ما هي طبيعة الأحلام في الدين والفلسفة والعلم؟







تبدو الأحلام واقعية عندما نكون داخلها. فقط حين نستيقظ ندرك كم كانت غريبة.
فيلم انسبشن



قبل أكثر من عام تعرفت على عشبة روديولا الوردية والتي من فوائدها تقليل الشعور بالإعياء والتعب المصاحبين لممارسة الرياضة, إلا أن لهذه العشبة تأثيرا جانبيا يجهله الكثير من الناس, وهو جلب الأحلام. فتجعل الأحلام واضحة وواقعية بشكل كبير لدرجة أنني أحيانا أخطئ بينها وبين الذكريات. الأحلام تجعل النوم أكثر إمتاعا وبدونها تتحول ساعات نومنا لوقت مهدر, ألا توافقني؟


لكن ما الحلم؟


كيف تفاعل الإنسان مع الأحلام منذ القدم, وما هي الوسائل التي حاول من خلالها سبر أغوار هذه الظاهرة الملغزة؟ سألقي نظرة موجزة على معنى الرؤى والأحلام في ثلاثة من أكبر الأديان اليوم; الإسلام والمسيحية والبوذية ثم في الفلسفة والعلم. سيظهر لنا جليا كيف أن الأحلام حيّرت عقول البشر عبر الزمن. رغم أن الحلم ليس أكثر من أحداث خيالية تُرى ذهنيًا في المنام. إلا أن تساؤل البشر عن مدى صلة هذه الأحداث بالواقع اليومي والمستقبل والآلهة والذات كان مُلِحًّا جدًا, ولا يزال.





الأحلام في الإسلام


الرؤيا من الله والحلم من الشيطان.
حديث شريف


استقر في الذهنية العربية الإسلامية أن الأحلام تأتي من عالم الغيب محمولة "على رِجل طائر" إلى النائم, والمفسّر يقوم "بتعبيرها" من ضفة الغيب إلى ضفة الشهادة فهي "تقع على ما يُعبَر, مَثَلُ ذلك مِثْلَ رَجُل رفع رِجله فهو ينتظر متى يضعها". لذا يشير المفكر التونسي يوسف الصديق إلى تصديق النبي إبراهيم للرؤيا, رغم أن الرؤيا يجب أن تُعْبَر لا أن تُصَدَّق: "كنتُ أول من صرح أن إبراهيم في الصافات كان يُلام من طرف المُوحي, الله عز وجل, كان يُلام على أنه صدّق الرؤيا, فالرؤيا لا تُصَدَّق وإنما تُعْبَر [كما] عند يوسف, لذلك كان يوسف يشكر المولى على أنه علمه من تأويل الأحاديث ..إلى آخره. ويوسف بمثابة ريكور وفرويد .. أنه يَعْبُر الرؤيا, يَعْبُر كما تعبر بين ضفتي نهر, بينما إبراهيم كان بدائي وقد لامه المولى وفداه بذبح عظيم, يعني أنت صدّقت الرؤيا لكن لا يمكن أن تُصَدّق الرؤيا". لهذا يسمى تفسير الرؤى تعبيرا والمفسر هو المُعبّر "لأَنه يتأَمل ناحيَتي الرؤيا فيتفكر في أَطرافها، ويتدبَّر كل شيء منها ويمضي بفكره فيها من أَول ما رأَى النائم إِلى آخر ما رأَى" كما جاء في لسان العرب. ومصدرها الغيبي هو اللوح المحفوظ حيث تنقل منه الملائكة ما يتناسب مع النائم , يقول ابن حجر العسقلاني: "وكَّل الله بالرؤيا ملكاً أطلَّع على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ فينسخ منها ويضرب لكل من قصته مثلاً فإذا نام مثّل تلك الأشياء على طريق الحكمة لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة".


فالحلم قد يكون بشارة أو نبوءة من الله, أو تحزين من الشيطان, أو حديث نفس من ذكريات وأمانيّ, أو ملاقاة لأرواح الأسلاف, أو ضغث أي مُختلط ليس له معنى.


وبسبب هذه المنزلة العظيمة للرؤيا صار الكذب في المنام أشنع من الكذب في اليقظة ويبرر ابن منظور ذلك لأنه "قد صح الخَبَرُ أَن الرؤيا الصادقة جُزْءٌ من النُّبُوَّة، والنبوةُ لا تكون إلاَّ وَحْياً، والكاذب في رؤياه يَدَّعِي أن الله تعالى أراه ما لم يُرِهِ، وأَعطاه جزءاً من النبوة ولم يعطه إياه، والكذِبُ على الله أَعظم فِرْيَةً ممن كذب على الخلق أو على نفسه". وجاء في الحديث الشريف "إن من أفرى الفرى أن يُري عينيه ما لم ترَ".


ففي الإسلام، الأحلام هي إحدى القنوات التي يتواصل خلالها الله مع البشر، والقدرة على التفسير دلالة على القرب من الله "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك".
وكانت بداية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه "كان يرى الرؤيا فتأتي كفلق الصبح". وبلغ اهتمامه بالرؤيا أنه كان يسأل أصحابه بعد صلاة الصبح إن كان أحدهم قد رأى رؤيا, فعن سمرة بن جندب قال: "كان النبي إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه، فقال هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟". ويعلل القرطبي ذلك بأن النبي كان يريد من خلال معرفة رؤياهم أن "يستكثر من الإطلاع على الغيب". وأكّد على أهميتها للمسلمين بقوله: "ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة". فرؤيا الأنبياء متصلة اتصالا وثيقا بالله تعالى, فحين أخبر إبراهيم ابنه: "إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى" فهم مباشرة أنها أمر إلهي "قال يا أبت افعل ما تؤمر". وأبوبكر الصديق سُمِّيَّ صديقا لأنه صدّق النبي فيما أخبر عما رآه ليلة أُسري به وأن ذلك كان من الله, بينما فتن هذا الحدث غيره. يقول الطبري في تفسير "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏": "إلا بلاء للناس الذين ارتدّوا عن الإسلام، لمَّا أُخبروا بالرؤيا التي رآها، عليه الصلاة والسلام وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تماديا في غيهم، وكفرا إلى كفرهم".


