رسالة انتحار: شكرا للحياة





ڤيوليتا پارا - southernexposurearts.org







تعرّفت الفنانة التشيلية، ڤيوليتا پارا، حين كانت في الأربعينيات من عمرها، على شاب سويسري يصغرها بتسعة عشر عاماً، ووقعت في حبه. انتهت علاقتهما بعد سنوات قليلة من العيش سوياً. وكتبت حينها قصيدة "شكراً للحياة" التي كانت بمثابة رسالة انتحارها، حيث أطلقت النار على رأسها لتخر ميتة على السرير بجانب قيثارتها. 





شكرا للحياة - ڤيوليتا پارا
ترجمة: علي الصباح







شكراً للحياة التي منحتني الكثير
أهدتني جوهرتين إن فتحتهما
أُميّز بوضوح الأسود عن الأبيض
وفي السماء العميقة أُميّز النجوم
ومن وبين الجموع أُميّز الرجل الذي أحب



شكراً للحياة التي منحتني الكثير
أهدتني السمع الذي يتمدد حتى
أسمع الحشرات وطيور الكناري ليل نهار
المطارق والمحركات، النباح والعواصف،
وصوت محبوبي الحنون



شكراً للحياة التي منحتني الكثير
أهدتني الأصوات والأبجدية
من خلالهما أفكّر وأُعَرِّف:
"أُم"، "أب"، "أخ" والنور الساطع على
الطريق إلى روح الذي أحبه



شكراً للحياة التي منحتني الكثير
أهدتني خطوات قدميّ المتعبتين
من خلالها اجتزت مدناً ومستنقعات
ودياناً وصحارى، جبالاً وسهولاً
ومنزلك، وشارعك، وفناء دارك



شكراً للحياة التي منحتني الكثير
أهدتني هذا القلب الذي يختلج
حين أنظر إلى ثمرة العقل البشري
حين أنظر إلى مدى بُعد الخير عن الشر
حين أنظر عميقاً إلى صفاء مقلتيك



شكراً للحياة التي منحتني الكثير
أهدتني الضحك وأهدتني الدموع
من خلالهما أُميّز بين السعادة والألم
العنصرين اللذين يشكلان أُغنيتي
وأُغنيتك كذلك، التي هي نفس الأغنية
وأُغنية كل أحد، التي هي أغنيتي ذاتها.






حلم الدولة العربية: زنوبيا ملكة تدمر




عملة نقدية تحمل صورة زنوبيا من القرن الثالث الميلادي
wikipedia.org




تقع مدينة تدمر في بادية الشام، بالقرب من نبع مائي اجتمعت حوله مجموعة من القبائل العربية. كانت المدينة معروفة وعامرة منذ القرن الرابع قبل الميلاد. يمارس أهلها الزراعة والصناعة، وقد ساهم في ازدهارها مرور القوافل التجارية الآتية من آسيا. وغدَت بذلك مركزاً دينياً تحج إليه القبائل. فانتقلت تدمر من مشيخة صغيرة في الصحراء ومشرب مائي للقوافل العابرة، إلى مدينة رفيعة الشأن.

تأسست تدمر من خلال تحالف بين أربعة قبائل: أولهم كوماري (تعني الكهنة بالآرامية والكنعانية)، ومتابول (هبة بعل)، ومازن (رعاة الماعز)، والعماليق. وهو ما انعكس على مجمع الآلهة التدمري الذي يتكون من: عجل بول-ملاكبِل، وأرسو، وبعل شمين، وأترعتا. 

حدث أمران مهمّان في القرن الثاني الميلادي ساهما في علوّ شأن تدمُر تجارياً. الأول، حين فقد الأنباط سيطرتهم على الطرق التجارية المهمة، والثاني، تراجع دور حِمص التي كانت تمرّ بها بعض المسارات التجارية الثانوية. فورثت تدمُر مهمة تنظيم القوافل التجارية. واعتمدت بشكل كبير على الفرات، حيث يمكن القول أنها المدينة الصحراوية الوحيدة التي يمتلك تجارها سفنهم الخاصة. وكانت إلى جانب ذلك توفر الحماية عبر سلسلة من القواعد العسكرية، ودخلت في حلف مع الرومان.

استفاد التدمُريون من الجنود العرب الذين تركوا الخدمة في الجيش الروماني. أنشأوا حينها عدة حاميات عسكرية في مناطق مختلفة تحمي القوافل من غزوات البدو. وكانت البضائع الآتية من تدمُر تشمل العبيد، والعطور، والملابس الأرجوانية، وبائعات الهوى، والحرير، والزجاج، والأطعمة المجففة، والأحجار الكريمة، والمنسوجات، والتوابل، وخشب الأبنوس، والبخور، والعاج.

تأثرت تدمُر بطرق الحكم السائدة عند اليونان والرومان، حيث كان يحكمها مجلس شيوخ (قبلي أو تجاري) ويسنّ القوانين. وبالرغم من أن أغلب سكانها من القبائل العربية إلا أن ثقافتها تعد مزيجاً من الثقافات اليونانية، والفارسية، والسورية. وكانت القرارات العامة تُكتب بالآرامية، واليونانية. وفي التماثيل تظهر الطبقة الاستقراطية بالثياب اليونانية أما عامة الشعب فبالثياب الفارسية.




أذينة يهزم الفرس
(تدمر، 260م)


ينتمي أذينة إلى أسرة أرستقراطية من إحدى الأسر الحاكمة في تدمُر. فلم يكن قبلها أسرة حاكمة تتولى حكم المدينة، بل مجلس يتكوّن من الأسر التجارية في المدينة، تقوم بشؤونها الإدارية كذلك. يعود الفضل في الصعود السياسي والعسكري لأسرة أذينة إلى الأسرة السيفيرانية. وهي أسرة حاكمة من أصول عربية سورية، بدأت عام 193م مع الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس واستمرت حتى آخر إمبراطور فيها، ألكسندر سيفيروس المتوفى سنة 235م.

جاء سبتيموس سيفيروس إلى سوريا عام 193م ليقاتل حاكمها پسكينوس نيجر. ولم يقف إلى جانب سبتيموس إلا قلة، منهم حيران، والد أذينة. وبعد انتصار سبتيموس كافأه بتقليده منصب عضو بمجلس الشيوخ الروماني، وإضفاء لقب "سبتيموس" عليه. وفي الوقت ذاته؛ كان سبتيموس حيران رئيساً على تدمُر، وعلى القبائل العربية فيها. ثم أصبح أذينة رئيساً على تدمر بعد وفاة أبيه. وحصل أيضاً على عضوية مجلس الشيوخ الروماني عام 245م من قبل الإمبراطور فيليب العربي.

برَز الخطر الفارسي على الإمبراطورية الرومانية في عهد أذينة. فقد تمكن شابور من أسْر الإمبراطور ڤالريان عام 260م، وتوغّل في بلاد الشام حتى سقطت أنطاكية وأصابها الدمار. ثم استولى على مدينة خاراكس (المحمرة) المطلة على الخليج العربي. لقد كانت فترة عصيبة على التدمُريين الذين كانوا محاطين بالأعداء من كل جانب، بالإضافة إلى تعرض تجارتهم للتهديد من الساسانيين.

