهري وتذكرت نخلات منزلنا. في منزلنا ثلاث نخلات؛ الأولى كبيرة جدًا ولها جذع متين وثمارها، كجذورها، بعيدة، لا تلتفت إليّ مهما وقفت أمامها. الثانية متوسطة الحجم مشدودة بحبل يعدل ميلانها وثمارها ليست بعيدة. الثالثة رأيتها حينما أتوا بها، صغيرة جدًا وجذعها لا يكاد يُرى. عندما كنت صغيرا كنت أتجنب النخلة المائلة باللعب، أما الاقتراب من النخلة الكبيرة فلم يكن مريحًا، كنت أحب اللعب عند الصغرى.
سمعت صوتًا من خارج باب العربة، صوت قديم أعرفه، ينادي باسمي. تداعت إلي ذكرياتي وتقلبت فيَّ هواجسي والصوت ما زال يتردد:
"تعال، تعال لنلعب"
فُتِح الباب فإذا هي وراءه، مرتدية ثوبا أبيض متلئلئا، شعرها أسود طويل وعيناها مبتسمة، مدت ذراعيها إلي وقالت "تعال". تبعتها وخرجت من الباب إلى حيث كنا نلتقي، بين النخلات الثلاث، وصرنا نلهو كما كنا نفعل، لكن هذه المرة عند النخلة الكبيرة. طفنا حولها مرارًا وبدا لي أنها كانت راضية. يمكنني استشعار فرحتها كلما اقتربنا منها، وإذا ما عانقنا جذعها اقتربت غصونها لتربِّت على ظهورنا. لا أدري لمَ أكترث بمشاعر هذه النخلة، أو العصافير التي على أغصانها. البعض لا يكترث يرميك بكلمات ويدعها كل يوم تتوغل فيك كماء آسن يتفشى في جذع نخلة حتى تتعفن من الداخل وتهوي.

أحضرت علبتيّ عصير سانكيست وعيدان بطاطا، استندنا إلى جذع النخلة وتشاركناهما. جلست أتأمل التصاق شعرها على حواف وجهها من العرق واحمرار خديها من الشمس والتعب، بدت جميلة كحلم، وكنا في غياب تام عن الوقت. 
ونحن إلى جوار النخلة استلقيت بجانبي، أسندت أذني اليمني على كفي الأيمن، ضممت ركبتيّ ووضعت كفي الأيسر بين فخذيّ. وأغمضت عينيّ.

وصلت لشبونة في الثامنة صباحًا. لازلت استمع إلى الأغنية نفسها، وكان جمال المجيم يغني "شخص يذكرني فاههُ وغرته شمس النهار وأنفاس الرياحين"، وتجولت أقصد محل سكني. 

قبل أيام قليلة كنت بعيدًا عن لشبونة واليوم أنا بعيد عن بلادي، لكن في الحقيقة لا عبرة في المحال ولا بالمسافات، فالمدن تزداد بُعدًا كلما قل فيها من يشبهنا.

النظام الغذائي النباتي - لماذا؟


الآن يمكنني النظر إليك بسلام; أنا لم أعد أتناولك.
فرانز كافكا



ترجع نشأة النظام الغذائي النباتي إلى القرن السادس قبل الميلاد في حضارة وادي السند وفي اليونان كتطبيق لعقيدة اللاعنف تجاه الكائنات الحية. ودعا فيثاغورس إلى عدم قتل الكائنات الحية أو تناول لحومها, وكذلك كتب أبو العلاء المعري قصيدة غدوت مريض العقل التي نادى فيها إلى الرفق بالحيوان وعدم أكل لحومها وعد ذلك من الظلم.

هناك أنواع مختلفة من الأنظمة الغذائية النباتية:
  • النظام النباتي Vegetarian الذي يمنع اللحوم والأسماك ولكن يحتوي على البيض ومنتجات الألبان وهذا ما نجده في أغلب المطاعم النباتية الهندية.
  • النباتي الصرف Vegan بالإضافة إلى اللحوم والأسماك يمتنع كذلك عن منتجات الألبان والبيض والعسل، وغالبا ما يُتَّبَع هذا النظام لأسباب أخلاقية، فيمتنع أتباعه كذلك عن ارتداء الملابس والأحذية المصنعة من منتجات حيوانية.
  • النظام النباتي الكامل Whole Food Plant Based Diet وهو شبيه بالنباتي الصرف، فلا يحتوي على أي أطعمة مشتقة من الحيوانات إلا أنه كذلك يمنع الأطعمة المعالجة أو المصنعة كالسكر والزيوت والأرز والقمح الأبيض.


