ما سبب نجاح هاروكي موراكامي؟













ما سبب نجاح هاروكي موراكامي؟
بقلم: رودولف
ترجمة: علي الصباح





يُعَد هاروكي موراكامي عملاق أدبيّ ذو تأثير كبير وشهرة عالمية. تُرجمت أعماله إلى أكثر من لغة وفاز بالعديد من الجوائز، من بينها جائزة فرانز كافكا.

بكونه كاتبا معاصراً، استطاع موراكامي إنتاج أسلوب أدبي يجعل الحدود تتماهى بين الأدب "الخالص" و"الشعبي". رغم أنه من اليابان، إلا أنه يُغرق أعماله بإحالات من الثقافة الشعبية، الأمريكية غالباً، مما سبب له الكثير من النقد داخل بلاده. “نجاح موراكامي يتعاظم إذا ما عرفنا أن بعض الكتّاب اليابانييّن بمؤهلات فائقة، مثل الكاتب الحائز على جائزة نوبل كنزابورو أوي، لم يصلوا إلى قرّاء خارج بلادهم الأصلية بحجم قرّاء موراكامي".


بلا شك، هناك سبب وراء النجاح العالمي لهذا الكاتب الياباني. بمعنى، يلزم وجود تفسير لكون أعمال موراكامي سهلة المنال عالميا ويمكن الارتباط بها، خاصة في أمريكا وبلده الأصلي، اليابان.

ماثيو ريچارد شوزيك، الباحث في الأدب المقارن، حاول أن يفك غموض عالميّة موراكامي بعدد من التفسيرات، كل واحد منها معتبَر ومسوَّغ. شوزيك بالتأكيد ليس الأول ولا الوحيد الذي وضع هذه المسألة بعين الاعتبار، لكن وجدت أن وجهات نظره هي الأكثر إقناعا وتميّزا. مع ذلك، هذه المقالة ستناقش تفسيراّ آخر للقبول العالمي لكتابات موراكامي، والذي كان سيجد اهتماما، لو تم الإقرار به من قبل الباحثين الآخرين.


ذلك الاستخدام للأسلوب ما بعد الحداثي لهاروكي موراكامي جعل أعماله متيسرة على نطاق عالمي واسع. في سبيل دعم هذه الحجة، سأختبر نجاح هاروكي موراكامي، صفاته التي يمكن تصنيفها على أنها "يابانية"، "أمريكية"، أو غير محددة، والأسباب التي استعرضها شوزيك. بينما أحيل إلى العديد من الأعمال، سنركّز على النجاح المبكر المهم لموراكامي، رواية مطاردة خروف بري (١٩٨٢)، الجزء الثاني من ثلاثية الجرذ.


مفهوم تقسيم الأدب، وربما كل الأنماط الفنية، إلى فئتين إما "خالصة" أو "شعبية"، تبدو مبتذلة وغير قائمة على أساس. لكنها تحقق غرضا مفيدا لفهم موقع موراكامي ككاتب. تُعرّف توشيكو إلّيس هذه الفئتين إلى "خالصة" وتعني "الأدب للقرّاء الذين يستمتعون بقراءة الأدب 'بجديّة'"، و"الشعبي" على أنه "الأدب للجمهور الأوسع الذي يقرأ للمتعة".

هذا التمييّز مشابه لوضع حدود بين الفن الرفيع والفن المتدني، فنٌ للفنانين وفنٌ للجميع. من المهم النظر إلى موراكامي في هذا السّياق لأنه أثبت أنه كاتب لكلّ من الفن الرفيع، للطبقة المثقفة، وللقارئ العاديّ. تقول إلّيس وهي تشير إلى من تعدهما أشهر كاتبين منذ الثمانينات "هاروكي موراكامي ويوشيموتو بانانا كتبوا أعمالا يصعب تصنيفها على إنها إما 'خالصة' أو 'شعبية'. مصطلح جديد، أدب 'المابين'، صيغ نتيجة لذلك".

