حلم الدولة العربية: قصي يفتح مكة








cnn.com






ونحن حَمينا، يومَ مَكَة َ، بالقَنا،
قصيّاً، وأطرافُ القنا تتقصفُ
فَحُطنَا بها أكنافَ مكة َ، بعدما
أرادتْ بها، ما قد أبى الله، خِنْدِف
جميل بن معمر العذري


(قريش، القرن الخامس الميلادي)

ولد قصي بن كلاب في مكة في العام 400 للميلاد، وتوفي أبوه بعد فترة قصيرة من ولادته. تزوجت أمه، فاطمة بنت سعد الأزدية، برجل من قبيلة عذرة وانتقلت معه إلى حيث تعيش قبيلته في الشام، بالقرب من الحدود البيزنطية. بعدما كبر قصي وعرف أصوله المكيّة، عزم على الرجوع إلى مكة بهدف السيطرة عليها وبسط نفوذ قومه فيها.
كانت مكة عبارة عن قرية تقع في طريق القوافل التجارية القادمة من اليمن باتجاه الشام. تكمن بداية أهمية موقع مكة مع اكتشاف بئر زمزم فيها وهو اللبِنة الأولى في بناء مكة الاقتصادي. وكانت القبيلة المسيطرة على مكة تجبي ضريبة العشر التي تدفعها القبائل مقابل مرورها بمكة وسقايتها من بئر زمزم.
كانت قبيلة خزاعة المسيطرة على الشؤون الدينية في مكة في ذلك الوقت. ما جعل قصيّ يقرر الزواج من حُبّى ابنة زعيم خزاعة، حُليل بن حبشية، الزيجة التي أكسبته مكانة رفيعة في مكة. بعد وفاة حُليل رأى قصي أن تنتقل سدانة الكعبة إلى أحفاد حُليل من حُبّى، أي إلى أبنائه. وبكونه وصياً عليهم؛ فستكون في يديه كل المهام الدينية والاقتصادية المتعلقة بشؤون مكة، من خدمة الكعبة والحجيج.
لم يكن هذا الانتقال يسيراً، فقبيلة خزاعة لا تريد التنازل عن المكانة الرفيعة التي نالتها عبر سيطرتها على الكعبة التي يحجّ إليها الكثير من عرب شبه الجزيرة. فنشبت الحرب ما بين خزاعة وبين قصي وقومه الذين كانوا يُعرفون آنذاك ببني النضر. أرسل قصيّ إلى أخيه من أمه، رزاح بن ربيعة العذري، الذي كانت قبيلته في حلف مع الروم لتحمي حدودها من هجمات الأعراب في الشام، فيما أرسل قيصر الروم بمدد من جنده. انتهت الحرب بانتصار قصي وقومه، وحلّوا محل خزاعة في السيطرة على شؤون مكة. ثم جمع قصي قومه إلى داخل مكة وحولها وعرفوا منذ ذلك الحين باسم قريش، من التقريش، وهو التجميع.

ما الذي يجعل زعيم خزاعة، حُليل بن حبشية، يوافق على تزويج ابنته حُبّى من قصيّ؟ وما الذي يجعل قيصر الروم يمد إليه يد المساعدة للسيطرة على مكة الواقعة بعيداً عن الحدود البيزنطية؟
لا نعرف الكثير عن قصي، لكنّ يبدو أنه كان يمتلك منذ وقت مبكر مشروعاً وِحدوياً، ولو كان على مستوى قبيلته. يمتد هذا المشروع ليغطي الجانب الديني والتجاري، وبدرجة ثانية السياسي والعسكري. قصيّ، هو لقبه الذي أُطلق عليه لابتعاده عن ديار قومه في مكة حين هاجر مع أمه، أما اسمه الحقيقي فهو زيد اللات، أي هبة اللات.
حين ننظر في نسبه يستوقفنا اسمان من أسماء أجداده، هما لؤي وإلياس. كلاهما يحملان دلالات دينية. فلؤي قد يكون بالأصل لقب لاوي (أي الكاهن) الذي يطلق في المناطق الشمالية لجزيرة العرب، وقد تعرضت بعض أحرفه للتغيير. أما إلياس فهو اسم لنبي شهير في العهد القديم. ولجدّه، لؤي، أخ اسمه تيم، وصفه هشام الكلبي بالكاهن. ولا تخلو أسماء أبناء قصي من دلالات دينية أيضا. فعبد الدار يعني عبد البيت (المعبد، الكعبة)، وعبد مناف وعبد العزى هما أسماء إلهين شهيرين من آلهة العرب، الأول يُعبد في مكة وللثاني معبد بين الطائف ومكة.