فكر أذينة باستمالة الساسانيين. فاختار مجموعة من التدمريين المقربين إلى الفرس وأرسلهم مع صف طويل من الجِمال المحملة بأغلى الهدايا إلى شابور. خاصة بعد أن تعرض شابور للتو لهزيمة من الرومان في قيليقيا، ففرّ عائداً إلى عاصمته قطيسفون (المدائن)، فلحقت عليه بعثة أذينة قبل أن يعبر الفرات. استشاط شابور غضباً حين عرف أن شيخاً عربياً يحاول استمالته ببعض العطايا، وتساءل بازدراء "من يكون أذينة؟. إذا أراد أن أخفف عقوبته على فعلته هذه فعليه أن يخرّ ساجداً بيدين مضمومتين وراء ظهره أمام قدميّ. أما إذا امتنع عن ذلك فسيكون الفقر المدقع مصيراً له ولذريته ولسائر بلاده". ثم رمى بالهدايا في الفرات.

امتلأ أذينة غضباً، واشتعلت في عينيه شرارات الانتقام، وأقسم باللات أن يعرّفه مَن يكون أذينة. 

يمتلك أذينة جيشاً مجهزاً بشكل جيد، إضافة إلى الميليشيا التي ترافق القوافل في الصحراء، مع بقايا الجنود الرومان الفارّين من الرها بعد سقوطها على أيدي الفرس. لم يكتفي أذينة بهذا، بل شرع يجنّد على وتيرة كبيرة أفراد من قبائل البادية ومن القرى السورية، استعداداً لمهاجمة قطيسفون وكسر غرور شابور، وتحرير الإمبراطور الروماني من الأسر. كانت الخطة مهاجمة جيش شابور المنهك من السفر قبل أن يعبر الفرات. فانطلق الجيش شمالاً باتجاه سميساط ليحول دون مرور جيش شابور للفرات. وتكبّد شابور خسارة فادحة. فقد أسر أذينة عدداً كبيراً من الجنود. أما شابور فقد فرّ مسرعاً كالأرنب أمام أذينة، تاركاً معسكره بكل ما فيه من ثروات وأفراد عائلته وجواريه. كان هذا النصر حدثاً فارقاً في حياة أذينة، الذي لم يكتفِ بما اغتنمه من شابور بل أضاف أيضاً أن أخذ منه لقبه، ملك الملوك (شاهنشاه)، وضمه إلى قائمة ألقابه.

وعرف شابور مَن يكون أذينة.

توجه أذينة إلى قطيسفون ليحاصر عاصمة الساسانيين. وبعد أن مكث عندها أياماً قليلة، جاءته رسالة من الإمبراطور گالينوس يطلب بها مساعدته. بعدما نازعه قائدان على عرش الإمبراطورية، ونصّب أحدهم (كيتوس) نفسه إمبراطوراً في سوريا ومصر والآخر في الأناضول. كانت تدمُر هي الوحيدة التي لم تبايع أي منهما. فتوجه أذينة بجيشه إلى سوريا ليقاتل كيتوس، الذي احتمى بحمص بعد سلسلة من المعارك مع أذينة.

يسمع التدمريون أصوات الحمصيين وهم يبتهلون إلى إله الشمس من خارج أسوار المدينة، والذين كانوا بدورهم أيضا يبتهلون إلى إله الشمس لينصرهم. كان موقفاً حرجا لإله الشمس؛ الجيشان من أتباعه وكلاهما في حاجة ماسة إليه للنصر. لم يكن أذينة في شك من تأييد إله الشمس له، وهو ما كان. فتعرّض كيتوس للخيانة وأُلقيَ برأسه من أعلى أسوار المدينة، ما جعل أذينة يرحل عنها. قرر گالينوس أن يكافئ أذينة بأن أعطاه سلطة على كل من ولايات مصر وسوريا وبلاد الرافدين والأناضول. وصَكّ أذينة عملته، واضعاً صورة الإمبراطور گالينوس على أحد جانبيها وعلى الآخر صورته.

صار أذينة يوزع الهبات والألقاب كما لو كان إمبراطوراً. وفي عهده خمدت غارات القبائل على القوافل التجارية، ولم يكن يجرؤ أحد على تحدي سلطته التي كان يمارسها بشكل مستقل عن الإمبراطور.

حاول الغوط الثورة عليه في الأناضول، فذهب يواجههم. وقرر أثناء رجوعه أن يستريح بجيشه في حمص قبل أن يتوجه إلى قطيسفون ليحصارها مجدداً. لم يكن أذينة مدركاً للمؤامرة التي تُحاك ضده. فحين كان يتناول وليمة عند قريب له، غدَر به أحد أقاربه وقتله هو وابنه. وانتشرت بسرعة شائعة تؤكد على أن من قتله هو زوجته، زنوبيا، التي أرادت أن يكون ولدها "وهب اللات" ملكاً بعد أذينة، عوضاً عن ابنه الأكبر، حيران.

في تلك الأثناء؛ حاولت قبيلة تنوخ أن تستغل هذه الفرصة لتنال نفوذاً أكبر في خضم هذه الفوضى. وحاولت زنوبيا أن تعيد الأمور إلى نصابها. فأعلنت ابنها القاصر، وهب اللات، ملكاً يخلف أبيه ويتمتع بكل ألقابه، ونصّبت نفسها وصية على عرش ابنها.




زنوبيا تهزم الرومان وتقتل جذيمة
(تدمر، 273م)

حين توفى أذينة سنة 267م، ترك زوجته مع حلم تأسيس إمبراطورية عربية تكون نِداً للفرس والروم. حلم خطير، ألزمها بالمبادرة وخوض المخاطر.

ولدت زنوبيا عام 240م وتزوجت أذينة في 255، وتوفيت سنة 273. لم تكن زنوبيا بارعة في القتال فحسب، بل كانت تتمتع بدرجة عالية من الثقافة، فقد كانت تتقن العربية والآرامية واليونانية، وتعلمت اللاتينية. يجتمع في بلاطها العديد من الفلاسفة، أبرزهم رئيس أكاديمية أثينا، لونجينوس، الذي لجأ إلى تدمُر بعد سقوط أثينا على يد القوط عام 267م، ومنه تعلمت الفلسفة والخطابة واللغات. كان لونجينوس معادياً للرومان، وساهم في تحريض زنوبيا على الثورة عليهم. واجتمع في تدمر مجموعة من المفكرين والفلاسفة عرباً أو يونانيين، ممن كان يدعوهم لونجينوس، أمثال فرفوريوس الصوري وأبسينس وغيرهم. موَّلت زنوبيا أحد تلاميذ أفلوطين ليبني مدرسة لتعليم الأفلاطونية المحدثة في أفاميا. وكانت الهيلينية ذات أهمية بالغة في المناطق التي تسعى زنوبيا إلى إقامة إمبراطوريتها عليها. فكل من الثقافة واللغة اليونانية منتشران في أغلب المناطق الحضرية في سوريا، وآسيا الصغرى، والإسكندرية.