هناك من يرى أن مدخلات موراكامي من الثقافة الشعبية الأمريكية، أو كما يحلو للبعض وصفها بانعتاقه من الثقافة اليابانية، هي التي حطّت أعماله من أن تكون خالصة ولهذا السبب هي مقبولة عند عامة القرّاء. لا يحتاج المرء إلى البحث طويلا ليجد أمثلة لذلك من نصوص موراكامي: "تلك كانت أيام فرقة دورز، ذا ستونز، ذا بيردز، ديپ پيرپل، وموودي بلوز". "أحدهما كان ذا آلامو. أول إخراج لجون واين".

“من ناحية أخرى، شعبية [موراكامي] تدفعه ليلعب دورا عند الجمهور المثقف، بينما في الجانب الآخر، توظيفه لما يبدو تافه ظاهريا، والأكثر أهمية، التقاليد غير اليابانية بشكل صريح تبدو أنها تمنعه عن ذلك الدور". 


هنا يحتج ستيفن هانتكي بأن موراكامي تبنى الأسلوب "الشعبي" من أدب التحريات الصلب hard-boiled detective (نوع من أدب الجريمة، مشابه للأدب الإجرامي Noir fiction، اشتهر في عشرينات القرن العشرين واحتوى على ألغاز تُكشف من قبل شخصيات محققة قوية وغامضة)، في سبيل الوصول والتأثير على مجامع قرائية كبيرة في العالم، حيث لم يعد الأدب اليوم وسيط اجتماعي كافٍ.

حجة هانتكي قد تكون صحيحة وقد لا تكون، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كتابات يوشيموتو بانانا أيضا تعد من ضمن فئة "المابين" مع ذلك غير معروف عنها أنها تستخدم الأنواع الأدبية الأمريكية; لكن حجته هي عامل معقول لموقع موراكامي في المابين، بين كل من الثقافتين ومستوى المثقفين. في الحقيقة، أحد حجج شوزيك الرئيسة للنجاح الكوني لموراكامي هي كون الكاتب "أجنبي عالميا". لذلك، المزيج الموراكامي من الأصل الياباني والتأثيرات الأمريكية يجعله لا يكون أديباً يابانياً ولا أمريكياً، لكن شيء ما غير مصنّف. "الطبقة المثقفة اليابانية تتهكم على موراكامي الذي يعيش خارج اليابان لأكثر من عقدين… النقاد الأمريكان غالبا ما يتعاملون مع أدب المؤلف بكونه غير منفصل عن إرثه الثقافي".

لنفهم موقع موراكامي فيما بين الثقافات بشكل أفضل، يتعيّن علينا فهم صفاته على كلا الجانبين. أي، علينا أن نميّز بين ما يُؤمرِك الكاتب وما يكشف ثقافته اليابانية. بخصوص عناصر موراكامي الأمريكية، رأينا استخدامه للثقافة الشعبية الأمريكية والأنواع الأدبية الأمريكية (أدب التحريات الصلب). أيضا التلميحات بأن أبطال موراكامي يُظهرون سمات الشخصية الأمريكية، لكن هذا الزعم ليس مدعوماً كما يجب.

عوضاً عن ذلك، يبدو أكثر معقولية أن نوجّه التّهمة إلى بطل موراكامي بوجود تأثيرات أمريكية لديه، ربما بنفس الطريقة التي يكون فيها المؤلف متأثراً. بالإضافة إلى ذلك، موراكامي قضى العديد من السّنوات في أمريكا وصرّح بأن "الثقافة اليابانية غدت غير مألوفة له نتيجة لـ 'المنفى الاختياري' [عن اليابان]". لذلك، أبطال موراكامي، والذين غالبا ما يُظهرون عناصر من المؤلف فيهم، ككتاب أيضاً، تأثروا أو اُستمدوا نفس المؤثرات الثقافية التي كانت محيطة بموراكامي نفسه في الولايات المتحدة.

أما بالنسبة للعناصر اليابانية لموراكامي، فقد وجدت الإمساك بها أكثر صعوبة. مع الجيل الجديد من الكتاب اليابانيين "هكذا وعي للأصالة اليابانية لم يعد يحتل مكانة مركزية في أعمالهم… علاقة الكاتب-الوطن لم تعد تحدد نقطة الانطلاق الأساسية للنشاط الكتابي".


