كيف أكتب القصص القصيرة





كيف أكتب القصص القصيرة
بقلم: و. سومرست موم
ترجمة: علي الصباح

لحسن حظي أني كنت أتمتع بقدر جيد من الاستقلالية عندما بدأت بكتابة القصص القصيرة, فكنت أكتبها كنوع من الاستراحة عن العمل الذي أظن أنني قضيت وقتا طويلا في الانهماك فيه. أغلب القصص كُتبت كمجموعة من الملاحظات التي دونتها حسبما تواردت إليّ, وكنتُ أرجئ ما بدى لي الأصعب إلى النهاية. تصعب كتابة القصة عندما لا تعرف تفاصيلها منذ البداية, لكن في بعض الجوانب عليك أن تثق بخيالك وتجربتك. أحيانا لا تبدو لك منعطفات القصة بشكل جلي فيجب عليك حينها أن تلجأ إلى هذه الطريقة أو تلك إلى أن تتضح معالمها.
أرجو من القارئ أن لا يقع في فخ الانطباع الذي تخلّفه الكثير من قصصي للوهلة الأولى, بأنها تجاربي الشخصية. هذه ليست إلا وسيلة لجعلها تبدو واقعية. وهي وسيلة لها عيوبها, فقد يُصدَم القارئ بجهل الراوي لبعض الأحداث التي يستعرضها; وحين يحكي قصة أخبره بها شخص آخر, قد يكون المتحدث ضابط شرطة أو قبطان على سبيل المثال, لن يتمكن من أن يُعبّر عن نفسه ببراعة ولا بقدر كبير من التفصيل. كل طريقة ولها مساوئها. والتي يجب إخفائها, أما ما لا يمكن إخفائه فيلزم تقبله. وفائدتها في مباشرتها. فهي تتيح للكاتب أن يروي ما يعرفه فقط. بلا إدعاء بكونه راويا عليما, يمكنه أن يعترف بصراحة حينما يكون السبب أو الحدث مجهولا له, وهذا غالبا ما يعطي قصته شيء من المعقولية التي قد تفتقد إليها دون ذلك. وتخلق صلة بين القارئ والكاتب. منذ موباسان وتشيكوڤ Maupassant and Chekhov, اللذان حاولا بشدة أن يكونا موضوعيين, وبالرغم من ذلك كانا يكتبان بشكل شخصي جدا لذلك يترائى لي أحيانا بأن الكاتب إذا لم يستطع بأي وسيلة أن يعزل نفسه عن عمله فقد يكون من الأفضل أن يضع فيه قدر الإمكان من ذاته. الخطورة أن يضع الكثير جدا من ذاته فيصير كالمتحدث الذي يصر على احتكار الكلام. مثل كل الوسائل, هذه الوسيلة يجب أن تستخدم بحذر.
في بداية شبابي كتبتُ عددا من القصص القصيرة, لكن لأمد طويل, اثنا عشر أو خمسة عشر سنة على الأقل, انهمكت في الدراما وتوقفت عن ذلك; وبشكل غير متوقع وفرت لي رحلة إلى البحار الجنوبية الكثير من المواضيع التي بدت مناسبة للقصص القصيرة, كنت في بداية الأربعينيات حين كتبت القصة التي أسميتها “مطر”. يجب على قارئ هذه المقالة أن يتحلى بشيء من الصبر إذا ما أمليت مسودات لبعض القصص التي كتبتها سابقا. كُتبت بتعابير مستخدمة بكثرة وغير دقيقة, وبلا طلاوة; لأن الطبيعة لم تمنحني تلك المنحة المبهجة بأن انتقي غريزيا المفردات المناسبة لأشير إلى الموضوع وأستخدم النعوت الغير عادية, لكن الملائمة, لوصفه. أثناء سفري من هونولو إلى پاگو پاگو كنت أدوِّن على عجل انطباعاتي عن الركاب, على أمل أن تكون ذات نفع في يوم ما. هذا ما كتبته عن السيدة تومسون:
سمينة, وتبدو جميلة بشكل خشن, ربما لا يتعدى عمرها سبعة وعشرون عاما. ترتدي فستانا أبيض وقبعة بيضاء كبيرة, حذاء طويل حيث تبرز ساقيها في جوارب قطنية.
كانت هناك مداهمة لحيّ البغاء في هونولولو قبيل إبحارنا وسرت شائعة في السفينة بأنها في هذه الرحلة هربا من الاعتقال.
