حلم الدولة العربية: الأنباط




ثمة قبائل عربية كثيرة تتخذ الصحراء مراعي لقطعانها، ولكن الأنباط يفوقون الجميع بثرائهم.
ديودور الصقلي




يعتبر الأنباط مجموعة من القبائل البدوية العربية، والتي هاجرت من أنحاء مختلفة من الجزيرة العربية إلى الشمال الغربي (الأردن)، خلال القرن السادس قبل الميلاد، وزاحمت الأدوميين حتى حلّت محلهم. كانوا يبحثون في بادئ الأمر عن مراعي لماشيتهم، وحين انتبهوا لأهمية موقعهم الجديد تجارياً، استقروا فيه واتخذوا من مدينة پترا عاصمة لهم. وقد جنوا ثروات هائلة من خلال تنظيم وحماية القوافل التجارية التي تفد إليهم من الصين، والهند، واليمن لتنقل بضائعها إلى مصر وأوروبا. ساعدهم في ذلك تميُّز موقعهم الجغرافي بتوسّطه ميناء غزة المطل على البحر الأبيض المتوسط، وميناء العقبة المطل على البحر الأحمر. فاحتكروا تجارة البخور، والعطور، والتوابل، وفرضوا رسوماً على البضائع.
بالإضافة إلى ذلك كانوا مهَرَة في استخراج الأسفلت من البحر الميت لبيعه على المصريين، الذين يستخدمونه في حماية السفن، وعملية التحنيط. تاجروا بالبلسم الذي يستخرجونه من أشجار البلسم في أريحا، والذي كان يستخدم في صناعة العقاقير الطبية، ويُعتقد آنذاك أنه لم يكن متوفراً في أي مكانٍ آخر. فيما تأثرت تجارتهم بشكل كبير سلباً حين اكتشف المصريون الرياح الموسمية وصاروا يعتمدون على البحر في نقل البضائع.
اختلفت الآراء في تسميتهم، فقد تكون تسمية الأنباط أُطلقت على إحدى القبائل التي شكلت هذه المجموعة المهاجرة ناحية الأردن، ثم غلب الاسم على الجميع. أما عاصمتهم، پترا، فهي تسمية لاتينية تعني الصخر، ويقابلها اسم سَلع في العبرية، واسم الرقيم في العربية، واللذان يشيران إلى نفس المعنى. أما التسمية العربية الحالية "البتراء" فهي غير صحيحة.
كان أول ذكر للأنباط في التاريخ عام 312ق.م. وأول ملك نبطي وصلت إلينا معلومات عنه فكان في 169ق.م. وانتهت مملكتهم حين ضمتها الإمبراطورية الرومانية عام 106م لتصبح تابعة لها. وبذلك تحول مسار القوافل التجارية تدريجياً ناحية تَدمُر.
يعبد الأنباط عدة آلهة، أهمها ذو الشرى، الذي يُصوّر على هيئة حجر أسود غير منحوت، ويتخذ شكلاً مكعباً. وقد تناقلت روايات بأنه كان إلهاً معبوداً عند الأدوميين من قبل. ومن الآلهة الأخرى أيضاً العُزّى وهي أم ذو الشرى. وكذلك الإله شيَع القوم، وهو الذي لا يشرب الخمر ويظل متيقظاً يحرس القوافل. وأيضاً منَاة وكيشا وهُبَل. وهذه الفكرة -الاعتقاد بكينونة الإله في الحجر- من الأفكار القديمة التي قد تكون تراثاً مشتركاً للساميين. ومما بقي من تلك الآثار؛ الصخرة الموجودة في القدس، والتي تعد أكثر الأماكن المقدسة في فلسطين منذ أيام سليمان.
كانوا يكتبون بالآرامية، التي كانت آنذاك اللغة الدولية للتجارة والدبلوماسية، حيث كانت مستخدمة في الإمبراطورية الفارسية وعند العبرانيين. إلا أنهم كانوا عرباً يعبدون الآلهة التي تعبدها القبائل العربية مثل اللات والعزى ومناة، ويتخذون أسماء عربية مثل حارثة، ومالك، وأحمد، وهاجر، وعُبادة. يحب الأنباط الثياب ذات اللون الأرجواني، ويقتصرون في الزواج على امرأة واحدة.