رغم هذا التغيّر الأدبي، هناك بعض المفاهيم المميزة. مع أن موراكامي يعرض الإحالات الثقافية الأمريكية التي لاحظها بعد مغادرته لليابان، يظل إرثه جزء من شخصيته. بنفس الطريقة التي لا يتمكن فيها النقاد الأمريكان من دراسة موراكامي دون خلفيته اليابانية، لذلك لا يتم إخراج ذلك الإرث عن الكاتب نفسه.

تقول إلّيس، بالإشارة إلى مانازورا: "إنها الحدود بين هذا العالم والآخر هي التي تلاشت، مما أتاح للبطل أن يتجول عبر المكان والزمان، مصحوباً بظل الموتى. هذا موضوع مألوف في الأدب الياباني". برز هذا المفهوم في الفصول الأخيرة من رواية مطاردة خروف بريّ، حيث أخيراً واجه البطل الجرذ، الذي من المفترض يكون الذات الأخرى له. بينما كان ينتظر وصول صديقه، حيث كان ظهوره من عدمه ما يزال غامضاً، أفشى البطل أمراً بأنه: "سيكون هنا السّاعة العاشرة مساء". حين لم يأتي الجرذ، انكشف سر: "أنت ميت أصلاً، أليس كذلك؟ … قال الجرذ 'هذا صحيح، أنا ميت'".

هناك أمثلة أخرى ملحوظة في الأصالة اليابانية لموراكامي. إطار أعماله غالباً يبدأ وينتهي في أماكن يابانية. كذلك، العلاقات بين شخصيات موراكامي معقدة وقوية وحزينة على نحو لا يُصدق. أرى أن توظيف العلاقات القوية أمراً يابانيّا لأنه موجود عند الكثير من الكتّاب اليابانيين. رواية كوكورو لناتسومي سوسيكي، على سبيل المثال، تقوم كلياً على العلاقات القوية، رغم ما تنطوي عليه من وجع. في روايّة مطاردة خروف بريّ، الرابط بين البطل والفتاة ذات الأُذن هو المحبة والمودة، وهي صفات تكاد لا تُعار أي اهتمام في روايات ما بعد الحداثة الأمريكية. في الحقيقة، أغلب روايات ما بعد الحداثة المعاصرة تعرض علاقاتٍ بائسة أو ميتة: كما في أعمال الروائيين الأمريكين دون ديليلو وثوماس بينشون.


الآن بعد أن صار لدينا فهم لمختلف المدخلات الثقافية الموجودة في أعمال موراكامي، وهذه أهم نقطة طرحها شوزيك، يمكننا الانتقال إلى آرائه الأخرى ومناقشة ما بعد حداثة كتابات موراكامي على أنها عامل إضافيّ لعالميته. قبل ذلك، سأحاول بسط مفاهيم ما بعد الحداثة.


ما بعد الحداثة، كما يعرّفها جان فرانسوا ليوتار، هي الاستدعاء المعاصر لما هو غير صالح للتقديم في الحاضر، ما يرفض الركون إلى القوالب الصحيحة، يرفض الذوق المتفق عليه بما يفسح المجال لتجربة جمعيّة من الحنين للمستحيل، ويدفع إلى التساؤل عن حاضر جديد -ليس للتمتّع فيه بل لتوليد الشعور بوجود شيء عصيّ على الحضور... [العمل] ليس مبنيا مبدئيا على قواعد مسبقة ولا يمكن الحكم عليه وفق أحكام حاسمة… تلك القواعد أو التصنيفات هي ما يبحثها العمل أو النص.

من جهة أخرى، ما بعد الحداثة تدرس بنية الثقافة وهيكلها ومبادئها التوجيهية، بهذه الحال، الأدب، وتجد متعة في المساءلة، في الغوص عميقا داخل متاهة من المعنى حتى تفقد الأشياء معناها، حيث يمكننا بعد ذلك تأملها.

ما بعد الحداثة، كأسلوب في كتابة موراكامي، كما سأوضح، بالتأكيد تضيف إلى ما يتلقاه الكاتب من قبول نقدي على نطاق عالمي.