في الحروب
تفاعل العرب مع الرؤى آنذاك لم يكن حصرا على المسلمين, فعاتكة بنت عبدالمطلب رأت رؤيا أفظعتها قبل غزوة بدر بثلاث ليال وهي في مكة لم تسلم بعد. رأت أن رجلا على بعيره وقف في الأبطح ثم على ظهر الكعبة ثم على رأس جبل وفي كل موضع كان ينادي بأعلى صوته: "ألا انفروا يا أهل غُدَر لمصارعكم في ثلاث" ثم رمى صخرة فتفتت ودخل كل بيت في مكة جزء منها. عاتكة استكتمت العباس بهذه الرؤيا, إلا أنها لم تلبث أن ذاعت بين قريش. فرأى أبو جهل العباس وسأله عن رؤيا عاتكة: "يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم  هذه النبية؟" أنكر العباس أن هذا حدث, ثم توعده أبو جهل إن لم يحدث شيء بعد ثلاث فسيكتب كتابا يعلقه على الكعبة يعلن فيه أن بني هاشم هم أكذب بيت في العرب. في اليوم الثالث جاء ضمضم يصرخ فزعا: "يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث".
وقبل غزوة بدر بليلة, أُري النبي أعداءه على أنهم قِلّة فأخبر بذلك أصحابه وأدى هذا إلى استثارة حماستهم وتثبيت قلوبهم لملاقاة عدوهم وانتهاءً بنصرهم عليهم رغم أن الأعداء في الحقيقة لم يكونوا قلّة يقول تعالى "إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور, وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور". يشرح ابن كثير ما حدث بـ "أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالآخر، وقلله في عينه ليطمع فيه، وذلك عند المواجهة". فالحلم كان له أثر واضح على تثبيت المؤمنين باعتباره رسالة من الله.


تذكر بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى غزوة أحد في المنام قبل وقوعها: "رأيت كأن في سيفي ذي الفقار فَلًّا ، فأولته قتلا يكون فيكم، ورأيت أني مُردِف كبشا، فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة، فأولتها المدينة، ورأيت بقرا تُذْبَح، فَبَقَرٌ والله خير, فَبَقَرُ والله خير" . فكان الذي قال رسول الله.


وحين كان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل فتح مكة رأى في المنام أنه وأصحابه يطوفون حول الكعبة محلقين رؤوسهم ومقصرّين, فبشر بها أصحابه. فلما كان بالحديبية وبعد عقد الصلح ارتاب المنافقين في رؤياه بأن قالوا وهم في طريق عودتهم "رأى فلم يكن الذي رأى" وقالوا "ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا ولا قصرنا" فأكد الله صدق رؤيا نبيّه وأنها كانت حقًا في السنة التالية حين دخل مكة فاتحا: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا".


في التشريع
كذلك بعض التشريعات اُستمدت من الرؤى, فنشأة الأذان وعباراته تعود إلى حلم لأحد الصحابة: "اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا, فلم يعجبه ذلك, قال: فذكر له القنع يعني الشبور, وقال زياد: شبور اليهود فلم يعجبه ذلك, وقال: " هو من أمر اليهود ", قال فذكر له الناقوس, فقال: " هو من أمر النصارى", فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله, فأُري الأذان في منامه, قال: فغدا على رسول الله فأخبره, فقال له: يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان, قال: وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما, قال: ثم أخبر النبي فقال له: "ما منعك أن تخبرني؟", فقال سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت, فقال رسول الله: " يا بلال, قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله", قال: فأذن بلال, قال أبو بشر: فأخبرني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضا لجعله رسول الله مؤذنا."


زواج أم المؤمنين عائشة
تروي عائشة أن زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم كان أمرًا من الله رآه في المنام كما أخبرها بذلك النبي نفسه: "أُريتك في المنام مرتين أرى أنك في سرقة من حرير ويقال : هذه امرأتك ، فاكشف عنها فإذا هي أنت فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه".


الزمن المعاصر:
التراث الإسلامي زاخر بحكايات كثيرة تستند على الأحلام لتقديم تأييد إلهي لموقف أو شخص أو لتفسير وتعليل بعض الأحداث والظواهر. فبعد وفاة أي شخصية ذات شأن ديني أو سياسي يروي أقرباؤه ومحبيه أنهم رأوه في نعيم وأما أعداؤه فيرونه يعاني.
فالشيخ أبو إسحاق الحويني يصف مدى تسليم سفيان الثوري للحق كما رآه في رؤيا, والدكتور مصطفى محمود يذكر أن سبب هدايته هو رؤيا عجيبة حيرته ويروي قصة امرأة فرنسية وشفائها من السرطان دون تدخل طبي, والشيخ سعيد البوطي يحكي رؤيا كلفه الله بنقلها حول ما سيحدث في سوريا, والشيخ سلمان العودة رأى النبي والصحابة في مكة وعدّها بشارة لقرب زوال إسرائيل.



أهمية الأحلام في الدين الإسلامي وفي وعي المسلمين لا يمكن التقليل منها, فمكانتها الدينية راسخة وسلطتها قوية جدا. هي ليست ركنا من أركان الإسلام ولا الإيمان, لكنها كامنة في روح الدين وتفاصيله.


الأحلام في المسيحية
يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم احلاماً.
سفر أعمال الرسل

تشترك المسيحية مع بقية الأديان الإبراهيمية في الاهتمام بالأحلام وتقر بصلتها الإلهية وأنها نبوءات غيبية. إلا أن نشأة المسيحية بين محيط وثني روماني جعل كتّاب الأناجيل يهملون التركيز على دور الأحلام في حياة المسيح لحرصهم على إظهار مدى مخالفة هذه الديانة الجديدة المغايرة لما هو سائد عند الوثنيين  countercultural movement حيث كانت هناك قصص كثيرة عن مساعدة الآلهة الوثنية للبشر من خلال الظهور لهم في الأحلام. فيروي مرقس في إنجيله أن المسيح صعد الجبل مع ثلاثة من أتباعه ورأوا موسى وإيليا وحادثوهم, وتحدثت إليهم السحابة أيضا. هذه القصة تروى على أنها حدثت فعلا وليست حلما رآه المسيح,  فظهرت صورة المسيح بشكل رفيع جدا يسمو عن الحاجة إلى الأحلام, فما حاجة الرب لأن يرسل لنفسه أحلاما؟


ميلاد المسيح
بيلاطس وهو يغسل يديه
يبدأ متّى إنجيله بحكاية حلم أتى يوسف النجار بعد أن حملت مريم وهو لم يقربها بعد: "و لكن فيما هو متفكر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح  القدس, فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم". وبعد ولادة المسيح اضطرب هيرودس ملك اليهودية في الجليل بعد أن جائته مجموعة من المجوس يسألونه أين هو مولود اليهود لأنهم أتوا ليسجدوا له بعدما رأوا نجمه في المشرق. حينها قرر هيرودس أن يفتش عنه ويقتله فحلم يوسف النجار حلما ثانٍ: "و بعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي  ليهلكه". وبعد وفاة هيرودس أتاه حلم ثالث: "قم و خذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي". يوسف تعامل مع هذه الأحلام على أن مصدرها إلهي بلا أدنى شك, فكان في كل مرة بعد استيقاظه يسارع للامتثال لما رأى.


مثلما كان للأحلام دور عند ولادة المسيح, كذلك قبل وفاته. فأثناء محاكمته أمام بيلاطس البنطي, أتى إلى بيلاطس خبر من زوجته تناشده أن لا تكون له يد في إيذاء المسيح لأنها رأت حلما أفزعها: "وإذ كان جالسا على كرسي الولاية أرسلت إليه امرأته قائلة إياك وذلك البار لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله". واستجاب بيلاطس لزوجته حتى قبل أن يعرف فحوى رؤياها. فغسل يديه أمام الجمع كإشارة إلى تبرئه مما قد يحدث للمسيح من قبل اليهود المحتشدين الذين يطالبون بصلبه.



