|
عملة نقدية تحمل صورة زنوبيا من القرن الثالث الميلادي
wikipedia.org |
تقع مدينة تدمر في بادية الشام، بالقرب من نبع مائي اجتمعت حوله مجموعة من القبائل العربية. كانت المدينة معروفة وعامرة منذ القرن الرابع قبل الميلاد. يمارس أهلها الزراعة والصناعة، وقد ساهم في ازدهارها مرور القوافل التجارية الآتية من آسيا. وغدَت بذلك مركزاً دينياً تحج إليه القبائل. فانتقلت تدمر من مشيخة صغيرة في الصحراء ومشرب مائي للقوافل العابرة، إلى مدينة رفيعة الشأن.
تأسست تدمر من خلال تحالف بين أربعة قبائل: أولهم كوماري (تعني الكهنة بالآرامية والكنعانية)، ومتابول (هبة بعل)، ومازن (رعاة الماعز)، والعماليق. وهو ما انعكس على مجمع الآلهة التدمري الذي يتكون من: عجل بول-ملاكبِل، وأرسو، وبعل شمين، وأترعتا.
حدث أمران مهمّان في القرن الثاني الميلادي ساهما في علوّ شأن تدمُر تجارياً. الأول، حين فقد الأنباط سيطرتهم على الطرق التجارية المهمة، والثاني، تراجع دور حِمص التي كانت تمرّ بها بعض المسارات التجارية الثانوية. فورثت تدمُر مهمة تنظيم القوافل التجارية. واعتمدت بشكل كبير على الفرات، حيث يمكن القول أنها المدينة الصحراوية الوحيدة التي يمتلك تجارها سفنهم الخاصة. وكانت إلى جانب ذلك توفر الحماية عبر سلسلة من القواعد العسكرية، ودخلت في حلف مع الرومان.
استفاد التدمُريون من الجنود العرب الذين تركوا الخدمة في الجيش الروماني. أنشأوا حينها عدة حاميات عسكرية في مناطق مختلفة تحمي القوافل من غزوات البدو. وكانت البضائع الآتية من تدمُر تشمل العبيد، والعطور، والملابس الأرجوانية، وبائعات الهوى، والحرير، والزجاج، والأطعمة المجففة، والأحجار الكريمة، والمنسوجات، والتوابل، وخشب الأبنوس، والبخور، والعاج.
تأثرت تدمُر بطرق الحكم السائدة عند اليونان والرومان، حيث كان يحكمها مجلس شيوخ (قبلي أو تجاري) ويسنّ القوانين. وبالرغم من أن أغلب سكانها من القبائل العربية إلا أن ثقافتها تعد مزيجاً من الثقافات اليونانية، والفارسية، والسورية. وكانت القرارات العامة تُكتب بالآرامية، واليونانية. وفي التماثيل تظهر الطبقة الاستقراطية بالثياب اليونانية أما عامة الشعب فبالثياب الفارسية.
أذينة يهزم الفرس
(تدمر، 260م)
ينتمي أذينة إلى أسرة أرستقراطية من إحدى الأسر الحاكمة في تدمُر. فلم يكن قبلها أسرة حاكمة تتولى حكم المدينة، بل مجلس يتكوّن من الأسر التجارية في المدينة، تقوم بشؤونها الإدارية كذلك. يعود الفضل في الصعود السياسي والعسكري لأسرة أذينة إلى الأسرة السيفيرانية. وهي أسرة حاكمة من أصول عربية سورية، بدأت عام 193م مع الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس واستمرت حتى آخر إمبراطور فيها، ألكسندر سيفيروس المتوفى سنة 235م.
جاء سبتيموس سيفيروس إلى سوريا عام 193م ليقاتل حاكمها پسكينوس نيجر. ولم يقف إلى جانب سبتيموس إلا قلة، منهم حيران، والد أذينة. وبعد انتصار سبتيموس كافأه بتقليده منصب عضو بمجلس الشيوخ الروماني، وإضفاء لقب "سبتيموس" عليه. وفي الوقت ذاته؛ كان سبتيموس حيران رئيساً على تدمُر، وعلى القبائل العربية فيها. ثم أصبح أذينة رئيساً على تدمر بعد وفاة أبيه. وحصل أيضاً على عضوية مجلس الشيوخ الروماني عام 245م من قبل الإمبراطور فيليب العربي.
