من دفتر اليوميات: كل يوم، يوم جميل - سنغافورة



ربما كنتَ بحاجة إلى التحدث مع شخص ما. أكثر مما تتخيل.
هاروكي موراكامي، سوكورو تزاكي وسنوات حجه



رامن


ما الذي يمكنني أن أتحدث عنه حول زيارتي إلى سنغافورة؟
ربما الطعام، فسنغافورة جنة الذواقة.


الخميس
قرأت في الطائرة فصل من رواية قابيل لساراماغو، كنت أستمتع كل يوم بقراءة فصل واحد منها، ولا أريد أن تنتهي. وفي الطائرة أيضا شاهدت فيلما يابانيّاً بعنوان "كل يوم، يوم جميل". الفيلم يروي قصة فتاة بلغت الثلاثين وهي ما تزال لا تعرف ماذا تريد أن تفعل في حياتها، أو بمن ترتبط. إلا أنها كانت تداوم على حضور دروس تقديم الشاي مرة في الأسبوع لسنوات طويلة، وهذه الدروس كانت الشيء الوحيد الذي هي على يقين من حبها له. هناك مراحل من حياتنا شبيهة جدًا بحياة بطلة الفيلم. 
وفي الطائرة أيضا، تذوقت لأول مرة شاي Pu-erh وهو شاي أسود مخمّر له مذاق فريد وعبق شبيه بالغبار. سيصعب عليك الاستمتاع بمذاقه، كما سيصعب عليك نطق اسمه بالشكل الصحيح، إلا إن كنت من عشاق الشاي.
ما زلت في الطائرة. حين عرضت عليّ المضيفة مجموعة من الصحف، اخترت صحيفة اقتصادية. في الصفحة الأولى خبر عن تعثُّر رجل الأعمال الهندي الشهير "أنيل أمباني"، حيث دخل في نزاع مع أخوه وخسر الكثير من ثروته (أكثر من ٩٠٪) والآن هو عاجز عن سداد بعض الديون التي تطالبه بها شركة إريكسون السويدية، حسبما ورد في الصحيفة. قصة أمباني هي نموذج للشركات العائلية التي تبدأ تدريجيا بالانهيار بعد وفاة مؤسسها، خاصة بعدما تنشب الخلافات بينهما. واحدة من أكبر المجموعات التجارية العائلية في الكويت تواجه مصيرا غير بعيد عن مصير أمباني.

بعدما وصلت مطار سنغافورة استقليت المترو وتوجهت إلى الفندق. سرت من محطة القطار لما يقارب العشر دقائق وقبل وصولي إلى الفندق، استوقفني إعلان لدروس موسيقى. الدروس خاصة بمعهد لصيق بالفندق، فاستفسرت عن دروس الغيتار. فكرت، يمكنني أخذ درس واحد من باب تجربة العزف على الغيتار، وإن وجدت في نفسي شغفا لتعلم المزيد يمكنني فعل ذلك حال عودتي إلى الكويت. وهذا ما كان.

الجمعة
مشيت كثيرا في اليوم التالي. تناولت غدائي في مطعم IPPUDO الذي يقدم وجبة الرامن. وفي المساء ذهبت إلى حانة The Armoury حيث صادف وجود دي جي ياباني وكل الزبائن في تلك الليلة كانوا يابانيين.

السبت
ما بين معبدين، هندي وصيني، تقع شقة العائلة السنغافورية التي سأتناول فيها عشائي الليلة. كنت قد حجزت ذلك العشاء قبل يومين من برنامج Airbnb.
العائلة مكونة من روز، وهي سيدة سنغافورية من أصول برتغالية وسريلانكية. وزوجها كريس الذي تولى مهمة طبخ العشاء، وابنتهم شديدة الخجل، ذات التسعة أعوام، التي لم تتحدث مع أي من الحضور طوال الوقت باستثناء أمها وأبوها.

نزعت حذائي خارج الشقة ودخلت بترحيب من روز. حييّت الموجودين؛ تانيا من أمريكا، زوجين من أفريقيا الجنوبية، زوجين من الهند، وكنا بانتظار زوجين آخرين من الهند. الجميع مقيم في سنغافورة لفترة طويلة للعمل باستثنائي. تانيا تعمل في إحدى شركات وادي السيليكون وأتت إلى سنغافورة للعمل فيها مدة ستة أسابيع. أما البقية فجميعهم يعملون معا في إحدى شركات الرعاية الصحية.
كانت المقبلات عبارة عن صلصة الچوتني الهندية مع شرائح من الخيار وقطع بسكويت. تبادلنا الحديث إلى أن جاء كريس وأخذنا في جولة في شقته. هو شغوف جدا بجمع التحف والأعمال الفنية كالتماثيل البوذية والهندوسية (يمتلك تمثال لبوذا عمره ٢٠٠٠ سنة) ولوحات فنية دينية متنوعة وكذلك بعض القطع الفنية المتعلقة بالسحر. فلا يكاد يوجد مكان في الشقة إلا وتجد فيه شيئا من تلك القطع الأثرية.