تستمر ملاحظاتي:
السيد و. المبشر الديني. كان رجلا طويلا ونحيلا, بأطراف طويلة ومفاصل متصلة بشكل لين, خدّيه أجوفان وعظمتهما عالية, عيناه الواسعتان والداكنتان والجميلتان غائرتان عميقا في تجويفهما, شفتيه شرهتان بشدة, وشعره طويل نوعا ما. رائحته كالجيفة ومنظره كالنار الخامدة. يداه كبيرتان, وأصابعه طويلة ومنتظمة الشكل نوعا ما. كانت الشمس الاستوائية تحرق جلده الباهت بعمق. السيدة و. زوجته. كانت امرأة قصيرة وشعرها مصفف بعناية شديدة, على الطريقة الإنگليزية; عيون زرقاء غير بارزة وراء نظارة أنفية بإطار ذهبي, وجهها طويل كوجه نعجة, لكنها لا توحي بأي انطباع بالغباء, بل بالعكس تبدو شديدة اليقظة. حركاتها سريعة كطائر. صوتها هو أبرز ما فيها, عالٍ, رنان, وبلا التواءات; يلامس الأذن برتابة قوية, يهيّج الأعصاب كصخب مستمر صادر عن آلة حفر هوائية. كانت ترتدي فستانا أسود وعلى عنقها سلسلة ذهبية يتدلى منها صليب صغير. أخبرتني بأن و. مبشر ديني في جزر گيلبيرت ومنطقته تحتوي على عدد واسع من الجزر التي يحتاج يتنقل بينها في زورق كنو بشكل متكرر. خلال هذا الوقت تظل هي في المقر الرئيس وتدير الإرسالية.
غالبا ما تكون البحار هائجة ولا تخلو الرحلات من مخاطر. كان مبشرا طبيا. كانت تتحدث عن فساد السكان المحليين بصوت لا يكاد يُسمع, لكنها كانت تتحدث بقوة وباشمئزاز مُتَكَلَّف وهي تخبرني عن عادات زيجاتهم التي كان الفحش فيها يفوق الوصف. قالت, عند وصولهم كان من المستحيل إيجاد فتاة واحدة جيدة في أي قرية. هاجمت الرقص بعنف.
تحدثتُ لمرة واحدة مع المبشر وزوجته, ولم أتحدث مطلقا مع الآنسة تومسون. هنا مسودة القصة:
مومس, تحلّق من هونولولو بعد مداهمة للشرطة, وتصل إلى پاگو پاگو. وصل معها كذلك مبشر وزوجته. كذلك الراوي. الجميع مجبور على الانتظار هناك بسبب تفشي الحصبة. المبشر عرف حقيقة مهنتها وضيّق عليها. أجبرها على البؤس, العار, والتوبة, لا يجد في نفسه رحمة تجاهها. استحث المحافظ بأن يرجعها إلى هونولولو. عُثر عليه في أحد الصباحات ورقبته مقطوعة بيديه وهي بدت أكثر تألقا واتزانا. تنظر إلى الرجال وتصرخ باحتقار: خنازير قذرة.
قد يلاحظ القارئ بأن في المسودة الأصلية لـ “مطر” قُدِّم الراوي, لكن أثناء كتابة القصة حُذِف. “مطر” اُختُلِقَت من خلال مصادفتي لأشخاص من هنا وهناك, ممن سمعت منهم مباشرة أو حدثني آخرون عنهم, ظهر نمط بدا مناسبا لقصة قصيرة. هذا يأخذني إلى موضوع لطالما أقلق الكتاب وأحيانا تسبب للجمهور, المادة الخام للكتّاب, ببعض الانزعاج. يصرح بعض الكتاب عن عدم وجود مثال حي في مخيلتهم للشخصيات التي يبتكرونها. أعتقد أنهم مخطئون. لديهم هذا الرأي لأنهم لم يدققوا باهتمام كافٍ في الذكريات والانطباعات التي أسسوا من خلالها الشخص الذي تخيلوه بسذاجة. لو فعلوا ذلك لأدركوا بأنه, إلا إذا كان مستوحى من كتاب قد قرأوه وهي ممارسة ليست شائعة, قد تشكّل في أذهانهم من شخص أو أكثر يعرفونهم أو رأوهم في وقتٍ ما. الكتاب العظماء السابقين لا يخفون حقيقة اختيار شخصياتهم من بين أناس حقيقيين. نحن نعرف أن والتر سكوت Sir Walter Scott, رجل المبادئ العليا, صوّر أباه بشكل حاد أولا ثم, عندما غيّر تعاقب السنين مزاجه, صوّره بشكل حليم; في مخطوطة لرواية واحدة على الأقل لهنري بيل Henri Beyle, دوّن فيها على الهامش الأسماء الحقيقية لشخصياته; وهذا ما قاله تورگينيڤ Turgenev بنفسه: “بالنسبة للجزء الخاص بي, أعترف بأني لم أحاول قط أن أنشئ شخصية بدون امتلاك, ليس فقط فكرة, بل شخص حقيقي حي, تعتمل فيه العناصر المختلفة معا, لأعمل من خلاله. دائما ما أحتاج شيئا أساسيا يمكنني أن أسير عليه برسوخ.”