راية قسطنطين
قسطنطين
كان سبب دخول قسطنطين إلى المسيحية في بداية القرن الرابع الميلادي, وهو الذي نقل المسيحية من طائفة مضطهدة إلى واحدة من الديانات المعترف بها في الإمبراطورية الرومانية, حلم رآه قبل إحدى معاركه. فحسب ما تقول الأسطورة, أنه رأى رؤيا نهاريّة ثم رؤيا أخرى مطابقة لها في منامه قبل معركة جسر نهر ميلڤيان التي انتصر بها نصرا مؤزرا. كانت الرؤيا أنه شاهد صورة باهرة لراية اللبرومة Labarum والتي ترمز إلى شعار الرب المسيحي, الصليب. في اليوم التالي أمر أن تُنقش هذه الصورة على الدروع وحين تحقق لهم النصر, اعتقد قسطنطين أن الذي نصرهم هو رب المسيحيين.



اتجاهين
لم يشكك المسيحيون الأوائل بالمصدر الإلهي للأحلام, أو بأنها شكل من أشكال الوحي والإلهام. فالرسول بولس رأى عدة أحلام دعاه فيها أشخاص للذهاب إلى مقدونيا ومساعدتهم, فتوجه إليها. ومن الآداب المسيحية المبكرة كتاب راعي هرماس الذي كُتب في القرن الثاني ويتكون من ثلاث فصول; الفصل الأول رؤى, والثاني أوامر والثالث أمثال. واعتمده بعض آباء الكنيسة, كإرينيئوس وأوريجينوس, كجزء من الكتاب المقدس, لكن بسبب احتواءه على تصور مغاير لفكرة ابن الله (كان يرى أن الروح القدس هو ابن الله) اُستبعد لاحقا ليصير من النصوص الأبوكريفا (غير قانوني).
إلا أن من بين الاتجاهات التي رأت في الأحلام رسائل إلهية وفوائد دينية وبين آخرين رأوا عدم الاعتماد على الأحلام في أي ممارسة دينية, رجَّحت الكنيسة الكفة الثانية وذلك في سعيها لمخالفة الوثنيين وطقوسهم. فالقديس ترتوليان قسّم الأحلام إلى ثلاث أنواع (من الله, ومن الشيطان, ومن النفس), لكن آراءه في الأحلام رُفضت من ما جملة ما رُفض بعد اعتناقه للفكر المونتاني القائل باستمرارية الوحي. وأوريجينوس كان يرى أن الأحلام ملازم طبيعي للإيمان بالله فيقول: "كل من يؤمن بالعناية الإلهية يوافق بدهيا بالإيمان أن في الصور التي يراها الكثير من الناس في أذهانهم حينما يحلمون, بعضها أشياء إلهية, وأخرى نبوءات لأحداث مستقبلية, سواء كانت جلية أو غامضة".


القرون الوسطى
بعد ترجمة العديد من كتب الفلسفة اليونانية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر وبالأخص فلسفة أرسطو التي اعتمد عليها توما الأكويني في كتابه الخلاصة اللاهوتية Summa Theologica حيث دلل منطقيا على مختلف المعتقدات المسيحية, وبلغ هذا العمل من الأهمية حيث كان من أكثر النصوص اعتمادا بعد الإنجيل في الكاثوليكية. الأكويني تناول الأحلام كما تناول سائر المواضيع الدينية منطلقا من إيمانه العقلاني الذي حاول فيه التوفيق بين العقيدة المسيحية وفلسفة أرسطو. واتخذ موقفا متوسطا تجاه الأحلام متوسطا بين آباء الصحراء الذين تعاملوا مع الأحلام بريبة ورفض وبين الذين تحمسوا للأحلام بشكل كبير. فقبل القيمة الروحية للأحلام وبأن الله يكشف للبشر بعض الأشياء في مناماتهم عن طريق الملائكة, إلا أنه عدّها نتاج حالة عقلية متدنية معرضة بشكل دائم لمكر الشياطين. وكذلك رأى أن تحقق الرؤى النبوئية دليلا على صحتها.

بشكل عام, قُبلت الأحلام في المسيحية على أنها إحدى الوسائل الشرعية التي يتواصل بها الله مع البشر, مع تركيز الكنيسة في نفس الوقت على مخاطر الأحلام الشيطانية. وكان المسيحيون العاديون من خارج الكنيسة يأملون من أحلامهم أشياء شتى, كالنبوءات والعلاج والإلهام والإرشاد والطمأنينة في لحظات الخوف. المسيحية لم تطور طريقة رسمية لتفسير الرؤى إلا أن الناس اعتمدوا بشكل كبير على الكتابات السابقة للمسيحية من المصادر اليونانية والرومانية.



الأحلام في البوذية
اتخذت المذاهب البوذية الرئيسة الثلاثة (الثيراڤادا, الماهايانا, والتانترايانا) مواقف مزدوجة ومتناقضة تجاه الأحلام. فأحيانا تُصوَّر على أنها وهم لا معنى له, وفي نفس الوقت تكون علامات دالة على بداية روحية جديدة. وأعلى الأحلام تلك التي يسعى لها البوذيون بأنفسهم خلال تأملهم الواعي أو نتيجة لطقوس احتضان الأحلام.

ولادة بوذا
في سيرة حياة سدهارتا (ثم بوذا لاحقا) حلمين. كلاهما رأته امرأة, وكلاهما كان تمهيدا لبداية جديدة. الأول قبل ولادته والثاني قبل أن يصير متنورا. فقد ولد سدهارتا في القرن السادس قبل الميلاد لأسرة حاكمة في شمال شرق الهند. قبل ولادته كانت أمه, الملكة مايا, مشاركة في مهرجان منتصف الصيف الذي يستمر لسبعة أيام حتى يكتمل القمر في الليلة الأخيرة. استيقظت أمه في اليوم السابع مبكرا, استحمت بماء معطّر, ووزعت بعض الصدقات. ارتدت ثيابا فاخرة وتناولت طعاما طاهرا, وأدّت نذور اليوم المقدس. حين نامت شاهدت هذه الرؤيا:
حلم الملكة مايا
حملها حراس العالم الأربعة وهي على سريرها إلى جبال الهمالايا وأجلسوها عند شجرة شورية قاسية عظيمة. ثم قامت ملكتهم بتحميمها وكستها بملابس سماوية معطرة ووضعت إكليلا من الزهور السماوية عليها. أجلسوها على سرير سماوي رأسه موجه ناحية الشرق. وبوذا المستقبلي يتجول بهيئة فيل أبيض فاتن. أتاها من ناحية الشمال. طاف حولها ثلاث مرات حاملا زهرة لوتس بيضاء في خرطومه. ثم ضرب جانبها الأيمن بلطف ودخل في رحمها.
ما فعلته الملكة مايا من طقوس قبل نومها هو احتضان الأحلام dreams incubation, فيكون الحلم بمثابة بذرة تُغرس في الذهن وتُحتضن على أمل أن تثمر حلما متعلقا بموضوع معيّن, إما في سبيل المتعة والترفيه أو لحل مشكلة.
قصة حلم الملكة مايا تحاول أن تخبرنا أن بوذا هو الذي خصّب أمه بنفسه خلال ما يعرف بزنا المحارم المقدس divine incest في إشارة إلى كسره لسلطة الأخلاق البراهمانية (الهندوسية) عبر الرفض الأسطوري لوجود أب بشري له.