أما قبيلة عذرة، التي تزوجت أم قصّي برجل منهم، ونشأ هو معهم في الشام، فكان لهم دور في تنظيم التجارة في بعض الأجزاء الشمالية الغربية من جزيرة العرب، حيث يعيشون في وادي القرى (بالقرب من يثرب) إلى واحة تبوك. ويعملون على تنظيم الطرق التجارية المارة مابين جنوب الجزيرة العربية والحجاز من جهة، ومابين الطرق التجارية السائرة شمالاً إلى حدود الولايات البيزنطية. يقول جعفر بن سراقة، في معرض هجائه لجميل بن معمر العذري، حيث وصفهم بأنهم ينقسمون إلى قسمين، منهم عرافون يعيشون جنوب وادي القرى وآخرون كهنة يعيشون مع مَن تنصر في الشام:

فريقانِ رُهْبَانٌ بأسفَلِ ذي القُرَى ... وبالشام عَرَّافون فيمن تنَصَّرَا

قصة زواج قصي من بنت سيد خزاعة تحمل صدى قصة أقدم، وهي زواج إسماعيل من بنت سيد قبيلة جرهم الذين كانت لهم الولاية على مكة قبل خزاعة. وكذلك زواج عيسو من بنت سيد الحثيين. فهل نسج الرواة قصة زواج قصيّ على منوال ما عرفوه من قصص الغابرين؟
بعدما استقرت الأمور لقصيّ في مكة؛ شرع في إرسال الرسائل إلى القبائل والملوك حوله لينشئ تآلفاً تجارياً يحمي من خلاله القوافل التجارية، عبر إشراك زعماء القبائل بأرباح منها. وصارت شؤون مكة التجارية والدينية تدار بشكل أكثر تنظيماً بعد إنشاء مؤسسات مثل اللواء، والسقاية، والرِفادة، والحجابة والقيادة، والندوة. وقد تقاسم أبناء قصي وأحفاده إدارة هذه المؤسسات. وهي مسؤولة عن تقديم خدمات للحجيج وتنظيم عملية الحج. لاسيّما وأن الحج إلى مكة هو ما أكسب مكة هيبتها ومكانتها الرفيعة عند العرب.
كانت دار الندوة المكان الذي يجتمع فيه أعيان مكة للتشاور وإبرام الاتفاقيات وحلّ خلافاتهم. وقد ورِث عبد الدار ولاية دار الندوة التي استمرت في ذرية ابنه مناف حتى مجيء الإسلام. ومما افترضته إدارة مكة على قريش بأن كان لزاماً عليهم الابتعاد عن النهج القبلي التقليدي، واستبدال تقاليد المشيخة بأسلوب الندوة، والملأ الأكثر تنظيماً واستقراراً.
أما الحجابة، فهي تكون بحجب الناس عن الكعبة، حيث يتولى صاحبها مفتاح باب الكعبة ويفتحها للناس ويغلقها. أما اللواء فهو الراية التي تُحمل في المعارك. أما السقاية فتتضمن توفير الماء والنبيذ للحجاج. أما الرفادة فهي تقديم الطعام للحجيج من لحوم الإبل والزبيب. ولهاتين المهمتين عائدٌ مالي جيد لمن يتولاها.
تكمن الأهمية الكبيرة للحجّ في مكانة مكة وهيبتها عند العرب. وهو بالإضافة لكونه ممارسة دينية، كان له كذلك دور اقتصادي. وقد كان لموسم الحج أشهر معلومات عند القبائل العربية، وفي أثنائها تتحول مكة لسوق تجاري يمتلئ بالبضائع، ما جعل أهل مكة يتمتعون بثراءٍ مفرط. هذا الارتباط بين ما هو ديني وما هو تجاري استمر لقرونٍ لاحقة.

توفي قصي في العام 480م، بعدما نجح في توحيد قومه، وإعادة بناء الكعبة وتنظيم الممارسات الدينية فيها. وكذلك تنظيم التجارة بين مكة ومحيطها العربي (اتسعت في عهد حفيده هاشم بن عبد مناف لتصل إلى خارج الجزيرة العربية وربما إلى داخل الحدود البيزنطية).
خلَف قصي ابنيه عبدالدار وعبد مناف اللذان اشتد الصراع بين ذريتهما للسيطرة على البيت، والتي كانت تعني بالضرورة السيطرة على السلطة في مكة. فنجح عبد مناف في انتزاع بعض الصلاحيات من أخيه عبد الدار.
من نتائج هذا الصراع أن شكّل بنو عبد مناف حلفاً مع مَن ناصرهم، يُعرف بحلف المطيّبين وكان مع بني أسد بن عبد العزى، وبني زهرة بن كلاب، وبني الحارث بن فهر (قبيلة أبو عبيدة بن الجراح)، وبني تيم بن مرة (قبيلة أبي بكر الصديق). جاء اسم حلف المطيّبين نسبة إلى رواية تقول بأنهم غمسوا أيديهم في الطيب أثناء عقد الحلف. فيما شكّل بنو عبد الدار حلفاً مع مَن ناصرهم، يعرف بحلف الأحلاف وكان مع بني سهم بن عمرو، وبني جمح بن عمرو، وبني مخزوم بن يقظة، وبني عدي بن كعب (قبيلة عمر بن الخطاب). وأثناء عقد الحلف غمسوا أيديهم في دم جزور، بينما لعق من دمها بنو عدي بن كعب.
انتهى صراعهم بالصُلح، وأُسندت السقاية والرفادة إلى بني عبد مناف، وبقيت الحجابة والندوة واللّواء في بني عبد الدار. ويبدو أن استثراء بني عبد شمس بن عبد مناف (جدّ الأمويين) دفعهم إلى المطالبة بإعادة توزيع المهام في مكة. كان هذا الأسلوب السلمي والتشاوري في حل الخلافات هو النمط السائد في قريش، فقد عُرفوا بحِلمهم ونضجهم في التعامل مع الخلافات وعدم تصعيدها إلى مرحلة الاقتتال، الذي له بالغ الأثر على الوضع التجاري والديني في مكة.