دعمت زنوبيا كذلك الأقليات الدينية التي لم تقبلها آنذاك الإمبراطورية الرومانية. على سبيل المثال؛ بولس السميساطي الذي صار بدعمها أسقفاً لمدينة أنطاكية، والتي كانت واحدة من أهم المدن في الشرق. بالرغم من أنه كان يُتهم بالهرطقة، وبقوله أن للمسيح طبيعة بشرية لا غير، مع رفضه لعقيدة نزول ابن الرب من السماء. مما تسبب في عقد مجمع كنسي وطرده من الكنيسة. إلا أن بولس، بكونه ممثلاً للمسيحيين والساميين في سوريا، ساهم بدوره في حشد التأييد لزنوبيا عند المسيحيين الذين كانوا في تزايد في ذلك الوقت. فكان الفلاسفة اليونانيون يعتنون باليونانيين في المنطقة، فيما اهتمّ بولس السميساطي بالعنصر المسيحي وبقية الآراميين، وبقي السكان العرب والقبائل البدوية على عاتق زنوبيا.

بدأت زنوبيا -بعد اغتيال أذينة- بإعداد جيش اعتمدت فيه على الجنود المُسرحين من الجيش الروماني، ممن يملكون نظاماً خاصاً بهم في القتال. ثم أعادت تدريب وتجهيز الجنود الذين شاركوا مع أذينة في حروبه وفي تأمين القوافل التجارية، وامتلكوا خبرات رفيعة. غدَت تدمُر مدينة حصينة جداً. ثم أعلنت ابنها وهب اللات ملكاً خلفاً لأذينة، ووارثاً لكل الأراضي التي حكمها أذينة من جبال طوروس في تركيا إلى نهر الفرات. لم يكن وهب اللات آنذاك سوى طفل صغير لذلك صارت زنوبيا وصية على العرش.

وسرعان ما ابتدأت العداوة مع الإمبراطورية الرومانية حين رفض گالينوس حكم وهب اللات وعدّ ما مُنح لأذينة خاصا به غير قابل للتوريث. فأرسل إليها جيشاً يستعيد سلطة الرومان على المنطقة ويستردّ أفراد جيشه المُنضوين تحت لوائها. فخرجت إليه زنوبيا على رأس جيشها، هازمة الرومان بعد أن قتلت القائد الروماني. بعد أشهر قليلة توفي گالينوس في ميلان وانشغل خليفته كلاوديوس مع القوط عند الدانوب. وعليه؛ استغلت زنوبيا انشغاله لتبسط سيطرتها على سائر أنحاء سوريا وبلاد الرافدين، وصار النصف الشرقي للإمبراطورية الرومانية، المليء بالثروات، تحت سيطرتها. إلا أنها كانت ما تزال تتبع الإمبراطورية الرومانية ظاهرياً.

خلال تلك الحملات العسكرية على المناطق السورية؛ وجدت زنوبيا تعاوناً من القبائل العربية ومن غيرهم من سكان تلك المناطق، الرافضين للهيمنة الرومانية. باستثناء قبيلة تنوخ الذين رفضوا إسرافها بالعنف تجاههم، وهم آنذاك يسعون إلى بلوغ مكانة عالية بين القبائل العربية فحاربوها بعنف. ردت عليهم زنوبيا بأن دمرت مدينة أم الجمال حيث يقع فيها تمركزهم، وقتلت زعيمهم جذيمة الأبرش، مما أشعل فيهم الرغبة بلانتقام.

كان تدمير أم الجمال في طريق زنوبيا إلى مصر، والتي كانت السيطرة عليها يسيرة بسبب تعاون الكثير من أهلها مع التدمُريين. وقد أزعجت سيطرة التدمريين على مصر الرومان إزعاجاً كبيراً، كونهم يعتمدون بشكل كبير على القمح المصري. ثم أزيلت صورة الإمبراطور الروماني من العملات التدمرية عام 271م، وصُكَّت عملة جديدة عليها صورة وهب اللات على الجانبين.

استمرت وصاية زنوبيا على عرش ابنها وهب اللات ست سنوات، تمكنت خلالها من اقتطاع كامل الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، بالإضافة إلى مصر والأناضول. في الوقت ذاته برز العديد من الأعداء داخل مملكتها. منهم مسيحيّو أنطاكية الموالين لكنيسة روما، والذين ساءهم تنصيب أسقف هرطوقي على مدينتهم. كذلك اليهود الذين تأثرت تجارتهم عند الفرات بمزاحمة التجارة التدمرية لها. بالإضافة إلى بعض سكان حمص الموالين للإمبراطورية، والذين لم يعجبهم تفوق التدمُريين عليهم. فيما كان اتساع رقعة المملكة، وتشتيت الجيوش التدمرية في أرجائها سبباً في إضعافها.

كانت زنوبيا على عتبة مواجهة وشيكة مع الإمبراطور أورليان، فقررت أن تستخير في أمرها. أرسلت رسولاً إلى كاهن معبد أپولو في قيليقيا وآخر إلى كاهن معبد ڤينوس في سوريا. وجاء الرد على غير ما أحبّت. قررت أن تتجاهل رسالات الآلهة لها وخاضت الحرب.

سقطت منها مصر بسهولة بسبب تمركز جيشها في سوريا. ثم سقطت الأناضول التي أنهكتها غارات القوط. وزحف إليها أورليان من الأناضول ليلتقي الجيشان بالقرب من أنطاكية. كانت المواجهة صعبة على جيش زنوبيا. إلا أن سكان أنطاكية استيقظوا على دخول أفراد من الجنود التدمُريين يهتفون بانتصارهم، مع سريان شائعة انهزام الجيش الروماني. بعد سويعات قليلة انتشرت شائعة أخرى تفيد بأسر الإمبراطور أورليان. احتشد الناس في الشوارع، فقد سمِعوا قبل عقدين عن الإمبراطور ڤالريان الذي أسره الفرس، وهم الآن يسمعون عن إمبراطور آخر يقع في الأسر.

أعلنوا ابتهاجهم بهذا النصر وقدموا القرابين، ودَقّ بولس أجراس الكنيسة. رأوا أخيراً الإمبراطور أورليان موضوعاً بالمقلوب على ظهر حمار، محاطاً بالجنود التدمُريين الذين طافوا به في المدينة بين صيحات السخرية والاستهزاء. فرؤية نبيل يتعرض للإهانة، تعتبر من الأمور التي تبعث بهجة لا تضاهى في نفوس العامة. حاول بعض المتجمهرين الاقتراب من الإمبراطور وإمساكه بيديهم، إلا أن الجنود منعوهم. ازداد عدد المتجمهرين أكثر فأكثر.

حينما حل المساء؛ سارع الجنود التدمريون بالرحيل عن أنطاكية، وفي الصباح التالي دخل أورليان أنطاكية على رأس جيشه. فلم يكن ما حدث في اليوم السابق سوى مسرحية اقترحها أحد قواد زنوبيا ليتمكن من الانسحاب دون أن يتسبب بثورة من سكان المدينة إذا ما عرفوا هزيمتهم.