الإشارة المستمرة إلى الثقافة الشعبية الأمريكية التي نجدها في أعمال موراكامي لها جذورها في ما بعد الحداثة. صحيحٌ ادعاء شوزيك بأن إشارة الكاتب المستمرة إلى الموسيقى والأفلام الغربية تعزله عن قرّاءه اليابانيين، لكن موراكامي لا يقوم بذلك لهذا الهدف. يشير شوزيك، عند حديثه عن نجاحات موراكامي، إلى رواية نهاية يوميات طائر، بأن الشخصية الرئيسة "تتحدث عن الجاز، تقضم الكوكيز، تستمع إلى آلن جينزبيرغ وكيث ريجارد، تشرب القهوة". إلخ.

استخدام موراكامي لهذه الإشارات الغربية يخدم في إتاحة التعليق على الثقافة الغربية بقدر ما تحمل من تأثيرات على شخصياته. أي أن موراكامي يريد من قرّاءه التمعن بما تحدثه هذه التأثيرات، وما الذي تفعله في الناس. على نفس المنوال الذي جعل همبرت همبرت في رواية لوليتا للكاتب فلاديمير نابوكوف محاطا بالممارسات التجارية الأمريكية ودائم الإشارة إليها، كذلك موراكامي يعبّر عن وسائل الإعلام المحيطة به وبشخصياته. الفكرة بالتحديد هي للتفكير وللنظر في المعنى والآثار الناتجة عن كل وسائل الإعلام، ولهذا التأثير على الثقافة الإنسانية في كل مكان.


في جميع أعمال موراكامي، تظهر أسماء الشّخصيات -وحتى الشخصيات ذاتها-بشكل غير مألوف تماما. في رواية مطاردة خروف بريّ، لا يوجد أسماء اعتيادية أو مناسبة، باستثناء الجرذ والراعي، أو الرئيس. يظلّ بطل الرواية بلا اسم، بالرّغم من أنه يعرّف نفسه على أنه "بوكو boku، كلمة شبيهة بكلمة 'أنا'، إلا أنها أكثر تواضعا".

كل من شوزيك وهانتكي يقدمان تفسيرات لشخصيات موراكامي التي بلا اسم. اتهام موراكامي بأنه "يوظِّف هذه الشخصية الرئيسة عبر عمله، بأن يجعله غالبا بلا اسم ليتيح للقارئ أن يستمر في إسقاطه من رواية إلى التي تليها" (هانتكي) تبدو كفكرة شائعة، لكنها محدودة. يحتج شوزيك بأن اللّعب على الأسماء يخدم على تثبيت عمل موراكامي في حالة غير موجودة من الغربة. لهذا السبب، تصبح شخصياته غريبة لكل من القارئ الياباني والأمريكي: "مرة أخرى تكون الشخصيات بمدى الغرابة أو التفاهة التي يكسوها بها القراء" (شوزيك).

بينما قد تكون هذه الآراء صحيحة، ربما آراء شوزيك أكثر من هانتكي، مفهوم التسمية والتصنيف هو إجراء شكليّ يحاول موراكامي بكونه كاتباً ما بعد حداثي تحاشيه في سبيل كشف خلوّه من المعنى. نجد هذا الأسلوب في أعمال أخرى، مثل رواية The Crying of Lot 49 لتوماس بينشون، حيث كان اسم البطل أوديب Oedipa. بشكل جليّ، الاسم هو إحالة إلى مسرحية الملك أوديب لسوفوكليس، بالرّغم من ذلك، شخصية أوديب عند بينشون لا تسلّم أبدا لهذه الرمزية. عوضا عن ذلك، يخدم الاسم في إبراز انتفاء المعنى في أسلوب الإحالة والترميز. هذه المحاولة للعب على مفهوم التسمية هي هدف موراكامي، ونتيجة لذلك، أدت إلى تأويلات مثل التي قدمها شوزيك وهانتكي.


ختاماً، أدرك وجود عوامل عديدة نضعها في عين الاعتبار، وأسباب كثيرة وراء نجاح موراكامي. تطرّقنا هنا للعديد منها، وربما تركنا العديد أيضا. هذه مجرد أمثلة محددة لشعبية موراكامي، وارتباطها، كنتيجةٍ لأسلوبه ما بعد الحداثي في الكتابة، والذي بلا شك يعد سبباً للجزء الأكبر من نجاح هاروكي موراكامي.