العشاء كان متنوعا. احتوى على شوربة الحريرة المغربية وشرائح لحم الضأن على الطريقة الماليزية وكرات اللحم السويدية وبطاطا مقلية مع جوز الهند انتهاءً بسلطعون البحر. أما الحلو فكان عبارة عن حبيبات الساغو (مشابهة للتابيوكا) مع صلصة السكر الأسمر وحليب جوز الهند.
التقطت لنا روز الكثير من الصور. وتحدثنا عن السفر والحياة في سنغافورة وعن جيل الألفية Mellennials.

عند المغادرة استقليت مع تانيا تكسي من برنامج Grab. اتفقنا على أن نلتقي في اليوم التالي مع أصدقائها في العمل. وصلت الفندق عند منتصف الليل، وشعرت برغبة في التجول فقد كان الجو مناسبا. سِرت لمدة ساعة ثم عدت إلى الفندق لأنام عند الساعة ٢ صباحا.

الأحد
في الساعة ١٢ ظهرا كان موعدي مع حصة الغيتار. المعلم كان شابا اسمه مايك، سألني عن أغانيًّ المفضلة. أخبرته: أديل وجيسون مراز. سأل إن كان هناك غيرهم. حاولت أن أستحضر أسماء المغنيين الذين يستخدمون الغيتار في أغانيهم.. قلت: پاسنجر. قال سنتعلم عزف أغنية I'm Yours لجيسون مراز، وهي من الأغاني التي يمكن للمبتدئين في تعلم الغيتار تعلمها بسهولة. أحضَرَ ورقة عليها سلالم موسيقية وقال إن أتقنت هذه المجموعة فسيمكنك عزف الكثير من الأغاني المشهورة.
كان أسلوبه بسيط وسهل. نصحني بشراء غيتار صغير الحجم طالما أني أسافر كثيرا، فالتوقف عن التمرين يؤدي إلى التراجع في اكتساب المهارة. تناقشنا في أمور شتى خارج الموسيقى؛ مايك شغوف بالتاريخ، أطلعني على معلومات لم أكن أعرفها عن العلاقات بين الصين والعرب في الأزمنة القديمة. يحمل ثلاث جوازات سفر. فقد ولِد في هونج كونج مما أتاح له الحصول على الجواز البريطاني (كون هونج كونج كانت مستعمرة بريطانية حتى عام ١٩٩٧) بالإضافة إلى الجواز الصيني. ولأنه عاش أثناء طفولته في البرتغال فهو يحمل الجواز البرتغالي. يعيش الآن في سنغافورة لأنه متزوج من فتاة سنغافورية. لا ينتمي إلى أي مكان وليس لديه مانع من الانتقال إلى أي مكان.