خرج أورليان في أثر زنوبيا، وتواجه الجيشان في حمص. هُزمت زنوبيا مرة ثانية. لم يكن أمام زنوبيا سوى الاحتماء في مدينتها وانتظار وصول مساعدة من الفرس. طال الحصار، وتأخّرت مساعدة الفرس. وبدأت القبائل العربية في التخلي عنها واحدة تلو الأخرى وتنضم إلى جانب الرومان بعد أن ضعف موقف زنوبيا. وعِوضاً عن انتظار مجيء الفرس إلى تدمُر، قررت زنوبيا أن تذهب إليهم.

خرجت ليلاً عبر نفق رماها بعيداً عن المدينة. وأسرعت هاربة باتجاه الفرات، إلا أن قدرها كان أسرع. فحالما وصلت عند ضفة النهر، وقد كادت أن تركب زورقا لتعبر به، انقض عليها أفراد من قبيلة تنوخ. قبضوا عليها وسلموها إلى أورليان، انتقاماً لما فعلته بهم.

حين أُسرت زنوبيا، كانت فرصة أورليان كبيرة لينتقم من المرأة العربية التي أهانت الإمبراطورية وتمردت عليها. كانت زنوبيا مدركة لذلك. فامتنعت عن الطعام حتى ماتت بعد أيام قليلة. سلَب أورليان من تدمُر كل ما وجده من أموال، وذهب، وأحجار كريمة، وحرير، وخيول، وجِمال إلى الخزينة الرومانية، وتركت المدينة تحت وطأة اغتنام الجنود لها، ينتهكونها ليل نهار.


حلم الدولة العربية: الرُها




(الرُها، من 131ق.م إلى 242م)

تقع مدينة الرُها عند الحدود التركية الجنوبية، بالتحديد عند ملتقى سهول بلاد الرافدين مع بداية سفوح الأناضول. استخدمها السلوقيون كمستعمرة عسكرية منذ عام 303ق.م، وأطلقوا عليها اسم أديسا (Edessa) تيمنا بعاصمتهم، مقدونيا. حتى استقلت عنهم في عام 131ق.م، ثم عادت التسمية الساميّة للمدينة بإطلاق اسم "أورفا" عليها بعد الفتح الإسلامي.

تعرف تاريخياً باسم مملكة أوسْروينا (Osroene)، المشتق من اسم القبيلة العربية أسرُيني. وكانت تابعة لأرمينيا حتى مقتل حاكمها أبجر الأول في عام 64ق.م. حافظت على استقلالها وفي نفس الوقت أبقت علاقتها متوازنة ما بين الفرس والرومان. ومرت بمراحل سياسية مختلفة إلى أن صارت تابعة للرومان منذ عام 166م. ثم ضُمَّت إلى الإمبراطورية الرومانية عام 242م. وانتقل آخر حكامها مع زوجته إلى روما، منهياً بذلك 375 عاماً من حكم هذه المدينة، والتي تُعد فترة زمنية طويلة بالمقارنة مع الصراعات المتواصلة حولها بين الفرس والرومان. والتي تعكس الكفاءة السياسية التي تحلّى بها حكامها.

يُعرف مؤسس السلالة الحاكمة باسم أَريو (Aryu)، والذي يعني الأسد في اللغة الكنعانية-الآرامية وفي اللغة السامية القديمة. بدأ حكمه عام 131ق.م، في زمن كان يشيع فيه إطلاق أسماء الحيوانات على القبائل والأفراد.

ينتسب حكامها إلى أصول نبطية عربية، أما عامتها فقد كانوا مزيجاً متنوعاً. ازداد فيها الحضور الثقافي السامي، ويمكننا أن نلحظ ذلك من الأسماء العربية لملوكها (أبجر، وائل، عمرو) والنبطية (مانو، عبدو، بكرو، جبرو). لم يتخذ ملوك الرُها لأنفسهم صلاحيات مطلقة، بل كانوا يحكمون عبر مجلس استشاري يضم كبار السن، وشيوخ القبائل، وأفراد من الأسرة الحاكمة. وارتبطت بعلاقات جيدة مع حكام مملكة حدياب اليهودية.

تُعد الرُها بمثابة المعقل الثقافي والفكري للساميين، يقابلها المركز الثقافي الهيليني في أنطاكية. لغة الكتابة فيها هي السريانية القريبة من اللغة النبطية من حيث البنية والمفردات. ومن هذه المدينة بدأت الآداب السريانية بالظهور. يصف المؤرخون الرومان (پليني، وتاسيتوس، وپلوتارخ) سكان الرُها بالعرب، فقد لعبت دوراً مهما في تشكيل الهوية العربية لاحقاً، وبالأخص فيما يتعلق بالدين.

أكسبها موقعها الجغرافي الواقع على طريق الحرير الذي يربط أرمينيا ببلاد الرافدين وسوريا أهمية اقتصادية، بالإضافة إلى كميات المياه الجوفية الكبيرة التي تتمتع بها. مما جعلها تلعب دوراً بارزاً في صراع الفرس والرومان. وكان من دَيدَن ملوك الرُها استغلال الصراع الدائر، والمحافظة على استقلالهم بالتحالف تارة مع الفرس، وتارة أخرى مع الرومان.

كانت العقائد الدينية خلال القرن الثاني الميلادي في منطقة الهلال الخصيب تختمر شيئاً فشيئاً. فالمسيحيون الأرثوذوكس مشغولون بمواجهة أتباع مرقيون. فيما أرست المدارس الغنوصية، بالتحديد مدرسة ڤالنتينوس -التي جمعت ما بين التوحيد الشرقي والفلسفة اليونانية- تعاليمها المقعدة في الفلسفة، وفي نشأة الكون. وهو ما مهّد لظهور الديانة المانوية المبنية على مفهوم ثنائية القوى في خلق الكون. ثم أتت الديانة الكسائية، في محاولة للتوفيق بين المعتقدات اليهودية والمسيحية والوثنية؛ فأقرّت بإله واحد، ورفضت الإيمان بالأنبياء السابقين، وقدست الماء كونه مصدر الحياة. وفي مدينة حرّان السورية؛ رفض الصابئة وساطة الأنبياء بين الله والبشر، وتوجهوا بصلاتهم إلى كائنات يعتقدون أنها تتوسط بينهم وبين الله، ويؤمنون بأن تلك الكائنات تُسيّر الأجرام السماوية وتكمن فيها. كانت الإلهة الرئيسة في حرّان هي "أترعتا" المعروفة بلقب الإلهة الأم. فيما لم يكن من بين الآلهة المعبودة في الرُها أي إله يوناني أو روماني. أبرز إلهين فيها هما الإلهين البابليين نِبو (nebo) وبعل، بالإضافة إلى الإلهة أترعتا المعبودة في منبج. وعليه؛ تشكّل ثالوث الآلهة الرئيسة في الرُها من تلك الآلهة.