في كتاب ٥٠ فكرة يجب أن تعرفها عن الفلسفة، يستعرض المؤلف بشكل سريع بعض الأفكار والحجج التي يستخدمها النباتيون ومخالفيهم:

من المؤكد أن أغلب الناس لن تفكر أن تحجز بعض الناس في ظروف معيشية قذرة ثم بعد ذلك تأكلها, أو أن تختبر تأثير الكيمياويات غير المعروفة خصائصها على الأطفال, أو أن تقوم بتعديلات جينية على البشر من أجل دراسة بيولوجيتها. فهل هناك أي سند يعطينا الحق بمعاملة الحيوانات بهذا الشكل؟
لابد أن يكون هناك (وكما يحتج مناصرو حقوق الحيوان) تبريرات أخلاقية مرتبطة بالقضية تبرر رفض منح مصالح الحيوانات اعتبارات متساوية مع الاعتبارات التي تُمنح لمصالح الإنسان. وإلا ستصبح المسألة مسألة تحيز أو تعصب أعمى - تمييز نوعي قائم على النوع, وهو أساسًا سلوك يفتقد الاحترام لكرامة واحتياجات غير الآدميات, ويحتاج إلى دفاع لا يقل عن الدفاع الذي يحتاج إليه التمييز على أساس الجنس أو العرق.
أهو سلوك خاطئ فعلاً تمييز نوعنا نحن كبشر؟ فالأسود على سبيل المثال تُظهر اعتبارًا لغيرها من الأسود أكثر مما تبديه للخنازير, فما الذي يمنع أن يُظهر البشر تحيزًا مماثلا؟ هناك العديد من الأسباب المقترحة حول موانع ذلك:

  • يملك البشر مستوى أعلى من الذكاء مقارنة بالحيوانات (أو على الأقل لديهم الإمكانيات لذلك).
  • الضراوة صفة طبيعية (فالحيوانات بطبيعتها تأكل الحيوانات الأخرى).
  • الحيوانات يتم تربيتها على وجه الخصوص لكي تؤكل أو تستخدم في التجارب (وإلا لما وُجدت أصلا في الحياة).
  • نحن نحتاج أن نتناول اللحوم (رغم أن هناك ملايين من الأصحاء كما يبدو لا يأكلون اللحوم).
  • الحيوانات ليس لها ضمير (لكن هل نحن متأكدون أننا كبشر لدينا ضمير؟).
من السهل الرد على هذه التبريرات, ومن الصعب عموما وضع معايير تضم كل البشر وتستثني الحيوانات كلها. فعلى سبيل المثال, لو قررنا أن المهم هو التفوق الفكري, فهل سنستخدم هذا المعيار لنبرر به استغلال الأطفال أو المعاقين ذهنيًا الذين مستوى الذكاء عندهم أقل من الشمبانزي, في التجارب العلمية؟ أو لو قررنا "أن هذه طبيعة الطبيعة". ثم ما نلبث أن نكتشف أن هناك أشياء عديدة قد لا نود تشجيعها, فذكر الأسد أحيانًا مثلا يتصرف وفق طبيعته ويقتل أطفال عدو له, لكنه سلوك مرفوض عمومًا عند البشر.

باسم يوسف



الكثير من المشاهير يعلنون بين فترة وأخرى اتباعهم لنظام غذائي نباتي. الإعلامي الشهير باسم يوسف كان أحد هؤلاء, في هذا الفيديو يشرح النظام الغذائي النباتي الذي يتبعه وأسباب اختياره له:


على سبيل الهايكو ٢

وجه بديع الصفاء,
يمكنك أن ترى عليه مرور الغيوم,
وتقبّل السماء.

سكون الليل,
هواجس يوم طويل,
تعتمل.

ذكرياتنا تخط مسارا
بالغ الوضوح, يأخذ بيديّ
إليك.

سماء صافية,
نخلة باسقة, وحمامة
محتارة بين الغصون.

الغيوم كانت تنتظر
أن يمتلئ حبل الغسيل
لتمطر.

لقاء بعد افتراق,
مشاعر غير مألوفة,
انعتاق.

هذا الفراغ الضبابي
الداكن، استلب قدرتك على
كتابة هايكو واضحة.

إنها دائما الآن: سام هاريس يتحدث عن الموت وأهمية اللحظة الراهنة



العاقل يعلم أن حياته الصحيحة حياة السعادة والطمأنينة وأنها قصيرة جدا, فلا ينبغي له أن يقصرها بالهم والاسترسال مع الأكدار فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة, فيشح بحياته أن يذهب كثير منها نهبا للهموم والأكدار.
عبدالرحمن السعدي

سام هاريس


الفيلسوف وعالم الأعصاب الأمريكي سام هاريس (ولد 1967) له العديد من المؤلفات والمحاضرات التي أثارت جدلا بسبب أفكاره حول الدين والعلم والأخلاق وتناوله إياهم بإسلوب ينحو كثيرا إلى العقلانية, ودعوته إلى اعتماد الفن والعلم والفلسفة كمصادر رئيسة للقيم والأخلاق بديلا عن الدين.
تحدث في محاضرة طويلة عن الموت وأهمية العيش في اللحظة الراهنة وما يخالج الإنسان عند تيقنه بقرب موته من ندم على إسراف أوقاته في أمور لم تكن تستحق. هنا أترجم جزء من المحاضرة التي أرى أن كل شخص يمكنه أن يستفيد منها في حياته:

إنها دائما الآن.
في الحقيقة، أردت التحدث اليوم عن الموت. في حين أن معظمنا يسعى جاهدًا لتجنب التفكير في الموت، إلا أن هناك جزءً من عقولنا يدرك دائما أن هذا لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. جزء منا يدرك دائما بأننا على بعد زيارة إلى الطبيب أو اتصال هاتفي لنتذكر بشكل  صارخ حقيقة فنائنا نحن أو المقربون منا.
أنا متأكد أن الكثير منكم الآن في هذه القاعة خَبَر ذلك بطريقة ما. لا بد أنكم تعرفون مدى فظاعة رميكم خارج مسار الحياة الطبيعية بلا سابق إنذار، ليصبح شغلكم الشاغل أن تظلوا على قيد الحياة، أو تعتنوا بشخص كذلك.
لكن الشيء الوحيد الذي يميل الناس لإدراكه في لحظات كهذه هو أنهم أسرفوا كثيرا من أوقاتهم حينما كانت الحياة طبيعية. وهو ليس فقط ما فعلوه بأوقاتهم، ليس لأنهم أنفقوا الكثير من الوقت في العمل أو بأنهم يتفقدون بريدهم الإلكتروني بهوس، ولكن لأنهم اكترثوا للأشياء التي لا تستحق، فهم نادمون على ما استحوذ على انتباههم عاما بعد عام حينما كانت الحياة طبيعية.
وهذا بالطبع تناقض فكلنا يعلم أن هذه اللحظة آتية، أعني، ألم تكن تدري أنها آتية؟ ألم تكن تدري بأن سيأتي يوم ما حيث ستمرض أو سيتوفى أحد أقربائك وستنظر ورائك لتلك الأمور التي استحوذت على اهتمامك وستفكر، "ماذا، مالذي كنت أفعله؟" أنت تعرف هذا، لكن إذا كنت مثل معظم الناس، فستقضي أغلب أوقاتك في الحياة تتوقع ضمنيا أنك ستحيا للأبد; كأن تشاهد فيلما سيئًا للمرة الرابعة أو تخاصم زوجتك. ما أعنيه، هذه التصرفات تكون منطقية في حال وجود أبدية، فمن الأولى أن تكون ثمة حياة أخرى إذا كنا سنسرف أوقاتنا بهذه الطريقة.

هناك وسائل عملية للعيش في اللحظة الراهنة.  ما البديل؟
إنها دائما الآن.
برغم شعورك أنك تحتاج إلى التخطيط للمستقبل لتتنبأ به أو لتقلل المخاطر، حقيقة حياتك هي الآن. قد يبدو ذلك ساذجا، لكنها الحقيقة. هي ليست حقيقة فيزيائية، في الواقع لا يوجد لحظة راهنة (الآن) تشمل كل الكون. لا تستطيع ذكر حدث يقع بالتزامن هنا وآخر في نفس اللحظة يقع في مجرة أندروميدا.
في الواقع، (الآن) ليس معرّفة بدقة في علم الأعصاب لأننا نعرف أن المدخلات تأتي إلى الدماغ في لحظات مختلفة، وأن الوعي مبني على طبقات متعددة من المدخلات الغير متزامنة هي التي تُنتج الوعي في اللحظة الراهنة. فبعض المشاعر غدت ذكرى لكن من خلال تجربة الوعي حقيقة حياتك هي دائما الآن.
وأرى أن هذه الحقيقة محررة حول طبيعة العقل البشري. في الواقع، أرى أنه لا يوجد شيء أولى بالفهم حول عقلك سوى ذلك إذا أردت أن تكون سعيدًا. الماضي ذكرى، هو خاطرة تطفو في الحاضر. المستقبل مجرد توقع، هو خاطرة أخرى تطفو الآن. ما نملكه بحق هو هذه اللحظة.
وهذه.
وهذه.
ونقضي معظم حياتنا في تناسي هذه الحقيقة، في رفضها، الهروب منها، تجاهلها. والمرعب أننا ننجح.
قررنا أن لا نتصل مع اللحظة الراهنة وإيجاد كفايتنا فيها، لأننا نأمل باستمرار بأن نكون أسعد في المستقبل، والمستقبل لا يأتي أبدا، حتى حين نظن بأننا في اللحظة الراهنة، نكون بطرق رقيقة ننظر من عليها لنتوقع مالذي سيحدث بعد. في الإمكان أن تلقي مشاكلك ببساطة إذا ولو للحظة، وتستمع بحقيقة حياتك الراهنة مهما كانت. هذا لا يستلزم معلومات جديدة أو معلومات أكثر. بل يلزم تغييرا في السلوك، يلزم تغييرا في الانتباه الذي توليه تجاه تجربتك للحظة الراهنة.