خروج سدهارتا طلبا للحكمة
عاش سدهارتا كأمير مرفه لأبعد حد في قصره, حياته كانت بعيدة عن كل ما يعانيه الناس في الخارج. حتى بلغ التاسعة والعشرين حينها اتخذ قرارا جعله يبلغ مرتبة التنوير ويتغير من سدهارتا إلى بوذا (المُتَنَوِّر).  جاءت هذه اللحظة الفاصلة نتيجة لقرار سدهارتا بأن يخرج بعيدا عن قصره وإذا به يفاجئ برؤية أشياء حجبتها حياة القصر عنه فلم يتفكر بها من قبل, كالشيخوخة والمرض والموت. إدراكه لهذه المعاناة المصاحبة للوجود الإنساني استحثه على أن يعتزل العالم ويعيش كزاهد متجول بحثا عن الحقيقة والحكمة والطمأنينة. حين قرر بينه وبين نفسه أن يغادر القصر برحلة قد لا يعود منها, رأت زوجته گوبا رؤيا فذهبت ترويها لسدهارتها وهي قلقة:
رأت الأرض كلها بما فيها المحيطات وقمم الجبال تهتز, والرياح تقتلع الأشجار. الشمس والقمر والنجوم كلها سقطت من السماء. ورأت أنها تقص شعرها بيدها اليسرى وتاجها ملقى على الأرض. ثم قُطعت يديها ورجليها, وصارت عارية, وتمزع عقد رقبتها اللؤلؤي وتناثر. رأت سريرها مكسورا, مستوٍ بالأرض, ومظلة الملك مكسورة والحلي المتساقط يحمله النهر بعيدا. حلي زوجها وملابسه وتاجه متناثرين على السرير. رأت نورا يأتي من المدينة, التي كانت قابعة في الظلام. والشباك الجميلة المصنوعة من مواد نفيسة أيضا ممزقة, وأكاليل اللؤلؤ سقطت. المحيط العظيم هائج, وجبل ميرو يهتز من أساسه.
يحق لها أن تفزع وتقلق على زوجها بعد كل الذي رأت, فمن العادات الهندوسية للمترملة أن تقص شعرها وتمتنع عن ارتداء الحلي. لكن عندما سمع سدهارتا هذه الرؤيا منها حاول أن يقنعها بتفسير معاكس, وقال لها: "ابتهجي, هذه الرؤيا ليست ضارة. الصالحون يرون مثل هذه الرؤى. البؤساء لا يرون مثلها. رؤيتك للأرض وهي تهتز ولقمم الجبال وهي تهوي معناه أن الآلهة, ناگاس وراكاس وبوتاس, سيجعلون لكِ شأنا عظيما. أما الأشجار التي قُلعت من جذورها وشعرك المقصوص بيدك اليسرى يعني أنكِ قريبا ستقطعين شبكة العاطفة وستزيلين حجاب الرؤى الخاطئة التي تعتم العالم. أما رؤية أجرام السماء وهي تهوي فيعني أنكِ قريبا ستملكين زمام عواطفكِ, وسيشاد بكِ وستُكَرَّمين.. ابتهجي, لا تغتمي; كوني قنوعة وراضية. قريبا ستكونين في منتهى السعادة والرضا. اصبري يا گوبا, الطوالع مبشرة".
اضطر سدهارتا أن يفسر رؤياها بهذا المعنى ليصرف عن ذهنها عزمه على الرحيل. ففي اليوم التالي لهذه الرؤيا فقدت گوبا زوجها وصارت عمليا أرملة.


محاورة الملك ميليندا مع الراهب ناگاسينا
المفهوم البوذي للأحلام يتضح أكثر في المحاورة التي جرت بين الراهب ناگاسانا مع الملك ميليندا في القرن الثاني ق. م. كان نقاشهم يدور حول مسائل دينية ووجودية مختلفة, إلى أن تسائل الملك عن طبيعة الحلم وهوية الحالم فكان هذا الحوار بينهما (بتصرف):
ميليندا: يا ناگاسينا الموقر, الرجال والنساء في هذا العالم يرون أحلاما سارة وأخرى خبيثة, أشياء رأوها من قبل وأشياء لم يروها قط, أشياء فعلوها وأشياء لم يفعلوها, أحلاما هادئة وأخرى فظيعة, أحلام بما هو قريب منهم وبما هو بعيد, أحلام مليئة بشتى الأشكال وبألوان لامتناهية, ما هذا الذي يسميه البشر الحلم, ومن هو بالتحديد الذي يشاهد الرؤيا؟
ناگاسينا: الحلم هو نيميتام nimittam, أي نذير أو تلميح يَعبُر الذهن. هناك ستة أصناف من البشر يرون الأحلام - الرجل ذو الفكاهة الفارغة أو المتشائم أو البارد في عواطفه, الرجل الذي يحلم من تأثير الإله, الرجل الذي يحلم بسبب عاداته, والرجل الذي يحلم للتكهن. كلها أحلام زائفة باستثناء الأخير. حين ينام المرء لا يذهب ذهنه بنفسه في طلب الطالع, وكذلك لا يأتيه أحد ليخبره به. إنه أشبه بالمرآة, التي لا تذهب إلى أي مكان لتطلب الانعكاس; كذلك لا يأتي أي أحد ليضع الانعكاس على المرآة. لكن الأشياء المعكوسة تأتي من مكان أو آخر عبر البيئة المحيطة والتي من خلالها تمتد قوة انعكاس المرآة.
ميليندا: يا ناگاسينا الموقر, حين يرى الرجل حلما, هل يكون مستيقظا أم نائما؟
ناگاسينا: لا هذا ولا ذاك, أيها الملك, ولا حتى أي شيء آخر. لكن حين يصير نومه خفيفا (مثل نوم القرد) وهو ليس واعيا بشكل كامل, هذه الفترة تحدث الأحلام. حين يكون المرء في نوم عميق, أيها الملك, ذهنه يعود إلى حالته الأصلية (يدخل مجددا في حالة باڤانگا Bhavanga), فينغلق الذهن ولا يعمل, والذهن الممنوع عن العمل لا يعرف الشر والخير, والذي لا يعرفهما ليست له أحلام. إنه حين يكون الذهن فعالا تحدث الأحلام. كما أنه, أيها الملك, في الظلام والعتمة, حيث لا يوجد أي ضوء, لن تسقط أي ظلال حتى على أكثر المرايا صَقيلا, فحين يكون المرء في نوم عميق يرجع ذهنه إلى ذاته, والذهن المغلق لا يعمل, والذهن الخامل لا يعرف الشر من الخير, والذي لا يعرف لا يحلم.
ميليندا: يا ناگاسينا الموقر, هل هناك بداية ومنتصف ونهاية للنوم؟
ناگاسينا: الشعور بالإرهاق والعجز, أيها الملك, والضعف والكسل والهمود - هذه بداية النوم. نوم القرد الخفيف, حيث المرء لا يزال مسيطرا على خواطره المشتتة - هذا منتصف النوم. وفي هذه المرحلة, أيها الملك, أثناء نوم القرد تحدث الأحلام. كما لو أن المرء قيّد نفسه بمجموعة من الخواطر, ثابت في إيمانه, غير متزعزع في الحكمة, ينغمس عميقا في الغابة بعيدا عن أصوات النزاعات, ويتأمل بعض المسائل الدقيقة, وهو هناك في الهدوء والسلام, سيتمكن من سبر غور معناها - كذلك المرء الذي لا يزال يقظا, لم ينم بعد, إلا أنه يغفو إلى نوم القرد, سيشاهد أحلاما.
ميليندا: رائع جدًا يا ناگاسينا! إنه كذلك, وأنا أقبله كما تفضلت.