المسيح يشفي ملك الرُها

(الرُها، النصف الأول من القرن الأول الميلادي)

بينما كان يوسابيوس القيصري (أبو التاريخ الكنسي) يفتش في أرشيف سجلات مدينة الرُها، إذ به يجد وثائق سريانية شبه منسية، وهي رسائل بين الملك أبجر الخامس والمسيح، فترجمها إلى اليونانية ونالت بعد ذلك شهرة واسعة.

امتدت ولاية الملك أبجر الخامس على مملكة الرها مابين عام 4ق.م إلى 50م. وقد أطاح به المرض الذي لم يجد الأطباء له علاجاً. كان أحد رسله في تلك الأثناء متوجهاً إلى مصر، وتوقف وفي طريقه عند فلسطين، حيث شاهد المسيح والناس حوله متحلّقون، جذبتهم إليه قدرته على صنع المعجزات. وعندما انتهت مهمته من مصر، رجع إلى فلسطين ليستعلم أكثر عن ذلك الشخص الذي رآه، لعله يستطيع معالجة أبجر. سارع الرسول لإخبار أبجر بما رآه، ما جعله يستبشر بذلك الخبر. ورأى أنه قد يكون أمله الأخير. فكتب رسالة إلى المسيح يطلب منه أن يعالجه.


الرسالة التي بعثها الملك أبجر إلى السيد المسيح (ترجمة موقع الأنبا تكلا هيمانوت):

السلام من أبجر حاكم أديسا (الرُها) إلى يسوع المخلّص السامي، الذي ظهر في مملكة أورشليم.

لقد سمعت أنباءك وأنباء آيات الشفاء التي صنعتها بدون أدوية أو عقاقير. لأنه يُقال أنك تجعل العمي يُبصرون، والعرج يمشون، وأنك تطهّر البرص، وتخرج الأرواح النجسة والشياطين، وتشفي المصابين بأمراض مستعصية، وتقيم الموتى.

وإذ سمعت كل هذه الأمور عنك، استنتجت أنه لابد أن يكون أحد الأمرين صحيحاً: إما أن تكون أنت هو الله، وإذ نزلت من السماء فإنك تصنع هذه الأمور. أو تكون أنت ابن الله إذ تصنع هذه الأمور.

لذلك كتبت إليك لأطلب أن تكلف نفسك مؤونة التعب، لتأتي إليّ، وتشفيني من المرض الذي أعانيه. لأنني سمعت أن اليهود يتذمرون عليك، ويتآمرون لإيذائك، ولكنني لديّ مدينة جميلة جداً مع صغرها، تتسع لكلينا.




إجابة السيد المسيح على أبجر الملك:

طوباك يا مَن آمنت بي دون أن تراني، لأنه مكتوب عني أن الذين رأوني لا يؤمنون بي، أما الذين لم يرَونَني فيؤمنون ويُخلصون. أما بخصوص ما كتبت إليّ عنه لكي آتي إليك فيلزمني أن أتمّم هنا كل الأشياء التي من أجلها أُرسلت، وبعد إتمامها أصعد ثانية إلى مَن أرسلني. ولكنني بعد صعودي أرسل إليك أحد تلاميذي ليشفيك من مرضك، ويعطي حياة لك ولمن لك.


بعد صعود المسيح إلى الملأ الأعلى، جاء إلى الرُها القديس يهوذا تَداوَس. وانتشر خبره بين الناس بأنه يُشفي، بإذن الرب كل معلول ومريض. حين وصل خبره إلى الملك أبجر، ظنّ أنه قد يكون الشخص الذي أشار المسيح إلى وصوله بعد صعوده. فبعث أبجر يطلب حضور تداوس إليه ليعالجه، ووافق تداوس على ذلك. فعل القديس تداوس ما كان متوقعاً منه. فشفي الملك على يديه وآمن بالمسيح، لتصير الرُها أول مملكة تؤمن بالمسيحية.

الغريب في هذه القصة، على شهرتها، أن الكتّاب المسيحيين لم يذكروا شيئاً عن دخول هذه المملكة إلى الإيمان بالمسيح طوال ثلاثة قرون، إلى أن جاء يوسابيوس في عام 325م ليذكر هذه القصة التي شاعت عنه.



برديصان

يُعرف برديصان بأنه "آخر الغنوصيين" وهو من أشهر الشخصيات الرُهاوية. ولد عام 154م في الرُها، لأسرة وثنية أرستقراطية، كانت في طريقها للفرار من بلاد فارس، فولِد طفلهم عن نهر ديصان فأسموه ابن ديصان، بالسريانية برديصان. تلقى تعليمه مع أبجر العظيم (الثامن)، وكان ثنوياً حتى العمق فجمع بين التصورات الفلسفية الرافدية القديمة، وتعاليم المسيحية، والتعاليم الغنوصية التي وفدت من الاسكندرية. اعتنق المسيحية على يد أسقف الرُها وكتب في الرد على هرطقة مرقيون.

أشهر مؤلفاته كتاب شرائع البلدان. وفي سعيه لترسيخ مصداقية حكمه عن حرية إرادة الإنسان؛ يستند برديصان إلى رأي مفاده أنّ النجوم وقدرها وأعدادها ليس لها التأثير عينه على الناس في كل مكان. ولبرهنة صحة هذا الرأي؛ يستند برديصان إلى واقع اختلاف القوانين التي تعتمدها مختلف الشعوب ثم يسوقها "مبتدئاً من أقصى شرقيّ المعمورة". وتشكّل هذه المادة التي تتضمن معطيات عن قوانين مختلف البلدان وعاداتها، القسم الأكثر إثارة للاهتمام من الوجهة المعرفية في محاورة برديصان؛ فهو يثير الانتباه بمدى رحابة تصوّراته وتنوّع معارفه العلمية.

وكانت الخلاصة الفلسفية الجوهرية التي خلَص إليها برديصان هي موضوعاته عن إرادة الإنسان الحرّة التي لا تخضع للطبيعة، أي للقانون الطبيعي ولا للقدر. فليس بمقدور هذه القوى أن تُرغم الإنسان على أيّ فعل ذي طابع أخلاقي. إنه حرّ ويمكنه أن يأتي بأي سلوك خيّر أو شرير بدافع من ذاته. لقد كان برديصان بعيداً كل البعد عن "الحتمية التنجيمية"، وهذا ما جعل عمله الفلكي يتميّز بين منظومة المعتقدات البابلية المعقدة.

عرض برديصان المضمون الرئيس لتعاليمه في "كتاب شرائع البلدان". ففيه طوّر الفيلسوف في صيغة حوارية التصورات التي كانت شائعة في وادي الرافدين عن النجوم والكواكب والكون. وقد اجتمعت في الأخيرة معتقدات البابليين القديمة، والتعاليم التي طوّرها الغنوصيون، إضافة إلى رؤى فلاسفة العصر الكلاسيكي في علم الكونيات.

كل ما أريده هو نافذة




Fizdi.com



كل ما أريده هو نافذة أشرب عندها قهوة سوداء بينما أترقب طلوع الشمس لتطوقني بدفء أشعتها. أتأمل تأهب كل الأشياء لتؤدي دورها في بداية هذا اليوم الجديد؛ أغصان تتمايل، طيور تبتهل، همهمة محركات السيارات، صياح ديك الجيران، وسماء ملبدة.