أنتيگونس يطمع في ثروات الأنباط
(پترا، 312ق.م)



توفي الاسكندر المقدوني بعد فتوحات واسعة امتدت من حدود اليونان إلى ما وراء إيران، تاركاً أراضٍ شاسعة تقاسمها قادته من بعده. تسببت تلك الأراضي بنزاعات بين القادة، مما أنهكهم مالياً وعسكرياً. كان منهم اللواء المقدوني أنتيگونَس الأعور (Antigonus the One-eyed) الذي كانت من نصيبه آسيا الصغرى وشمال سوريا.
كانت ثروات الأنباط تتنامى في ذلك الوقت جرّاء ما يحصلون عليه من رسوم على القوافل التجارية المارة على مناطقهم، والمتجهة إلى أوروبا ومصر. حيث يؤمِّن لها الأنباط مسيرتها، ويوفرون لها ما يلزمها من مشارب ومُؤن مقابل رسوم. يصل عدد القوافل أحياناً إلى ثلاثين ألف بعير، محملين بالبخور، والمرّ والعطور، ولم يكتف الأنباط بالدور التنظيمي لهذه التجارة بل أيضاً كانوا يشترون ويبيعون بأنفسهم. وهذا ما جعل الطمع يشتعل في نفس أنتيگونس تجاه ثروات الأنباط. وفكّر بوسيلة يجني بها ثرواتهم دون مواجهتهم بشكل مباشر. فأرسل إليهم أحد قادته، أثنايوس.
كان لأثنايوس دراية بنمط حياة الأنباط. يعرف جيداً أنهم في وقت محدد من كل عام يسافرون شمالاً ناحية مملكة يهودا، للتبادل التجاري مع التجار القادمين من البحر المتوسط عبر ميناء غزة، تاركين نساءهم وأطفالهم وشيوخهم غير محصنين في پترا. قرر أثنايوس استغلال فترات غيابهم تلك ومهاجمتهم خلالها. جهز أربعة آلاف راجل، وستمائة فارس، واستغرقوا ثلاث ليال للوصول إلى پترا. هاجموا المدينة ليلاً؛ قتلوا الشيوخ وسَبوا النساء والأطفال، وحملوا أطناناً من البخور والفضة، وفرّوا هاربين مبتهجين بهذه الغنائم السهلة.
بينما كان جيش أثنايوس في طريقه لمهاجمة پترا، شاهده بعض المارة الذين عرفوا مساره ومقصده. فانطلقوا يخبرون الأنباط لينقذوا مدينتهم. وصلت أسرع مجموعة من الأنباط إلى المدينة بعد ساعات قليلة من مغادرة جيش أثنايوس، وعرفوا بما وقع من الجرحى، فأجمعوا جيشا ليلحق بالمعتدين. توقع أثنايوس أن يستغرق الأنباط المتفرقون عدة أيام حتى يُنظِّموا أنفسهم ويسيرون في طلبه، فبات أول ليلة في معسكر صحراوي قليل التحصين. وقد بلغ جيشه درجة من التعب، حيث استطاعت مجموعة من الأسرى الفرار أثناء نوم الجيش دون أن يتنبّه لهم أحد. وفي تلك الليلة انقضّ ثمانية ألف مقاتل من الأنباط على جيش أثنايوس الغارق في نومه، وقتلوهم جميعاً باستثناء خمسين فارساً تمكنوا من الفرار.
يُعرف الأنباط بأنهم مسالمون بطبعهم، فتجنب الحروب وتوفير الأمن يعد أهم عامل لنجاح تجارتهم. ولحرصهم على ذلك أرسلوا رسولاً إلى أنتيگونس يخبرونه بأنهم لا يريدون الحرب، ولم يقاتلوا جيش أثنايوس إلا حين دُفعوا إلى ذلك دفعاً. فتظاهر أنتيگونس بقبول تبريرهم وادّعى أن أثنايوس تصرّف من قبل نفسه دون علمه، وأنهم بلا شك معذورون فيما فعلوه. رغم ذلك؛ بقي في نفوسهم شيء من الريبة تجاه أنتيگونس.