الأمر نفسه مع فلوبير Flaubert; كذلك معروف عن ديكينز Dickens استخدامه لأصدقاءه ولعلاقاته بشكل واسع; ولو قرأت يوميات جول رينان Journal of Jules Renard, الذي يُعَد أكثر كتاب تعليمي لأي شخص يود معرفة كيف يعمل الكتّاب, سترى مدى العناية التي يوليها لكل تفصيلة صغيرة عن العادات, طرق الحديث والمظهر الخارجي للأشخاص الذين يعرفهم. عندما شرع في كتابة روايته استعان بهذا المخزون من المعلومات المنتقاة بعناية. ستجد في يوميات تشيكوڤ ملاحظات يبدو جليا أنها كُتبت لتستخدم في وقت ما من المستقبل, وفي مذكرات أصدقائه ستجد إحالات متكررة للأشخاص الأصليين لشخصيات معينة. يظهر أن هذه الممارسة شائعة جدا. يجب علي أن أقول بأنها كانت ضرورية وحتمية. وملائمتها بدهية. سيسهل عليك جدا تصور شخصية يمكن تمييزها على أنها إنسانية ولها صفات ذاتية خاصة بها عندما يكون لديك مثال حي. الخيال لا يخلق شيئا من العدم. يحتاج إلى بواعث حسية. الملكة الإبداعية للكاتب التي يحركها شيء غير عادي في شخص ما (قد يكون غير عادي للكاتب فقط) تشوه فكرته فيما لو حاول أن يصف شخصا خلاف الذي يراه. الشخصيات يرتبط بعضها ببعض ولو حاولت أن تذكر معلومات كاذبة, بأن تجعل الرجل القصير طويلا على سبيل المثال (مع أن القامة ليس لها تأثير على الشخصية), أو بجعله غضوبا بينما هو يمتلك الصفات المصاحبة للمزاج الرصين, ستدمر بهذا الفعل الانسجام الظاهري plausible harmony (استعير هذا التعبير الجميل من بالتاسار گراثيار Baltasar Gracian) التي تتألف منه القصة. القضية برمتها تصير يسيرة ما لم تكن متعلقة بمشاعر الإنسان المعني. يجب على الكاتب أن يضع بعين الاعتبار خيلاء الجنس البشري وشماتته اللتان تعدان من أبرز مظاهر فشله المقيت. أصدقاء الرجل قد يجدون لذة حين يدركون وجوده في كتاب ما, خاصة إذا لم يكن فيه إطراء, رغم أن الكاتب ربما لم يعرفه أبدا من قبل. غالبا شخص ما سوف ينتبه إلى خصلة يعرفها في نفسه أو وصف لمكان يعيش به وسيتقافز به غروره إلى الانتهاء بأن هذه الشخصية تصوره. وهكذا في قصتي “المحطة الخارجية” كان المندوب السامي شخصا اقترحه عليّ القنصل البريطاني الذي قابلته مرة في مدريد وكُتبت بعد عشر سنوات من وفاته, لكني سمعت أن المندوب السامي في منطقة ساراواك, التي وصفتها في القصة, شعر بالإهانة لأنه ظن أني أعنيه. الشخصان لا يشتركان ولو بصفة واحدة. لا أتوقع من أي كاتب أن يحاول أن يرسم شخصية مطابقة للواقع.
لا شيء أكثر طيشا من أن تُضمّن عملا أدبيا شخصا مرسوما من الواقع سطرا بسطر. كل تصرفاته ستبدو خاطئة, وبشكل غريب, هو لا يجعل الشخصيات الأخرى في القصة تبدو مخطئة, بل ينعكس ذلك على شخصيته فقط. لا يكون مقنعا أبدا. لهذا السبب نجد أن الكثير من الكتّاب الذين انجذبوا إلى الشخصية الفردية والقوية في نهاية كتاب لورد نورثكليف Lord Northcliffe لم ينجحوا أبدا في تقديم شخصية ذات مصداقية. المثال الذي يختاره الكاتب تتم رؤيته من خلال مزاجه ولو أنه كان كاتبا لأي شيء أصلي, فما يكتبه يحتاج أن يكون له علاقة بسيطة بالحقائق. قد يرى الطويل قصيرا أو الكريم بخيلا; لكن, أكرر, إذا ما رآه طويلا يجب أن يبقى كذلك. يأخذ فقط ما يلزمه من الإنسان الحي. يستخدمه كوتد يعلق عليه تخيلاته. وليبلغ غايته (الانسجام الظاهري الذي نادرا ما تقدمه الطبيعة) عليه أن يكسيه بصفات لا تتحلى بها الشخصية الحقيقية. يجعله متماسكا ومتينا. الشخصية المختلقة, نتاج خياله المستقى من الحقائق, هي الفن, والحياة هي المادة الخام, كما نعلم, هي مجرد مادة.