وأنا أقف هنا أستنشق عبق القهوة وأجر الذكريات. لماذا ما تزال ذكراك حاضرة في صباحاتي الباكرة، رغم كل هذه السنوات؟ توصلت مؤخرًا إلى قناعة أنني يمكنني الاستمرار في العيش دون الحصول على إجابات.

أخبرتني في أول حوار بيننا أن كل ما تعرفينه عن الكويت هو الحرب التي سمعتي عنها قديما من وسائل الإعلام، وسألتني "كيف هي الآن، هل يعيش الناس هناك بأمان؟". لم أسألك عن السبب الذي دفعك إلى الهجرة والاستقرار في أمريكا. كلانا كان يلتمس طريقا جديدا.

لا أتذكر أنك تقرأين الكتب، مع ذلك كنتِ تزاولين الحياة بسعادة، متقوقعة داخل عالمك الصغير؛ تتقنين الطبخ، تحرصين على عدم استخدام البلاستك حتى لا تتضرر البيئة، تكتفين بكأس واحدة من النبيذ الأحمر حين تذاكرين في المساء، تلعبين التنس أيام السبت، تجيدين الرسم على مناديل المقاهي، وتضحكين ببراءة. هل أخبرتك كم كان شعرك ساحرا حين تداعبه الريح وكم كانت ابتسامتك آسرة؟

الحياة مليئة بأشياء جميلة، أنت واحدة من تلك الأشياء. لكن لكل شيء، مهما كان جميلا، نهاية. هكذا هي الحياة. كان لزاما عليّ أن أعود. بينما بقيتِ أنتِ هناك. عرفتُ أنكِ تعملين في وظيفة لا تتعلق بدراستك. وصرتِ أُمّاً لطفلتين. هل تذكرين محاولتي الفاشلة في تعلم العزف على الكمان، هل ما زلتِ تحتفظين به؟ كيف تقضين أيامك الآن؟ هل ما زلت تخيطين بنفسك ملابس الهالوين التنكرية؟ هل سمعتِ ألبوم جيسون مراز الجديد؟ هل تتسوقين في المجمع التجاري المقابل لمبنى سكني؟ هل تؤمنين بالمعجزات؛ أن نلتقي مصادفة في ظهيرة أحد الأيام ثم نسير في محاذاة الشاطئ نستذكر كل الأشياء المجنونة التي ارتكبناها معًا إلى أن تغيب الشمس؟

أنا توقفت عن محاولة النسيان، وفي الوقت نفسه يمكنني الاستمرار في العيش دون الحصول على إجابات. أما الآن فكل ما أريده هو نافذة أرمي فيها الأمس بكل ما فيه، أحبسك داخل إطارها، وكلما اشتقت إليك سأحمل كوب قهوتي الساخنة قبل طلوع الشمس وأستنشق هواءً نقيًا ممزوجا بعبق القهوة التي سوف أحتسيها مع طيفك، حيث تركتك، داخل النافذة.

حلم الدولة العربية: الأنباط




ثمة قبائل عربية كثيرة تتخذ الصحراء مراعي لقطعانها، ولكن الأنباط يفوقون الجميع بثرائهم.
ديودور الصقلي




يعتبر الأنباط مجموعة من القبائل البدوية العربية، والتي هاجرت من أنحاء مختلفة من الجزيرة العربية إلى الشمال الغربي (الأردن)، خلال القرن السادس قبل الميلاد، وزاحمت الأدوميين حتى حلّت محلهم. كانوا يبحثون في بادئ الأمر عن مراعي لماشيتهم، وحين انتبهوا لأهمية موقعهم الجديد تجارياً، استقروا فيه واتخذوا من مدينة پترا عاصمة لهم. وقد جنوا ثروات هائلة من خلال تنظيم وحماية القوافل التجارية التي تفد إليهم من الصين، والهند، واليمن لتنقل بضائعها إلى مصر وأوروبا. ساعدهم في ذلك تميُّز موقعهم الجغرافي بتوسّطه ميناء غزة المطل على البحر الأبيض المتوسط، وميناء العقبة المطل على البحر الأحمر. فاحتكروا تجارة البخور، والعطور، والتوابل، وفرضوا رسوماً على البضائع.
بالإضافة إلى ذلك كانوا مهَرَة في استخراج الأسفلت من البحر الميت لبيعه على المصريين، الذين يستخدمونه في حماية السفن، وعملية التحنيط. تاجروا بالبلسم الذي يستخرجونه من أشجار البلسم في أريحا، والذي كان يستخدم في صناعة العقاقير الطبية، ويُعتقد آنذاك أنه لم يكن متوفراً في أي مكانٍ آخر. فيما تأثرت تجارتهم بشكل كبير سلباً حين اكتشف المصريون الرياح الموسمية وصاروا يعتمدون على البحر في نقل البضائع.
اختلفت الآراء في تسميتهم، فقد تكون تسمية الأنباط أُطلقت على إحدى القبائل التي شكلت هذه المجموعة المهاجرة ناحية الأردن، ثم غلب الاسم على الجميع. أما عاصمتهم، پترا، فهي تسمية لاتينية تعني الصخر، ويقابلها اسم سَلع في العبرية، واسم الرقيم في العربية، واللذان يشيران إلى نفس المعنى. أما التسمية العربية الحالية "البتراء" فهي غير صحيحة.
كان أول ذكر للأنباط في التاريخ عام 312ق.م. وأول ملك نبطي وصلت إلينا معلومات عنه فكان في 169ق.م. وانتهت مملكتهم حين ضمتها الإمبراطورية الرومانية عام 106م لتصبح تابعة لها. وبذلك تحول مسار القوافل التجارية تدريجياً ناحية تَدمُر.
يعبد الأنباط عدة آلهة، أهمها ذو الشرى، الذي يُصوّر على هيئة حجر أسود غير منحوت، ويتخذ شكلاً مكعباً. وقد تناقلت روايات بأنه كان إلهاً معبوداً عند الأدوميين من قبل. ومن الآلهة الأخرى أيضاً العُزّى وهي أم ذو الشرى. وكذلك الإله شيَع القوم، وهو الذي لا يشرب الخمر ويظل متيقظاً يحرس القوافل. وأيضاً منَاة وكيشا وهُبَل. وهذه الفكرة -الاعتقاد بكينونة الإله في الحجر- من الأفكار القديمة التي قد تكون تراثاً مشتركاً للساميين. ومما بقي من تلك الآثار؛ الصخرة الموجودة في القدس، والتي تعد أكثر الأماكن المقدسة في فلسطين منذ أيام سليمان.
كانوا يكتبون بالآرامية، التي كانت آنذاك اللغة الدولية للتجارة والدبلوماسية، حيث كانت مستخدمة في الإمبراطورية الفارسية وعند العبرانيين. إلا أنهم كانوا عرباً يعبدون الآلهة التي تعبدها القبائل العربية مثل اللات والعزى ومناة، ويتخذون أسماء عربية مثل حارثة، ومالك، وأحمد، وهاجر، وعُبادة. يحب الأنباط الثياب ذات اللون الأرجواني، ويقتصرون في الزواج على امرأة واحدة.