برَز الخطر الفارسي على الإمبراطورية الرومانية في عهد أذينة. فقد تمكن شابور من أسْر الإمبراطور ڤالريان عام 260م، وتوغّل في بلاد الشام حتى سقطت أنطاكية وأصابها الدمار. ثم استولى على مدينة خاراكس (المحمرة) المطلة على الخليج العربي. لقد كانت فترة عصيبة على التدمُريين الذين كانوا محاطين بالأعداء من كل جانب، بالإضافة إلى تعرض تجارتهم للتهديد من الساسانيين.
فكر أذينة باستمالة الساسانيين. فاختار مجموعة من التدمريين المقربين إلى الفرس وأرسلهم مع صف طويل من الجِمال المحملة بأغلى الهدايا إلى شابور. خاصة بعد أن تعرض شابور للتو لهزيمة من الرومان في قيليقيا، ففرّ عائداً إلى عاصمته قطيسفون (المدائن)، فلحقت عليه بعثة أذينة قبل أن يعبر الفرات. استشاط شابور غضباً حين عرف أن شيخاً عربياً يحاول استمالته ببعض العطايا، وتساءل بازدراء "من يكون أذينة؟. إذا أراد أن أخفف عقوبته على فعلته هذه فعليه أن يخرّ ساجداً بيدين مضمومتين وراء ظهره أمام قدميّ. أما إذا امتنع عن ذلك فسيكون الفقر المدقع مصيراً له ولذريته ولسائر بلاده". ثم رمى بالهدايا في الفرات.
امتلأ أذينة غضباً، واشتعلت في عينيه شرارات الانتقام، وأقسم باللات أن يعرّفه مَن يكون أذينة.
يمتلك أذينة جيشاً مجهزاً بشكل جيد، إضافة إلى الميليشيا التي ترافق القوافل في الصحراء، مع بقايا الجنود الرومان الفارّين من الرها بعد سقوطها على أيدي الفرس. لم يكتفي أذينة بهذا، بل شرع يجنّد على وتيرة كبيرة أفراد من قبائل البادية ومن القرى السورية، استعداداً لمهاجمة قطيسفون وكسر غرور شابور، وتحرير الإمبراطور الروماني من الأسر. كانت الخطة مهاجمة جيش شابور المنهك من السفر قبل أن يعبر الفرات. فانطلق الجيش شمالاً باتجاه سميساط ليحول دون مرور جيش شابور للفرات. وتكبّد شابور خسارة فادحة. فقد أسر أذينة عدداً كبيراً من الجنود. أما شابور فقد فرّ مسرعاً كالأرنب أمام أذينة، تاركاً معسكره بكل ما فيه من ثروات وأفراد عائلته وجواريه. كان هذا النصر حدثاً فارقاً في حياة أذينة، الذي لم يكتفِ بما اغتنمه من شابور بل أضاف أيضاً أن أخذ منه لقبه، ملك الملوك (شاهنشاه)، وضمه إلى قائمة ألقابه.
وعرف شابور مَن يكون أذينة.
توجه أذينة إلى قطيسفون ليحاصر عاصمة الساسانيين. وبعد أن مكث عندها أياماً قليلة، جاءته رسالة من الإمبراطور گالينوس يطلب بها مساعدته. بعدما نازعه قائدان على عرش الإمبراطورية، ونصّب أحدهم (كيتوس) نفسه إمبراطوراً في سوريا ومصر والآخر في الأناضول. كانت تدمُر هي الوحيدة التي لم تبايع أي منهما. فتوجه أذينة بجيشه إلى سوريا ليقاتل كيتوس، الذي احتمى بحمص بعد سلسلة من المعارك مع أذينة.