قصة حياة بوذا تعزز من مكانة الأحلام والدور الذي لعبته حتى بلغ سدهارتا مرتبة التنوير والتي رفعته إلى حالة ذهنية لم يعد يحلم بعدها, كأن من يحلم ليس مستنيرا بعد. ففي البوذية الأحلام تعد حالة أدنى من الوعي المستنير, إلا أنها تظل أداة مهمة في طريق التنوير.




فلسفة الأحلام
في إحدى الليالي, حلم جوانگ زي أنه فراشة - فراشة سعيدة, تتباهى وتفعل ما يحلو لها, غير مدركة أنها جوانگ زي. فجأة استيقظ وأدرك وهو بقمة نعاسه أنه جوانگ زي مجددا. ولم يعد يستطيع التمييز في ما إذا كان جوانگ زي هو الذي حلم بالفراشة أم أن الفراشة هي التي تحلم الآن  بجوانگ زي. لكن يجب أن يكون هناك فرقا بينهما! هذا ما يسمى بـ 'تحوّل الأشياء'.



من الناحية الفلسفية, تناول فيلم انسبشن موضوع الأحلام بأسلوب شيّق جدًا لكنه كذلك لا يخلو من صعوبة لفهمه بسبب ما يحيط هذا الموضوع من تعقيدات:




لننظر كيف رأى الفلاسفة الأحلام. كان أفلاطون يؤمن بقدرة الأحلام وبالبعد الغيبي لها. أما أرسطو فقطع أي صلة بين الأحلام والآلهة, قد يكون ذلك لتصوره أن الإله (المحرك الأول) ليس مشغولا بالمرة بهذا العالم وليس له علاقة مباشرة بهذا العالم, فهو خلقه وتركه إلى سبيله. وامتد شك ديكارت إلى الأحلام, فقد رأى في البداية أنها تشكل تهديدا للمعرفة لعدم قدرتنا في أي لحظة على الحكم ما إذا كنا نحلم أم لا, ثم وضع بعض العلامات الواضحة للتفريق بين حلمه ويقظته وخلص إلى أن الأحلام لم تعد تشكل تهديدا حقيقيا على المعرفة الحسية.


هناك بعض السمات التي يمكننا من خلالها تحديد خصائص الحلم إزاء ما يقابلها في الواقع. فالأحلام هي عالم اللامنطق. لا يمكن تحديد وقت ثابت فيها, ليس للأشياء ملمس مميز, ولغة الأحلام هي الصور. أما العالم الذي نصطلح على تسميته بالواقع فيتسم بالاتصال والترابط والتكامل والاستمرارية وفي نفس الوقت بالثبات بين الأحداث والأفعال والأسماء والعلائق. فأنت اسمك اليوم هو نفسه في الأمس وفي الغد, كذلك علاقتك بمن حولك. ولغة الواقع هي الكلمات.


لكن ما سبب تحقق بعض الأحلام كما رأيناها؟
السبب الأول هو الصدفة. فنحن كل ليلة نحلم عدة أحلام, سواء تذكرناها أم لم نتذكرها. فخلال عام واحد نحلم بآلاف الأحلام وتحقق حلم أو اثنين منها يمكن حمله على محمل المصادفة.
السبب الثاني هو الإيحاء. وهو التأثير الذي يحدث في نفس الرائي ويدفعه لأن ينفذ الرؤيا فتتحقق وكأنها نبوءة صادقة.


الجانب العلمي للأحلام
درجة الغموض والإلغاز المحيطة بعالم الأحلام تجعلنا لا نستطيع أن نكتفي بمنظومة فكرية واحدة نستسقي منها كل الأجوبة التي نريد. فيمكن للدين أن يحدثنا بالتفصيل عن ماهية الأحلام والرؤى, والفلسفة تشرّح لنا الحلم وتتأمل كل عناصره. لكن من أفضل مَن يأتينا بإجابة وافية عن "كيفية" حدوث الحلم في أدمغتنا. بلا شك إنه العلم:















للمزيد حول الأحلام



مراجع

Dreaming in the World's Religions: A Comparative History by Kelly Bulkeley

كيف أكتب القصص القصيرة





كيف أكتب القصص القصيرة
بقلم: و. سومرست موم
ترجمة: علي الصباح

لحسن حظي أني كنت أتمتع بقدر جيد من الاستقلالية عندما بدأت بكتابة القصص القصيرة, فكنت أكتبها كنوع من الاستراحة عن العمل الذي أظن أنني قضيت وقتا طويلا في الانهماك فيه. أغلب القصص كُتبت كمجموعة من الملاحظات التي دونتها حسبما تواردت إليّ, وكنتُ أرجئ ما بدى لي الأصعب إلى النهاية. تصعب كتابة القصة عندما لا تعرف تفاصيلها منذ البداية, لكن في بعض الجوانب عليك أن تثق بخيالك وتجربتك. أحيانا لا تبدو لك منعطفات القصة بشكل جلي فيجب عليك حينها أن تلجأ إلى هذه الطريقة أو تلك إلى أن تتضح معالمها.
أرجو من القارئ أن لا يقع في فخ الانطباع الذي تخلّفه الكثير من قصصي للوهلة الأولى, بأنها تجاربي الشخصية. هذه ليست إلا وسيلة لجعلها تبدو واقعية. وهي وسيلة لها عيوبها, فقد يُصدَم القارئ بجهل الراوي لبعض الأحداث التي يستعرضها; وحين يحكي قصة أخبره بها شخص آخر, قد يكون المتحدث ضابط شرطة أو قبطان على سبيل المثال, لن يتمكن من أن يُعبّر عن نفسه ببراعة ولا بقدر كبير من التفصيل. كل طريقة ولها مساوئها. والتي يجب إخفائها, أما ما لا يمكن إخفائه فيلزم تقبله. وفائدتها في مباشرتها. فهي تتيح للكاتب أن يروي ما يعرفه فقط. بلا إدعاء بكونه راويا عليما, يمكنه أن يعترف بصراحة حينما يكون السبب أو الحدث مجهولا له, وهذا غالبا ما يعطي قصته شيء من المعقولية التي قد تفتقد إليها دون ذلك. وتخلق صلة بين القارئ والكاتب. منذ موباسان وتشيكوڤ Maupassant and Chekhov, اللذان حاولا بشدة أن يكونا موضوعيين, وبالرغم من ذلك كانا يكتبان بشكل شخصي جدا لذلك يترائى لي أحيانا بأن الكاتب إذا لم يستطع بأي وسيلة أن يعزل نفسه عن عمله فقد يكون من الأفضل أن يضع فيه قدر الإمكان من ذاته. الخطورة أن يضع الكثير جدا من ذاته فيصير كالمتحدث الذي يصر على احتكار الكلام. مثل كل الوسائل, هذه الوسيلة يجب أن تستخدم بحذر.
في بداية شبابي كتبتُ عددا من القصص القصيرة, لكن لأمد طويل, اثنا عشر أو خمسة عشر سنة على الأقل, انهمكت في الدراما وتوقفت عن ذلك; وبشكل غير متوقع وفرت لي رحلة إلى البحار الجنوبية الكثير من المواضيع التي بدت مناسبة للقصص القصيرة, كنت في بداية الأربعينيات حين كتبت القصة التي أسميتها “مطر”. يجب على قارئ هذه المقالة أن يتحلى بشيء من الصبر إذا ما أمليت مسودات لبعض القصص التي كتبتها سابقا. كُتبت بتعابير مستخدمة بكثرة وغير دقيقة, وبلا طلاوة; لأن الطبيعة لم تمنحني تلك المنحة المبهجة بأن انتقي غريزيا المفردات المناسبة لأشير إلى الموضوع وأستخدم النعوت الغير عادية, لكن الملائمة, لوصفه. أثناء سفري من هونولو إلى پاگو پاگو كنت أدوِّن على عجل انطباعاتي عن الركاب, على أمل أن تكون ذات نفع في يوم ما. هذا ما كتبته عن السيدة تومسون:
سمينة, وتبدو جميلة بشكل خشن, ربما لا يتعدى عمرها سبعة وعشرون عاما. ترتدي فستانا أبيض وقبعة بيضاء كبيرة, حذاء طويل حيث تبرز ساقيها في جوارب قطنية.
كانت هناك مداهمة لحيّ البغاء في هونولولو قبيل إبحارنا وسرت شائعة في السفينة بأنها في هذه الرحلة هربا من الاعتقال.
تستمر ملاحظاتي:
السيد و. المبشر الديني. كان رجلا طويلا ونحيلا, بأطراف طويلة ومفاصل متصلة بشكل لين, خدّيه أجوفان وعظمتهما عالية, عيناه الواسعتان والداكنتان والجميلتان غائرتان عميقا في تجويفهما, شفتيه شرهتان بشدة, وشعره طويل نوعا ما. رائحته كالجيفة ومنظره كالنار الخامدة. يداه كبيرتان, وأصابعه طويلة ومنتظمة الشكل نوعا ما. كانت الشمس الاستوائية تحرق جلده الباهت بعمق. السيدة و. زوجته. كانت امرأة قصيرة وشعرها مصفف بعناية شديدة, على الطريقة الإنگليزية; عيون زرقاء غير بارزة وراء نظارة أنفية بإطار ذهبي, وجهها طويل كوجه نعجة, لكنها لا توحي بأي انطباع بالغباء, بل بالعكس تبدو شديدة اليقظة. حركاتها سريعة كطائر. صوتها هو أبرز ما فيها, عالٍ, رنان, وبلا التواءات; يلامس الأذن برتابة قوية, يهيّج الأعصاب كصخب مستمر صادر عن آلة حفر هوائية. كانت ترتدي فستانا أسود وعلى عنقها سلسلة ذهبية يتدلى منها صليب صغير. أخبرتني بأن و. مبشر ديني في جزر گيلبيرت ومنطقته تحتوي على عدد واسع من الجزر التي يحتاج يتنقل بينها في زورق كنو بشكل متكرر. خلال هذا الوقت تظل هي في المقر الرئيس وتدير الإرسالية.
غالبا ما تكون البحار هائجة ولا تخلو الرحلات من مخاطر. كان مبشرا طبيا. كانت تتحدث عن فساد السكان المحليين بصوت لا يكاد يُسمع, لكنها كانت تتحدث بقوة وباشمئزاز مُتَكَلَّف وهي تخبرني عن عادات زيجاتهم التي كان الفحش فيها يفوق الوصف. قالت, عند وصولهم كان من المستحيل إيجاد فتاة واحدة جيدة في أي قرية. هاجمت الرقص بعنف.
تحدثتُ لمرة واحدة مع المبشر وزوجته, ولم أتحدث مطلقا مع الآنسة تومسون. هنا مسودة القصة:
مومس, تحلّق من هونولولو بعد مداهمة للشرطة, وتصل إلى پاگو پاگو. وصل معها كذلك مبشر وزوجته. كذلك الراوي. الجميع مجبور على الانتظار هناك بسبب تفشي الحصبة. المبشر عرف حقيقة مهنتها وضيّق عليها. أجبرها على البؤس, العار, والتوبة, لا يجد في نفسه رحمة تجاهها. استحث المحافظ بأن يرجعها إلى هونولولو. عُثر عليه في أحد الصباحات ورقبته مقطوعة بيديه وهي بدت أكثر تألقا واتزانا. تنظر إلى الرجال وتصرخ باحتقار: خنازير قذرة.