أنتيگونس يطمع في ثروات الأنباط
(پترا، 312ق.م)



توفي الاسكندر المقدوني بعد فتوحات واسعة امتدت من حدود اليونان إلى ما وراء إيران، تاركاً أراضٍ شاسعة تقاسمها قادته من بعده. تسببت تلك الأراضي بنزاعات بين القادة، مما أنهكهم مالياً وعسكرياً. كان منهم اللواء المقدوني أنتيگونَس الأعور (Antigonus the One-eyed) الذي كانت من نصيبه آسيا الصغرى وشمال سوريا.
كانت ثروات الأنباط تتنامى في ذلك الوقت جرّاء ما يحصلون عليه من رسوم على القوافل التجارية المارة على مناطقهم، والمتجهة إلى أوروبا ومصر. حيث يؤمِّن لها الأنباط مسيرتها، ويوفرون لها ما يلزمها من مشارب ومُؤن مقابل رسوم. يصل عدد القوافل أحياناً إلى ثلاثين ألف بعير، محملين بالبخور، والمرّ والعطور، ولم يكتف الأنباط بالدور التنظيمي لهذه التجارة بل أيضاً كانوا يشترون ويبيعون بأنفسهم. وهذا ما جعل الطمع يشتعل في نفس أنتيگونس تجاه ثروات الأنباط. وفكّر بوسيلة يجني بها ثرواتهم دون مواجهتهم بشكل مباشر. فأرسل إليهم أحد قادته، أثنايوس.
كان لأثنايوس دراية بنمط حياة الأنباط. يعرف جيداً أنهم في وقت محدد من كل عام يسافرون شمالاً ناحية مملكة يهودا، للتبادل التجاري مع التجار القادمين من البحر المتوسط عبر ميناء غزة، تاركين نساءهم وأطفالهم وشيوخهم غير محصنين في پترا. قرر أثنايوس استغلال فترات غيابهم تلك ومهاجمتهم خلالها. جهز أربعة آلاف راجل، وستمائة فارس، واستغرقوا ثلاث ليال للوصول إلى پترا. هاجموا المدينة ليلاً؛ قتلوا الشيوخ وسَبوا النساء والأطفال، وحملوا أطناناً من البخور والفضة، وفرّوا هاربين مبتهجين بهذه الغنائم السهلة.
بينما كان جيش أثنايوس في طريقه لمهاجمة پترا، شاهده بعض المارة الذين عرفوا مساره ومقصده. فانطلقوا يخبرون الأنباط لينقذوا مدينتهم. وصلت أسرع مجموعة من الأنباط إلى المدينة بعد ساعات قليلة من مغادرة جيش أثنايوس، وعرفوا بما وقع من الجرحى، فأجمعوا جيشا ليلحق بالمعتدين. توقع أثنايوس أن يستغرق الأنباط المتفرقون عدة أيام حتى يُنظِّموا أنفسهم ويسيرون في طلبه، فبات أول ليلة في معسكر صحراوي قليل التحصين. وقد بلغ جيشه درجة من التعب، حيث استطاعت مجموعة من الأسرى الفرار أثناء نوم الجيش دون أن يتنبّه لهم أحد. وفي تلك الليلة انقضّ ثمانية ألف مقاتل من الأنباط على جيش أثنايوس الغارق في نومه، وقتلوهم جميعاً باستثناء خمسين فارساً تمكنوا من الفرار.
يُعرف الأنباط بأنهم مسالمون بطبعهم، فتجنب الحروب وتوفير الأمن يعد أهم عامل لنجاح تجارتهم. ولحرصهم على ذلك أرسلوا رسولاً إلى أنتيگونس يخبرونه بأنهم لا يريدون الحرب، ولم يقاتلوا جيش أثنايوس إلا حين دُفعوا إلى ذلك دفعاً. فتظاهر أنتيگونس بقبول تبريرهم وادّعى أن أثنايوس تصرّف من قبل نفسه دون علمه، وأنهم بلا شك معذورون فيما فعلوه. رغم ذلك؛ بقي في نفوسهم شيء من الريبة تجاه أنتيگونس.



لا يوجد أفضل من الصحراء لتقدم الحماية من الهجمات الأجنبية. فأي جيش يزحف باتجاه جماعة تعيش في الصحراء مآله إلى الانقسام، والتشتت، والضياع بين رمال لامنتهية في كل الجهات. وأفضل طريقة لمهاجمة أي جماعة عربية متحصنة بالصحراء تكون من خلال محاصرتهم في محل إقامتهم دون ترك مجال للهرب. كانت هذه خطة ديمتريوس ابن أنتيگونس حينما قرر مهاجمة الأنباط للمرة الثانية. فتزعّم جيشاً من أربعة آلاف راجل، وأربعة آلاف فارس. ووفّر للجيش طعاماً معدّاً مسبقاً حتى لا يضطر إلى الانشغال في البحث عن الطعام أو إشعال النار، حتى لا يُكشف أمرهم. ثم سار بالجيش سريعاً باتجاه پترا على أمل مباغتتهم، إلا أن الأنباط هذه المرة أخذوا احتياطهم.
بعد الاعتداء الأخير من أثنايوس، شرع الأنباط في ابتكار وسيلة تتيح لهم معرفة قدوم أي جيش يهاجمهم بسرعة تكفيهم للاستعداد. فنصبوا محطات مراقبة على مجموعة من التلال والمرتفعات لتراقب أي تحرك قادم. فكرة نافعة. فبعد فترة قصيرة لاحظ أحد الرقباء شيئاً، فأشعل النار ليوصل الرسالة إلى الرقيب الذي قبله، والذي بدوره فعل الشيء نفسه حتى وصل الخبر سريعاً إلى پترا. حينها سارع أهل المدينة بحمل ما استطاعوا حمله من البضائع ليخفوها بعيداً في أماكن متوارية في أعالي الجبال. وأخذوا نساءهم وأطفالهم وماشيتهم وانتشروا في الصحراء، لتظل مجموعة من المقاتلين على أهبة الاستعداد لصدّ الغزاة، واستطاعوا أن يتمركزوا في المواضع التي تعطيهم الأفضلية لمواجهة الجيش القادم.
في اليوم الثاني من القتال، بعدما عجز ديمتريوس عن اختراق دفاعاتهم، راسله الأنباط: "ليس من الحكمة في شيء أن يعلن اليونان حرباً على شعب لا يملك ماءً أو خمراً أو حَبّاً، نحن لا نعيش كما يعيش أبناء اليونان، ولا نرغب في أن نصبح عبيداً لهم". قرر ديمتريوس أن يعرض عليهم صلحاً مقابل إعطائه شيئاً من بضائعهم الثمينة على سبيل الجزية وأن يحتجز بعض الرهائن.
لم يحصل ديمتريوس على شيء منهم. وبعدما عجز عن هزيمتهم؛ شرع بتبرير عدم أهمية مناطق الأنباط لمناطق نفوذ أبيه. فليس لديهم حقول قمح، ولا نبيذ، أو أي محاصيل أخرى مما يحتاج إليها اليونانيون. توجه ديمتريوس بعد ذلك شمالاً إلى البحر الميت لمعرفة أماكن الأسفلت. فقد كانت كتل الأسفلت المتصلب تتجمع على سطحه بمساحة تصل من عشرة آلاف إلى ثلاثين ألف قدم مربع، حيث تبدو لمن يراها وكأنها جزيرة. وكان الأنباط يستخرجونه ويبيعونه على المصريين لدخوله في صناعة المومياوات، فيما كان يُستخدم بعد تذويبه كمانع (عازل للماء) للأسطح الخارجية للسفن.
وبّخ أنتيگونس ابنه حينما عرف أنه لم يواجه الأنباط بشكل أكثر حزماً، إلا أنه حين عرف منه أنه اكتشف مكامن وجود الأسفلت أثنى عليه لتمكنه من إيجاد مصدر دخل ممتاز لمملكته.
أرسل ديمتريوس قوة عسكرية إلى البحر الأحمر لتعسكر هناك وتباشر في جمع ومعالجة الأسفلت الذي يصعد إلى السطح من حين إلى آخر. وبالطبع؛ أزعج هذا التصرف القبائل العربية القاطنة بالقرب. فأجمعت جيشاً من عدة آلاف وأمطروا اليونانيين بوابل كثيف من السهام النارية حتى قضوا عليهم. ولعل هذه كانت أول معركة في الشرق الأوسط بهدف الاستيلاء على أحد مشتقات النفط.
بعد كل هذه الخسائر التي تكبدها أنتيگونس، صرف ذهنه عن معاداة الأنباط.