يسمع التدمريون أصوات الحمصيين وهم يبتهلون إلى إله الشمس من خارج أسوار المدينة، والذين كانوا بدورهم أيضا يبتهلون إلى إله الشمس لينصرهم. كان موقفاً حرجا لإله الشمس؛ الجيشان من أتباعه وكلاهما في حاجة ماسة إليه للنصر. لم يكن أذينة في شك من تأييد إله الشمس له، وهو ما كان. فتعرّض كيتوس للخيانة وأُلقيَ برأسه من أعلى أسوار المدينة، ما جعل أذينة يرحل عنها. قرر گالينوس أن يكافئ أذينة بأن أعطاه سلطة على كل من ولايات مصر وسوريا وبلاد الرافدين والأناضول. وصَكّ أذينة عملته، واضعاً صورة الإمبراطور گالينوس على أحد جانبيها وعلى الآخر صورته.
صار أذينة يوزع الهبات والألقاب كما لو كان إمبراطوراً. وفي عهده خمدت غارات القبائل على القوافل التجارية، ولم يكن يجرؤ أحد على تحدي سلطته التي كان يمارسها بشكل مستقل عن الإمبراطور.
حاول الغوط الثورة عليه في الأناضول، فذهب يواجههم. وقرر أثناء رجوعه أن يستريح بجيشه في حمص قبل أن يتوجه إلى قطيسفون ليحصارها مجدداً. لم يكن أذينة مدركاً للمؤامرة التي تُحاك ضده. فحين كان يتناول وليمة عند قريب له، غدَر به أحد أقاربه وقتله هو وابنه. وانتشرت بسرعة شائعة تؤكد على أن من قتله هو زوجته، زنوبيا، التي أرادت أن يكون ولدها "وهب اللات" ملكاً بعد أذينة، عوضاً عن ابنه الأكبر، حيران.
في تلك الأثناء؛ حاولت قبيلة تنوخ أن تستغل هذه الفرصة لتنال نفوذاً أكبر في خضم هذه الفوضى. وحاولت زنوبيا أن تعيد الأمور إلى نصابها. فأعلنت ابنها القاصر، وهب اللات، ملكاً يخلف أبيه ويتمتع بكل ألقابه، ونصّبت نفسها وصية على عرش ابنها.
زنوبيا تهزم الرومان وتقتل جذيمة
(تدمر، 273م)
حين توفى أذينة سنة 267م، ترك زوجته مع حلم تأسيس إمبراطورية عربية تكون نِداً للفرس والروم. حلم خطير، ألزمها بالمبادرة وخوض المخاطر.
ولدت زنوبيا عام 240م وتزوجت أذينة في 255، وتوفيت سنة 273. لم تكن زنوبيا بارعة في القتال فحسب، بل كانت تتمتع بدرجة عالية من الثقافة، فقد كانت تتقن العربية والآرامية واليونانية، وتعلمت اللاتينية. يجتمع في بلاطها العديد من الفلاسفة، أبرزهم رئيس أكاديمية أثينا، لونجينوس، الذي لجأ إلى تدمُر بعد سقوط أثينا على يد القوط عام 267م، ومنه تعلمت الفلسفة والخطابة واللغات. كان لونجينوس معادياً للرومان، وساهم في تحريض زنوبيا على الثورة عليهم. واجتمع في تدمر مجموعة من المفكرين والفلاسفة عرباً أو يونانيين، ممن كان يدعوهم لونجينوس، أمثال فرفوريوس الصوري وأبسينس وغيرهم. موَّلت زنوبيا أحد تلاميذ أفلوطين ليبني مدرسة لتعليم الأفلاطونية المحدثة في أفاميا. وكانت الهيلينية ذات أهمية بالغة في المناطق التي تسعى زنوبيا إلى إقامة إمبراطوريتها عليها. فكل من الثقافة واللغة اليونانية منتشران في أغلب المناطق الحضرية في سوريا، وآسيا الصغرى، والإسكندرية.