الأمر الغريب أنه حين تلقى التهم على المؤلف بأنه نسخ هذا الشخص أو ذاك من الحياة, ينصب التركيز فقط على أقل الصفات الجديرة بالثناء الخاصة بالضحية. إذا ما وصفت شخصية رجل بأنه بار بوالدته لكنه يضرب زوجته, الجميع سيصيح: أوه, إنه براون, كم هو لا أخلاقي أن يتم ذكر ضربه لزوجته; ولن يخطر ببال أحد ولو لوهلة عن جونس وروبينسون اللذان يبران والدتهما بشكل معروف جدا. أود أن ألفت الانتباه من هذا إلى الخلاصة التي ننتهي إليها بشكل مدهش, نحن نعرف أصدقائنا من خلال عيوبهم وليس من مناقبهم. ذكرت بأنني لم أتحدث أبدا إلى الآنسة تومسون في قصة “مطر”. هذه الشخصية لا توجد في العالم بشكل واضح. باستثناء عدد ضئيل من الكتّاب, ممارستي بلا شك شائعة للغالبية, لذلك قد أكون مخولا بأن أعطي مثالا آخر عليها. تلقيت دعوة على العشاء لأقابل شخصين, زوج وزوجته, وروي لي عنهما ما سوف يقرأه القارئ بعد قليل. أعتقد أني لم أعرف أسمائهما قط.
من المؤكد أنني لن أتعرف عليهما فيما لو التقيت بهما في الشارع. هنا الملاحظات التي دونتها في ذلك الوقت:
رجل شجاع, يبدو مغرورا في عمر يقارب الخمسين, يرتدي نظارة أنفية وشعره أشيب, بشرة متوردة وعينان زرقاوان, وشارب رمادي أنيق. يتحدث بثقة. يقطن في مدينة نائية وبشكل ما معجب بمنصبه. يزدري الرجال الذين يسمحون للمناخ وللبيئة المحيطة أن تؤثرا في أنفسهم. سافر كثيرا خلال زياراته القصير إلى الشرق وعرف جاڤا, في الفلبين, الساحل الصيني وشبه الجزيرة الماليزية. هو بريطاني جدا, وشديد الوطنية; يهتم كثيرا للتمارين الرياضية. يكثر من شرب الكحول ودائما ما يأخذ زجاجة ويسكي معه إلى الفراش. عالجته زوجته تماما وهو الآن لا يشرب سوى الماء. هي امرأة متواضعة, ملامحها حادة, نحيلة, جلدها شاحب, وصدرها مستوٍ. ذوقها في الملابس سيء للغاية. تملك كل تحيزات المرأة الإنگليزية. عدة أجيال من عائلتها اعتادت على ارتداء ثياب من الدرجة الثانية. ستظن بأنها عديمة اللون وغير ذات أهمية لولا أنك تعلم أنها نجحت في علاج زوجها من إدمان الكحول بشكل تام.
من هذه المواد ابتكرت قصة بعنوان “قبل الحفلة”. لا أعتقد أن أي شخص محايد يمكنه أنه يظن أن هذين الشخصين اشتكيا بدعوى أنه تم استخدامهما. قد يكون صحيحا أنني لم أكن لأفكر بالقصة لو لم ألتقي بهم, لكن أي شخص قرأها سيدرك مدى ضآلة الحدث (أخذ الزجاجة إلى الفراش) وكيف تطورت الشخصيتين الرئيسيتين أثناء الكتابة من مخطط وجيز تأسسا منه.