محاولة الاستيلاء على اليمن
(الأنباط، 25ق.م)



تتمتع اليمن بأراضي خصبة، والكثير من البساتين التي تنتج البخور، والمُر، ثم تصدرها شمالاً إلى أوروبا حيث كان الأنباط حلقة الوصل، بالإضافة إلى نقل التوابل وغيرها من البضائع الهندية. وهذا ما جعل أهل سبأ من أغنى سكان الجزيرة العربية، ويعيشون في بذخ جعل الرومان يطلقون عليها اسم البلاد العربية السعيدة (Arabia Felix)، تشمل اليمن وظفار. أسالت هذه الثروات لعاب الإمبراطور الروماني، أوگستس قيصر، الذي وصلته تقارير تفيد بأن في أرض اليمن مخزون كبير من الذهب، لا يعرف اليمنيون كيف يستخرجونه. ولو استطاع أوگستس احتلال اليمن، لصارت في حوزته إحدى أهم مصادر البخور، وأشجار المر، ولامتلك اتصالاً تجارياً مباشراً مع الهند.
حاول أوگستس في البداية أن يهاجم اليمن عبر البحر من خلال إرسال الحاكم الروماني في مصر، إيليوس گالوس. إلا أن قائده أرسل له يخبره بصعوبة المهمة، وأن الحملة العسكرية عبر البرّ أفضل، خاصة إذا ما استعان بمساعدة الأنباط ليرشدوه عبر صحراء الجزيرة العربية.
وحين أرسل أوگستس إلى ملك الأنباط، عبادة الثالث، يخبره بحملته على اليمن، وافق الملك وأخفى ما في نفسه. ووعد بمساعدتهم من خلال توفير كل ما يحتاجون إليه من مساعدة، وتقديم مرشدين ومقاتلين من الأنباط. كان صالح (Syllaeus) وزير الملك عبادة الثالث، دليلاً ومستشاراً للحملة. فأرسل أوگستس عشرة آلاف جندي، وأرسل هيرود ملك يهودا خمسمائة جندي يهودي، وأضاف إليهم ملك الأنباط ألف جندي عربي يترأسهم وزيره، الداهية، صالح.
اقترح صالح في البداية على الرومان أن يُبحروا من مصر إلى ميناء لويكة كومة (Leuke kome) الواقع بالقرب من خليج العقبة، لعدم وجود عدد كاف من الجِمال، ولعدم وجود طرق برية صالحة لمرور هذا الجيش. فحمل جيشه على ظهر مائة وثلاثين سفينة نقل. وكانت النتيجة أن تحطم عدد كبير من هذه السفن التي لم تكن مهيأة لمهمة كهذه، ووصلت السفن السليمة تحمل جنوداً منهكين بعد قضائهم خمسة عشر يوماً في البحر. وعند وصول الجيش إلى ميناء لويكة كومة؛ تعرضوا لعدة أمراض بسبب فساد في الطعام والماء، واضطروا لقضاء فصل الصيف ثم الشتاء في الميناء ليتعافوا من المرض. وخلال مدة استقرارهم في الميناء؛ أنشأوا حامية رومانية، وأخذوا ما يقارب خمسة وعشرين في المائة ضرائب من أثمان البضائع التي تدخل الميناء.
ثم ساروا إلى أرض لملك يدعى الحارث (من أقرباء عبادة) فأحسن استقبالهم. ثم ساروا لمدة ثلاثين يوماً في أرض جافة قليلة الزرع حتى وصلوا إلى أرض صحراوية مأهولة بالأعراب تسمى عرارين، يتزعمها شيخ يدعى سابوس (Sabos). ثم استمر الجيش في المسير مدة خمسين يوماً حتى وصل إلى نجران، حيث الأرض الخصبة المزروعة. وقد هرب ملكها قبل وصول الجيش. ثم استمروا في المسير مدة ستة أيام حتى كانت مواجهتم الأولى مع العرب بالقرب من نهر غيل الخارد في الجوف. انتصر الرومان دون خسائر تُذكر. واستسلمت عدة مدن بعد ذلك دون مقاومة. وأبعد ما وصلوا إليه هي مدينة مارسيابا (Marsiaba) التي حاصروها لعدة أيام حتى دخلوها، ولم يلبث أن تركوها لشحّ المياه فيها. كانوا في تلك المنطقة قريبين جداً من أرض التوابل، إلا أنهم قرر أن يعودوا أدراجهم. واستغرقت العودة ستين يوماً. ووصلوا إلى ميناء لويكة كومة، ومنه توجهوا إلى مصر.
كان صالح مرشد الرومان في الجزيرة العربية. وعوضاً عن أن يسير بهم في طريق القوافل حيث الواحات والقرى ومصادر الماء، سار بهم في أشد الطرقات جفافاً. وكان أيليوس گالوس هو القائد الروماني الوحيد الذي أدخل المحاربين الرومان جزيرة العرب. وبعد الإخفاق الذريع لهذه الحملة قرر الرومان ألا يغزوا بأنفسهم مناطق في جزيرة العرب براً، بل طوّروا أسطولهم البحري، وعززوا علاقاتهم مع الحكومات العربية وسادات القبائل، وتحالفوا معهم ليحفظوا مصالحهم الاقتصادية فيها. وترك الرومان بعد هذه الحملة الفاشلة عداوة اليمنيين الذين استمروا في التحالف مع أعداء الرومان، الفرس واليهود.