قد يلاحظ القارئ بأن في المسودة الأصلية لـ “مطر” قُدِّم الراوي, لكن أثناء كتابة القصة حُذِف. “مطر” اُختُلِقَت من خلال مصادفتي لأشخاص من هنا وهناك, ممن سمعت منهم مباشرة أو حدثني آخرون عنهم, ظهر نمط بدا مناسبا لقصة قصيرة. هذا يأخذني إلى موضوع لطالما أقلق الكتاب وأحيانا تسبب للجمهور, المادة الخام للكتّاب, ببعض الانزعاج. يصرح بعض الكتاب عن عدم وجود مثال حي في مخيلتهم للشخصيات التي يبتكرونها. أعتقد أنهم مخطئون. لديهم هذا الرأي لأنهم لم يدققوا باهتمام كافٍ في الذكريات والانطباعات التي أسسوا من خلالها الشخص الذي تخيلوه بسذاجة. لو فعلوا ذلك لأدركوا بأنه, إلا إذا كان مستوحى من كتاب قد قرأوه وهي ممارسة ليست شائعة, قد تشكّل في أذهانهم من شخص أو أكثر يعرفونهم أو رأوهم في وقتٍ ما. الكتاب العظماء السابقين لا يخفون حقيقة اختيار شخصياتهم من بين أناس حقيقيين. نحن نعرف أن والتر سكوت Sir Walter Scott, رجل المبادئ العليا, صوّر أباه بشكل حاد أولا ثم, عندما غيّر تعاقب السنين مزاجه, صوّره بشكل حليم; في مخطوطة لرواية واحدة على الأقل لهنري بيل Henri Beyle, دوّن فيها على الهامش الأسماء الحقيقية لشخصياته; وهذا ما قاله تورگينيڤ Turgenev بنفسه: “بالنسبة للجزء الخاص بي, أعترف بأني لم أحاول قط أن أنشئ شخصية بدون امتلاك, ليس فقط فكرة, بل شخص حقيقي حي, تعتمل فيه العناصر المختلفة معا, لأعمل من خلاله. دائما ما أحتاج شيئا أساسيا يمكنني أن أسير عليه برسوخ.”
الأمر نفسه مع فلوبير Flaubert; كذلك معروف عن ديكينز Dickens استخدامه لأصدقاءه ولعلاقاته بشكل واسع; ولو قرأت يوميات جول رينان Journal of Jules Renard, الذي يُعَد أكثر كتاب تعليمي لأي شخص يود معرفة كيف يعمل الكتّاب, سترى مدى العناية التي يوليها لكل تفصيلة صغيرة عن العادات, طرق الحديث والمظهر الخارجي للأشخاص الذين يعرفهم. عندما شرع في كتابة روايته استعان بهذا المخزون من المعلومات المنتقاة بعناية. ستجد في يوميات تشيكوڤ ملاحظات يبدو جليا أنها كُتبت لتستخدم في وقت ما من المستقبل, وفي مذكرات أصدقائه ستجد إحالات متكررة للأشخاص الأصليين لشخصيات معينة. يظهر أن هذه الممارسة شائعة جدا. يجب علي أن أقول بأنها كانت ضرورية وحتمية. وملائمتها بدهية. سيسهل عليك جدا تصور شخصية يمكن تمييزها على أنها إنسانية ولها صفات ذاتية خاصة بها عندما يكون لديك مثال حي. الخيال لا يخلق شيئا من العدم. يحتاج إلى بواعث حسية. الملكة الإبداعية للكاتب التي يحركها شيء غير عادي في شخص ما (قد يكون غير عادي للكاتب فقط) تشوه فكرته فيما لو حاول أن يصف شخصا خلاف الذي يراه. الشخصيات يرتبط بعضها ببعض ولو حاولت أن تذكر معلومات كاذبة, بأن تجعل الرجل القصير طويلا على سبيل المثال (مع أن القامة ليس لها تأثير على الشخصية), أو بجعله غضوبا بينما هو يمتلك الصفات المصاحبة للمزاج الرصين, ستدمر بهذا الفعل الانسجام الظاهري plausible harmony (استعير هذا التعبير الجميل من بالتاسار گراثيار Baltasar Gracian) التي تتألف منه القصة. القضية برمتها تصير يسيرة ما لم تكن متعلقة بمشاعر الإنسان المعني. يجب على الكاتب أن يضع بعين الاعتبار خيلاء الجنس البشري وشماتته اللتان تعدان من أبرز مظاهر فشله المقيت. أصدقاء الرجل قد يجدون لذة حين يدركون وجوده في كتاب ما, خاصة إذا لم يكن فيه إطراء, رغم أن الكاتب ربما لم يعرفه أبدا من قبل. غالبا شخص ما سوف ينتبه إلى خصلة يعرفها في نفسه أو وصف لمكان يعيش به وسيتقافز به غروره إلى الانتهاء بأن هذه الشخصية تصوره. وهكذا في قصتي “المحطة الخارجية” كان المندوب السامي شخصا اقترحه عليّ القنصل البريطاني الذي قابلته مرة في مدريد وكُتبت بعد عشر سنوات من وفاته, لكني سمعت أن المندوب السامي في منطقة ساراواك, التي وصفتها في القصة, شعر بالإهانة لأنه ظن أني أعنيه. الشخصان لا يشتركان ولو بصفة واحدة. لا أتوقع من أي كاتب أن يحاول أن يرسم شخصية مطابقة للواقع.
لا شيء أكثر طيشا من أن تُضمّن عملا أدبيا شخصا مرسوما من الواقع سطرا بسطر. كل تصرفاته ستبدو خاطئة, وبشكل غريب, هو لا يجعل الشخصيات الأخرى في القصة تبدو مخطئة, بل ينعكس ذلك على شخصيته فقط. لا يكون مقنعا أبدا. لهذا السبب نجد أن الكثير من الكتّاب الذين انجذبوا إلى الشخصية الفردية والقوية في نهاية كتاب لورد نورثكليف Lord Northcliffe لم ينجحوا أبدا في تقديم شخصية ذات مصداقية. المثال الذي يختاره الكاتب تتم رؤيته من خلال مزاجه ولو أنه كان كاتبا لأي شيء أصلي, فما يكتبه يحتاج أن يكون له علاقة بسيطة بالحقائق. قد يرى الطويل قصيرا أو الكريم بخيلا; لكن, أكرر, إذا ما رآه طويلا يجب أن يبقى كذلك. يأخذ فقط ما يلزمه من الإنسان الحي. يستخدمه كوتد يعلق عليه تخيلاته. وليبلغ غايته (الانسجام الظاهري الذي نادرا ما تقدمه الطبيعة) عليه أن يكسيه بصفات لا تتحلى بها الشخصية الحقيقية. يجعله متماسكا ومتينا. الشخصية المختلقة, نتاج خياله المستقى من الحقائق, هي الفن, والحياة هي المادة الخام, كما نعلم, هي مجرد مادة.
الأمر الغريب أنه حين تلقى التهم على المؤلف بأنه نسخ هذا الشخص أو ذاك من الحياة, ينصب التركيز فقط على أقل الصفات الجديرة بالثناء الخاصة بالضحية. إذا ما وصفت شخصية رجل بأنه بار بوالدته لكنه يضرب زوجته, الجميع سيصيح: أوه, إنه براون, كم هو لا أخلاقي أن يتم ذكر ضربه لزوجته; ولن يخطر ببال أحد ولو لوهلة عن جونس وروبينسون اللذان يبران والدتهما بشكل معروف جدا. أود أن ألفت الانتباه من هذا إلى الخلاصة التي ننتهي إليها بشكل مدهش, نحن نعرف أصدقائنا من خلال عيوبهم وليس من مناقبهم. ذكرت بأنني لم أتحدث أبدا إلى الآنسة تومسون في قصة “مطر”. هذه الشخصية لا توجد في العالم بشكل واضح. باستثناء عدد ضئيل من الكتّاب, ممارستي بلا شك شائعة للغالبية, لذلك قد أكون مخولا بأن أعطي مثالا آخر عليها. تلقيت دعوة على العشاء لأقابل شخصين, زوج وزوجته, وروي لي عنهما ما سوف يقرأه القارئ بعد قليل. أعتقد أني لم أعرف أسمائهما قط.