بعد انتهاء الدرس جلست في مقهى قريب أقرأ فصلا من رواية قابيل قبل أن يحين موعدي مع تانيا. كنت قد اتفقت معها أن نلتقي على العشاء ثم ننضم إلى زملائها في العمل لمشاهدة مباراة كرة قدم. التقينا في مطعم Potato Head وهو مطعم يمكن أن نطلق عليه صفة هيبستر Hipster، أي أنه غير تقليدي سواء من قائمة طعامه أو طريقة تعامله مع الزبائن أو بتصميم الديكور الداخلي. جلسنا في السطح حين تحيط بنا المباني الشاهقة والغيوم والشمس التي تستعد للغروب. أخبرتني تانيا بأنها بعد رجوعها البارحة إلى الفندق قد حجزت تذكرة إلى ماليزيا لنهاية الأسبوع القادمة. فرشحتُ لها زيارة كهف باتو. كانت تريد زيارة مدينة بنغالور، إلا أنها في سنغافورة قد تعرضت للملاحقة من قبل رجل ذو ملامح هندية، الأمر الذي تكرر في زيارتها الأولى إلى سنغافورة سابقا. مما دعاها إلى إلغاء فكرة الذهاب إلى الهند إلا في حال كانت في صحبة أصدقائها.
تناولنا عشاء خفيف، نوعا ما، من شرائح الخبز بالجبن والمشروم وكذلك طبق أرز مع لحم وبيض. في تلك الأثناء كان المطعم يوفر قائمة لمشروبات محددة بسعر مخفَّض في ما يعرف بالساعة السعيدة Happy Hour. استغلت تانيا تلك الفرصة وطلبت ثلاث مشروبات من الكوكتيل. أثناء وصول الكوكتيل الثالث قالت: ثلاثة مشروبات، هذا كل ما أطيق شربه. تانيا تعشق الشرب، وكما هو متوقع من أي عاشق للشرب، هي لم تتوقف عند الكأس الثالثة.
بالاستعانة ببرنامج خرائط قوقل، توجهنا إلى الحانة التي سنتابع فيها المباراة برفقة زملاء تانيا. كانت تبعد ١٤ دقيقة فقط، فقررنا أن نمشي إلى هناك.
رغم وصولنا قبل بدء المباراة بساعة، إلا أن الحانة كانت مكتظة بالناس. كل الطاولات موجودة في الخارج. وجدنا طاولة بمكان جيد أمام إحدى الشاشات. المباراة بين ليفربول ومانشستر يونايتد. جلسنا ننتظر وصول زميلها جيمس. هو بريطاني مقيم في سنغافورة لعدة سنوات، وعمل سابقا في الفلبين لأكثر من سنة. طلب جيمس بيرة غينيس وطلبت تانيا جِن مع سبرايت. أغلبية الموجودين يشجعون مانشستر يونايتد كما تدل عليه ملابسهم. أنا لا أتابع المباريات في العادة، لذلك فلا أشجع أحدا، وتانيا نفس الشيء. لكنني أعرف محمد صلاح، لمحته في الشاشة. قلت لتانيا: هذا اللاعب من أشهر اللاعبين العرب، اسمه محمد صلاح. ثم سألت جيمس: مع أي فريق يلعب محمد صلاح؟ أجاب: ليفربول. التفتُّ إلى تانيا وقلت: إذن، الليلة، أنا من مشجعي ليفربول. ضحكت وقالت أوكي.

كان على تانيا أن تعمل في اليوم التالي، وأنا كنت أشعر بالنعاس. فغادرنا عند بداية الشوط الثاني من المباراة. كانت هذه آخر مرة نلتقي بها. اتفقنا على أن نلتقي مجددًا حال زيارتي إلى سان فرانسسكو أو زيارتها إلى الكويت.

الاثنين
متجر موجي هو أحد المتاجر المفضلة لدي لكل ما يتعلق بلوازم السفر. في سنغافورة يحتوي المتجر على مقهى. ذهبت إليه اليوم، وكان فطوري فيه عبارة عن قهوة لاتيه مع تشيزكيك بنكهة الماتشا (شاي أخضر) وآيسكريم بنكهة السمسم.
زرت متحفين في سنغافورة. أحدهما كان ممتازا أما الآخر فأقل من العادي. ذهبت إلى متحف الفن والعلوم وهو المتحف الذي لم يرقى إلى مستوى توقعاتي. فهو يتكون من ثلاث أقسام؛ أحدهما عن المستقبل، والآخر عن الفن التقليلي والذي احتوى على أعمال فنية جيدة لكنها قليلة. القسم الأخير كان عن عالم الفيزياء الأمريكي ريتشارد فاينمان وهو القسم الذي استمعت بالتجول فيه أكثر من بقية الأقسام. أعرف أغلب المعلومات المعروضة عن حياة فاينمان، فقد قرأت سيرة حياته "لا بد أنك تمزح يا سيد فاينمان" وسمعت الكثير عنه. فكان المتحف بمثابة تتويج لكل ما أعرفه عنه.

المتحف الآخر، الذي أنصح كل سائح في سنغافورة لزيارته، هو متحف الحضارات الآسيوية Asian Civilization Museum. يغطي تاريخ شعوب شرق آسيا من اليابان والصين إلى الهند وماليزيا وتايلند وسنغافورة وإندونيسيا. من المنتجات التي كانوا يصدرونها للخارج إلى تجارتهم عبر المحيطات مع الشرق الأوسط وأوروبا إلى تفاصيل أديانهم المختلفة، وهو أمتع أقسام المتحف.

في المساء ذهبت إلى مطعم Ramen Reisuke لتناول العشاء. وقفت بالدور حوالي عشر دقائق حتى تمكنت من الدخول. طلبت طبق من الرامن مع البصل الأخضر وطحالب البحر واللحم وبيضة نصف مسلوقة.