دعمت زنوبيا كذلك الأقليات الدينية التي لم تقبلها آنذاك الإمبراطورية الرومانية. على سبيل المثال؛ بولس السميساطي الذي صار بدعمها أسقفاً لمدينة أنطاكية، والتي كانت واحدة من أهم المدن في الشرق. بالرغم من أنه كان يُتهم بالهرطقة، وبقوله أن للمسيح طبيعة بشرية لا غير، مع رفضه لعقيدة نزول ابن الرب من السماء. مما تسبب في عقد مجمع كنسي وطرده من الكنيسة. إلا أن بولس، بكونه ممثلاً للمسيحيين والساميين في سوريا، ساهم بدوره في حشد التأييد لزنوبيا عند المسيحيين الذين كانوا في تزايد في ذلك الوقت. فكان الفلاسفة اليونانيون يعتنون باليونانيين في المنطقة، فيما اهتمّ بولس السميساطي بالعنصر المسيحي وبقية الآراميين، وبقي السكان العرب والقبائل البدوية على عاتق زنوبيا.
بدأت زنوبيا -بعد اغتيال أذينة- بإعداد جيش اعتمدت فيه على الجنود المُسرحين من الجيش الروماني، ممن يملكون نظاماً خاصاً بهم في القتال. ثم أعادت تدريب وتجهيز الجنود الذين شاركوا مع أذينة في حروبه وفي تأمين القوافل التجارية، وامتلكوا خبرات رفيعة. غدَت تدمُر مدينة حصينة جداً. ثم أعلنت ابنها وهب اللات ملكاً خلفاً لأذينة، ووارثاً لكل الأراضي التي حكمها أذينة من جبال طوروس في تركيا إلى نهر الفرات. لم يكن وهب اللات آنذاك سوى طفل صغير لذلك صارت زنوبيا وصية على العرش.
وسرعان ما ابتدأت العداوة مع الإمبراطورية الرومانية حين رفض گالينوس حكم وهب اللات وعدّ ما مُنح لأذينة خاصا به غير قابل للتوريث. فأرسل إليها جيشاً يستعيد سلطة الرومان على المنطقة ويستردّ أفراد جيشه المُنضوين تحت لوائها. فخرجت إليه زنوبيا على رأس جيشها، هازمة الرومان بعد أن قتلت القائد الروماني. بعد أشهر قليلة توفي گالينوس في ميلان وانشغل خليفته كلاوديوس مع القوط عند الدانوب. وعليه؛ استغلت زنوبيا انشغاله لتبسط سيطرتها على سائر أنحاء سوريا وبلاد الرافدين، وصار النصف الشرقي للإمبراطورية الرومانية، المليء بالثروات، تحت سيطرتها. إلا أنها كانت ما تزال تتبع الإمبراطورية الرومانية ظاهرياً.
خلال تلك الحملات العسكرية على المناطق السورية؛ وجدت زنوبيا تعاوناً من القبائل العربية ومن غيرهم من سكان تلك المناطق، الرافضين للهيمنة الرومانية. باستثناء قبيلة تنوخ الذين رفضوا إسرافها بالعنف تجاههم، وهم آنذاك يسعون إلى بلوغ مكانة عالية بين القبائل العربية فحاربوها بعنف. ردت عليهم زنوبيا بأن دمرت مدينة أم الجمال حيث يقع فيها تمركزهم، وقتلت زعيمهم جذيمة الأبرش، مما أشعل فيهم الرغبة بلانتقام.
كان تدمير أم الجمال في طريق زنوبيا إلى مصر، والتي كانت السيطرة عليها يسيرة بسبب تعاون الكثير من أهلها مع التدمُريين. وقد أزعجت سيطرة التدمريين على مصر الرومان إزعاجاً كبيراً، كونهم يعتمدون بشكل كبير على القمح المصري. ثم أزيلت صورة الإمبراطور الروماني من العملات التدمرية عام 271م، وصُكَّت عملة جديدة عليها صورة وهب اللات على الجانبين.
استمرت وصاية زنوبيا على عرش ابنها وهب اللات ست سنوات، تمكنت خلالها من اقتطاع كامل الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، بالإضافة إلى مصر والأناضول. في الوقت ذاته برز العديد من الأعداء داخل مملكتها. منهم مسيحيّو أنطاكية الموالين لكنيسة روما، والذين ساءهم تنصيب أسقف هرطوقي على مدينتهم. كذلك اليهود الذين تأثرت تجارتهم عند الفرات بمزاحمة التجارة التدمرية لها. بالإضافة إلى بعض سكان حمص الموالين للإمبراطورية، والذين لم يعجبهم تفوق التدمُريين عليهم. فيما كان اتساع رقعة المملكة، وتشتيت الجيوش التدمرية في أرجائها سبباً في إضعافها.