“النقاد يشبهون ذبابة الخيل التي تمنع الفرس من الحراثة.” يقول تشيكوڤ. “قرأت انتقادات لقصصي طوال عشرين سنة, ولا أذكر ولو فائدة واحدة أو كلمة واحدة من نصيحة كانت ذات نفع. باستثناء مرة كتب فيها سكابچيڤيسكي Skabichevsky شيئا ترك فيّ أثرا. قال بأني سألقى حتفي في حفرة, ثملا”. كان يكتب لمدة أربعة وعشرون سنة وطوال هذه المدة كانت كتاباته تُهاجَم. لا أدري ما إذا كان النقاد اليوم لهم أمزجة أقل توحشا; كلما أصدرت مجموعة قصصية يجب علي أن أقبل بشكل عام الأحكام التي ستطلق عليها. لكن أحد النعوت حيرني استخدامه لوصف قصصي; وصفوها بتكرار مقلق بأنها “كفؤة”. يمكنني أن أنظر إلى هذا الوصف باعتباره إطراء, لأن أداء الأشياء بكفاءة يستحق الثناء أكثر من أداءها بلا كفاءة, لكن العبارة استخدمت بصورة انتقاصية, وبدافع التوق لأن أتعلم وأتحسن, سألت نفسي مالذي يمكن أن يكون في أذهان النقاد الذين أطلقوا هذه العبارة. بالطبع لا أحد فينا مرضي عنه من قبل الجميع وبالضرورة ستكون كتاباته, التي هي ظهور حميمي لذاته, منفرة للأشخاص الذين بطبيعتهم يعادونه. هذا يجب أن يبقيه رابط الجأش. لكن حين تكون أعمال المؤلف تحمل بشكل متكرر صفات غير جاذبة لعدد كبير من الناس يجب عليه حينئذ أن يلقي لهذا الأمر انتباهه. هناك بشكل واضح شيء ما يجده عدد من الناس غير محبب في قصصي وهذا ما يحاولون التعبير عنه حين يسلطون عليه لسانهم بمدحهم الخافت حول مدى كفاءته. لدي فرضية بأنها بسبب وضوح صياغته. أجازف بهذا الاقتراح (ربما امتدح نفسي بشكل غير ملائم) لأن هذا النقد بالتحديد لم يأتي من فرنسا أبدا حيث  حققت قصصي قبولا مع النقاد والعامة بشكل أكبر بكثير عما هي عليه في إنگلترا.
الفرنسيون بحسهم الكلاسيكي وأذهانهم المنظمة يطلبون صيغة متقنة ويستاءون من عمل تُركت نهايته غامضة, كأن تُعرض المواضيع ولا تُحل ويمكن توقع الذروة لكنها لا تحدث. من جانب آخر, هذه الدقة كانت منفرة للإنگليزيين. فأعظم رواياتنا عديمة الشكل وهذا, حتى لا يزعجون قرائهم, أعطاهم حسًا بالأمان. هذه هي الحياة التي نعرفها, هكذا فكروا, بتعسفها ولا منطقيتها; يمكننا أن نلقي بعيدا عن أذهاننا الفكرة المزعجة بأن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة. إذا كنتُ مصيبا في هذا الظن فلا يمكنني القيام بشيء تجاهه ويجب أن أعهد بنفسي لأكون كفؤا لبقية حياتي. تحيزاتي في الفنون تكون إلى جانب القانون والنظام. أحب القصة المناسبة. لم أزاول كتابة القصص بجدية إلا بعد أن كونت خبرة جيدة ككاتب دراما, وهذه الخبرة علمتني بأن أنحي جانبا كل ما لا يخدم القيمة الدرامية لقصتي. علمتني بأن أنشيء حدثا تلو الآخر بطريقة تؤدي إلى الذروة التي في ذهني. لستُ غافلا عن عيوب هذه الطريقة. قد تعطي تأثيرا ضيقا يكون في بعض الأحيان مزعجا. تشعر أحيانا بأن الحياة لا تترابط في أجزائها المختلفة بكل هذا الاتقان. في الحياة القصص تنمو, تبدأ من لامكان وتخمد بلا وجهة محددة. لعل هذا ما عناه تشيكوڤ عندما قال بأن القصص يجب أن لا تحتوي على بداية ولا نهاية. من المؤكد أنها أحيانا قد تُعطي شعورا بالاختناق حين ترى أشخاصا يتصرفون بشكل مطابق جدا للشخصيات وللأحداث التي تقع في شكل ملائم تماما. الراوي في هذا النوع لا يهدف فقط إلى أن يعرض مشاعره عن الحياة, لكن يعرضها بتجميل شكلي. يعيد ترتيب الحياة لتتناسب وأهدافه. يتبع تصميما في ذهنه, يترك هذا ويغير ذاك; يشوه الحقائق لمصلحته, بما يتوافق وخطته; وعندما يبلغ موضوعه ينتج عملا فنيا. لا يسعى إلى إثبات شيء. يرسم صورة ويضعها أمامك. يمكنك أن تأخذها أو تتركها.








نشرت هذه المقالة في موقع مؤسسة ترجمان للترجمة والنشر.