تبرز على وجه أكبر أهمية الحفاظ على الأمن والاستقرار في مكة مع العدل، للحفاظ على المصالح التجارية والدينية، من خلال تأسيس حلف الفضول. وهو حلف يهدف إلى ضمان النزاهة التجارية في مكة مع التجار بغض النظر عن انتمائهم القبلي. فكان سبب نشأة الحلف تعرُّض تاجر يمني إلى المماطلة بدفع دين له على تاجر من مكة، الأمر الذي يمكّنه -إذا استفحل- أن يؤثر في السمعة التجارية لمكة. وهو ما دفع ببني هاشم، وبني عبد المطلب، وبني زُهرة، وبني تيم إلى الاجتماع في بيت عبدالله بن جدعان والاتفاق على أن لا يُظلم بمكة أحد إلا ويكونون جميعهم مع المظلوم حتى يأخذ حقه. فلا يمكن أن تحافظ مكة على مكانتها كمركز تجاري دون توفّر الحد الأدنى من الأمان.
وفي غياب دولة تحفظ المصالح؛ كان لزاماً على قريش تعويض هذا الغياب بأن تقوم بهذه المهمة التي دفعت بها للتحول من العقلية الضيقة للقبيلة إلى العقلية المدنية التي تشمل برعايتها الجميع. وخلافاً للقبائل العربية الأخرى، لم تكن تحالفات قريش تهدف إلى الحرب، بل لحفظ السلام والاستقرار. وقد شاركت في حلف الفضول كل البطون المشاركة في حلف المطيّبين، باستثناء بني عبد شمس وبني نوفل، ولعل هذا يعكس بداية الشقاق بين بني هاشم وبني أمية.

من العادات الاجتماعية والثقافية عند العرب في ذلك الوقت ما يعرف بالمنافرة. وهي "أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه (بالنسب والحسب والشرف)، ثم يحكّمان بينهما رجلاً". وقد تكون بهدف استرداد حق أو تبرئة النفس من تهمة معينة، وبهذا الاعتبار تتخذ المنافرة صبغة المحاكمة. فكانت هناك منافرات أسبابها اتهام زوجة بالزنا، أو أخ بقتل أخيه، وأحياناً لمجرد التفاخر بالنسب والكرم. ويفصل أحد الكهّان بين المتنافرين.
أقدم منافرة كانت بين هاشم بن عبد مناف وأميّة بن عبد شمس (العم وابن الأخ) "فتلك أول عداوة وقعت بين هاشم وأميّة". ثم وقعت منافرات لاحقة بين بني هاشم وبني أمية بعد ذلك، كالتي وقعت بين عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية.
كان السبب في منافرة هاشم وأمية، أن الثاني يريد منافسة هاشم، فعجز عن ذلك فسخرت منه قريش. فاتفقوا أولاً على النافرة، وهي ما يأخذه الغالب من المغلوب، وكانت خمسون ناقة، بالإضافة إلى الجلاء عن مكة عشر سنين. ثم اتفقوا على حَكَم يقبله كلاهما، فاختاروا في البداية أن يحكم بينهم النجاشي ملك الحبشة، إلا أنه رفض طلبهم. ثم اتفقوا على حَكَم من خزاعة. ولاختبار الكاهن خبّأوا جمجمة بالية وسألوه عن خبيئتهم، وحين عرفها اطمأنوا لصدقه. وانتهى حكمه بأن نفّر هاشم بسجع لا نعرف مدى دقته لكنه ورد على هذا النحو: "والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجوّ من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، منجد أو غائر، لقد سبق هاشم أميّة على المفاخر، أوّل منها وآخر". فدفع أميّة خمسون ناقة ورحل عن مكة لمدة عشرة سنين.