كانت زنوبيا على عتبة مواجهة وشيكة مع الإمبراطور أورليان، فقررت أن تستخير في أمرها. أرسلت رسولاً إلى كاهن معبد أپولو في قيليقيا وآخر إلى كاهن معبد ڤينوس في سوريا. وجاء الرد على غير ما أحبّت. قررت أن تتجاهل رسالات الآلهة لها وخاضت الحرب.
سقطت منها مصر بسهولة بسبب تمركز جيشها في سوريا. ثم سقطت الأناضول التي أنهكتها غارات القوط. وزحف إليها أورليان من الأناضول ليلتقي الجيشان بالقرب من أنطاكية. كانت المواجهة صعبة على جيش زنوبيا. إلا أن سكان أنطاكية استيقظوا على دخول أفراد من الجنود التدمُريين يهتفون بانتصارهم، مع سريان شائعة انهزام الجيش الروماني. بعد سويعات قليلة انتشرت شائعة أخرى تفيد بأسر الإمبراطور أورليان. احتشد الناس في الشوارع، فقد سمِعوا قبل عقدين عن الإمبراطور ڤالريان الذي أسره الفرس، وهم الآن يسمعون عن إمبراطور آخر يقع في الأسر.
أعلنوا ابتهاجهم بهذا النصر وقدموا القرابين، ودَقّ بولس أجراس الكنيسة. رأوا أخيراً الإمبراطور أورليان موضوعاً بالمقلوب على ظهر حمار، محاطاً بالجنود التدمُريين الذين طافوا به في المدينة بين صيحات السخرية والاستهزاء. فرؤية نبيل يتعرض للإهانة، تعتبر من الأمور التي تبعث بهجة لا تضاهى في نفوس العامة. حاول بعض المتجمهرين الاقتراب من الإمبراطور وإمساكه بيديهم، إلا أن الجنود منعوهم. ازداد عدد المتجمهرين أكثر فأكثر.
حينما حل المساء؛ سارع الجنود التدمريون بالرحيل عن أنطاكية، وفي الصباح التالي دخل أورليان أنطاكية على رأس جيشه. فلم يكن ما حدث في اليوم السابق سوى مسرحية اقترحها أحد قواد زنوبيا ليتمكن من الانسحاب دون أن يتسبب بثورة من سكان المدينة إذا ما عرفوا هزيمتهم.
خرج أورليان في أثر زنوبيا، وتواجه الجيشان في حمص. هُزمت زنوبيا مرة ثانية. لم يكن أمام زنوبيا سوى الاحتماء في مدينتها وانتظار وصول مساعدة من الفرس. طال الحصار، وتأخّرت مساعدة الفرس. وبدأت القبائل العربية في التخلي عنها واحدة تلو الأخرى وتنضم إلى جانب الرومان بعد أن ضعف موقف زنوبيا. وعِوضاً عن انتظار مجيء الفرس إلى تدمُر، قررت زنوبيا أن تذهب إليهم.
خرجت ليلاً عبر نفق رماها بعيداً عن المدينة. وأسرعت هاربة باتجاه الفرات، إلا أن قدرها كان أسرع. فحالما وصلت عند ضفة النهر، وقد كادت أن تركب زورقا لتعبر به، انقض عليها أفراد من قبيلة تنوخ. قبضوا عليها وسلموها إلى أورليان، انتقاماً لما فعلته بهم.
حين أُسرت زنوبيا، كانت فرصة أورليان كبيرة لينتقم من المرأة العربية التي أهانت الإمبراطورية وتمردت عليها. كانت زنوبيا مدركة لذلك. فامتنعت عن الطعام حتى ماتت بعد أيام قليلة. سلَب أورليان من تدمُر كل ما وجده من أموال، وذهب، وأحجار كريمة، وحرير، وخيول، وجِمال إلى الخزينة الرومانية، وتركت المدينة تحت وطأة اغتنام الجنود لها، ينتهكونها ليل نهار.