من المؤكد أنني لن أتعرف عليهما فيما لو التقيت بهما في الشارع. هنا الملاحظات التي دونتها في ذلك الوقت:
رجل شجاع, يبدو مغرورا في عمر يقارب الخمسين, يرتدي نظارة أنفية وشعره أشيب, بشرة متوردة وعينان زرقاوان, وشارب رمادي أنيق. يتحدث بثقة. يقطن في مدينة نائية وبشكل ما معجب بمنصبه. يزدري الرجال الذين يسمحون للمناخ وللبيئة المحيطة أن تؤثرا في أنفسهم. سافر كثيرا خلال زياراته القصير إلى الشرق وعرف جاڤا, في الفلبين, الساحل الصيني وشبه الجزيرة الماليزية. هو بريطاني جدا, وشديد الوطنية; يهتم كثيرا للتمارين الرياضية. يكثر من شرب الكحول ودائما ما يأخذ زجاجة ويسكي معه إلى الفراش. عالجته زوجته تماما وهو الآن لا يشرب سوى الماء. هي امرأة متواضعة, ملامحها حادة, نحيلة, جلدها شاحب, وصدرها مستوٍ. ذوقها في الملابس سيء للغاية. تملك كل تحيزات المرأة الإنگليزية. عدة أجيال من عائلتها اعتادت على ارتداء ثياب من الدرجة الثانية. ستظن بأنها عديمة اللون وغير ذات أهمية لولا أنك تعلم أنها نجحت في علاج زوجها من إدمان الكحول بشكل تام.
من هذه المواد ابتكرت قصة بعنوان “قبل الحفلة”. لا أعتقد أن أي شخص محايد يمكنه أنه يظن أن هذين الشخصين اشتكيا بدعوى أنه تم استخدامهما. قد يكون صحيحا أنني لم أكن لأفكر بالقصة لو لم ألتقي بهم, لكن أي شخص قرأها سيدرك مدى ضآلة الحدث (أخذ الزجاجة إلى الفراش) وكيف تطورت الشخصيتين الرئيسيتين أثناء الكتابة من مخطط وجيز تأسسا منه.
“النقاد يشبهون ذبابة الخيل التي تمنع الفرس من الحراثة.” يقول تشيكوڤ. “قرأت انتقادات لقصصي طوال عشرين سنة, ولا أذكر ولو فائدة واحدة أو كلمة واحدة من نصيحة كانت ذات نفع. باستثناء مرة كتب فيها سكابچيڤيسكي Skabichevsky شيئا ترك فيّ أثرا. قال بأني سألقى حتفي في حفرة, ثملا”. كان يكتب لمدة أربعة وعشرون سنة وطوال هذه المدة كانت كتاباته تُهاجَم. لا أدري ما إذا كان النقاد اليوم لهم أمزجة أقل توحشا; كلما أصدرت مجموعة قصصية يجب علي أن أقبل بشكل عام الأحكام التي ستطلق عليها. لكن أحد النعوت حيرني استخدامه لوصف قصصي; وصفوها بتكرار مقلق بأنها “كفؤة”. يمكنني أن أنظر إلى هذا الوصف باعتباره إطراء, لأن أداء الأشياء بكفاءة يستحق الثناء أكثر من أداءها بلا كفاءة, لكن العبارة استخدمت بصورة انتقاصية, وبدافع التوق لأن أتعلم وأتحسن, سألت نفسي مالذي يمكن أن يكون في أذهان النقاد الذين أطلقوا هذه العبارة. بالطبع لا أحد فينا مرضي عنه من قبل الجميع وبالضرورة ستكون كتاباته, التي هي ظهور حميمي لذاته, منفرة للأشخاص الذين بطبيعتهم يعادونه. هذا يجب أن يبقيه رابط الجأش. لكن حين تكون أعمال المؤلف تحمل بشكل متكرر صفات غير جاذبة لعدد كبير من الناس يجب عليه حينئذ أن يلقي لهذا الأمر انتباهه. هناك بشكل واضح شيء ما يجده عدد من الناس غير محبب في قصصي وهذا ما يحاولون التعبير عنه حين يسلطون عليه لسانهم بمدحهم الخافت حول مدى كفاءته. لدي فرضية بأنها بسبب وضوح صياغته. أجازف بهذا الاقتراح (ربما امتدح نفسي بشكل غير ملائم) لأن هذا النقد بالتحديد لم يأتي من فرنسا أبدا حيث  حققت قصصي قبولا مع النقاد والعامة بشكل أكبر بكثير عما هي عليه في إنگلترا.
الفرنسيون بحسهم الكلاسيكي وأذهانهم المنظمة يطلبون صيغة متقنة ويستاءون من عمل تُركت نهايته غامضة, كأن تُعرض المواضيع ولا تُحل ويمكن توقع الذروة لكنها لا تحدث. من جانب آخر, هذه الدقة كانت منفرة للإنگليزيين. فأعظم رواياتنا عديمة الشكل وهذا, حتى لا يزعجون قرائهم, أعطاهم حسًا بالأمان. هذه هي الحياة التي نعرفها, هكذا فكروا, بتعسفها ولا منطقيتها; يمكننا أن نلقي بعيدا عن أذهاننا الفكرة المزعجة بأن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة. إذا كنتُ مصيبا في هذا الظن فلا يمكنني القيام بشيء تجاهه ويجب أن أعهد بنفسي لأكون كفؤا لبقية حياتي. تحيزاتي في الفنون تكون إلى جانب القانون والنظام. أحب القصة المناسبة. لم أزاول كتابة القصص بجدية إلا بعد أن كونت خبرة جيدة ككاتب دراما, وهذه الخبرة علمتني بأن أنحي جانبا كل ما لا يخدم القيمة الدرامية لقصتي. علمتني بأن أنشيء حدثا تلو الآخر بطريقة تؤدي إلى الذروة التي في ذهني. لستُ غافلا عن عيوب هذه الطريقة. قد تعطي تأثيرا ضيقا يكون في بعض الأحيان مزعجا. تشعر أحيانا بأن الحياة لا تترابط في أجزائها المختلفة بكل هذا الاتقان. في الحياة القصص تنمو, تبدأ من لامكان وتخمد بلا وجهة محددة. لعل هذا ما عناه تشيكوڤ عندما قال بأن القصص يجب أن لا تحتوي على بداية ولا نهاية. من المؤكد أنها أحيانا قد تُعطي شعورا بالاختناق حين ترى أشخاصا يتصرفون بشكل مطابق جدا للشخصيات وللأحداث التي تقع في شكل ملائم تماما. الراوي في هذا النوع لا يهدف فقط إلى أن يعرض مشاعره عن الحياة, لكن يعرضها بتجميل شكلي. يعيد ترتيب الحياة لتتناسب وأهدافه. يتبع تصميما في ذهنه, يترك هذا ويغير ذاك; يشوه الحقائق لمصلحته, بما يتوافق وخطته; وعندما يبلغ موضوعه ينتج عملا فنيا. لا يسعى إلى إثبات شيء. يرسم صورة ويضعها أمامك. يمكنك أن تأخذها أو تتركها.








نشرت هذه المقالة في موقع مؤسسة ترجمان للترجمة والنشر.