لا يوجد أفضل من الصحراء لتقدم الحماية من الهجمات الأجنبية. فأي جيش يزحف باتجاه جماعة تعيش في الصحراء مآله إلى الانقسام، والتشتت، والضياع بين رمال لامنتهية في كل الجهات. وأفضل طريقة لمهاجمة أي جماعة عربية متحصنة بالصحراء تكون من خلال محاصرتهم في محل إقامتهم دون ترك مجال للهرب. كانت هذه خطة ديمتريوس ابن أنتيگونس حينما قرر مهاجمة الأنباط للمرة الثانية. فتزعّم جيشاً من أربعة آلاف راجل، وأربعة آلاف فارس. ووفّر للجيش طعاماً معدّاً مسبقاً حتى لا يضطر إلى الانشغال في البحث عن الطعام أو إشعال النار، حتى لا يُكشف أمرهم. ثم سار بالجيش سريعاً باتجاه پترا على أمل مباغتتهم، إلا أن الأنباط هذه المرة أخذوا احتياطهم.
بعد الاعتداء الأخير من أثنايوس، شرع الأنباط في ابتكار وسيلة تتيح لهم معرفة قدوم أي جيش يهاجمهم بسرعة تكفيهم للاستعداد. فنصبوا محطات مراقبة على مجموعة من التلال والمرتفعات لتراقب أي تحرك قادم. فكرة نافعة. فبعد فترة قصيرة لاحظ أحد الرقباء شيئاً، فأشعل النار ليوصل الرسالة إلى الرقيب الذي قبله، والذي بدوره فعل الشيء نفسه حتى وصل الخبر سريعاً إلى پترا. حينها سارع أهل المدينة بحمل ما استطاعوا حمله من البضائع ليخفوها بعيداً في أماكن متوارية في أعالي الجبال. وأخذوا نساءهم وأطفالهم وماشيتهم وانتشروا في الصحراء، لتظل مجموعة من المقاتلين على أهبة الاستعداد لصدّ الغزاة، واستطاعوا أن يتمركزوا في المواضع التي تعطيهم الأفضلية لمواجهة الجيش القادم.
في اليوم الثاني من القتال، بعدما عجز ديمتريوس عن اختراق دفاعاتهم، راسله الأنباط: "ليس من الحكمة في شيء أن يعلن اليونان حرباً على شعب لا يملك ماءً أو خمراً أو حَبّاً، نحن لا نعيش كما يعيش أبناء اليونان، ولا نرغب في أن نصبح عبيداً لهم". قرر ديمتريوس أن يعرض عليهم صلحاً مقابل إعطائه شيئاً من بضائعهم الثمينة على سبيل الجزية وأن يحتجز بعض الرهائن.
لم يحصل ديمتريوس على شيء منهم. وبعدما عجز عن هزيمتهم؛ شرع بتبرير عدم أهمية مناطق الأنباط لمناطق نفوذ أبيه. فليس لديهم حقول قمح، ولا نبيذ، أو أي محاصيل أخرى مما يحتاج إليها اليونانيون. توجه ديمتريوس بعد ذلك شمالاً إلى البحر الميت لمعرفة أماكن الأسفلت. فقد كانت كتل الأسفلت المتصلب تتجمع على سطحه بمساحة تصل من عشرة آلاف إلى ثلاثين ألف قدم مربع، حيث تبدو لمن يراها وكأنها جزيرة. وكان الأنباط يستخرجونه ويبيعونه على المصريين لدخوله في صناعة المومياوات، فيما كان يُستخدم بعد تذويبه كمانع (عازل للماء) للأسطح الخارجية للسفن.
وبّخ أنتيگونس ابنه حينما عرف أنه لم يواجه الأنباط بشكل أكثر حزماً، إلا أنه حين عرف منه أنه اكتشف مكامن وجود الأسفلت أثنى عليه لتمكنه من إيجاد مصدر دخل ممتاز لمملكته.
أرسل ديمتريوس قوة عسكرية إلى البحر الأحمر لتعسكر هناك وتباشر في جمع ومعالجة الأسفلت الذي يصعد إلى السطح من حين إلى آخر. وبالطبع؛ أزعج هذا التصرف القبائل العربية القاطنة بالقرب. فأجمعت جيشاً من عدة آلاف وأمطروا اليونانيين بوابل كثيف من السهام النارية حتى قضوا عليهم. ولعل هذه كانت أول معركة في الشرق الأوسط بهدف الاستيلاء على أحد مشتقات النفط.
بعد كل هذه الخسائر التي تكبدها أنتيگونس، صرف ذهنه عن معاداة الأنباط.



محاولة الاستيلاء على اليمن
(الأنباط، 25ق.م)



تتمتع اليمن بأراضي خصبة، والكثير من البساتين التي تنتج البخور، والمُر، ثم تصدرها شمالاً إلى أوروبا حيث كان الأنباط حلقة الوصل، بالإضافة إلى نقل التوابل وغيرها من البضائع الهندية. وهذا ما جعل أهل سبأ من أغنى سكان الجزيرة العربية، ويعيشون في بذخ جعل الرومان يطلقون عليها اسم البلاد العربية السعيدة (Arabia Felix)، تشمل اليمن وظفار. أسالت هذه الثروات لعاب الإمبراطور الروماني، أوگستس قيصر، الذي وصلته تقارير تفيد بأن في أرض اليمن مخزون كبير من الذهب، لا يعرف اليمنيون كيف يستخرجونه. ولو استطاع أوگستس احتلال اليمن، لصارت في حوزته إحدى أهم مصادر البخور، وأشجار المر، ولامتلك اتصالاً تجارياً مباشراً مع الهند.
حاول أوگستس في البداية أن يهاجم اليمن عبر البحر من خلال إرسال الحاكم الروماني في مصر، إيليوس گالوس. إلا أن قائده أرسل له يخبره بصعوبة المهمة، وأن الحملة العسكرية عبر البرّ أفضل، خاصة إذا ما استعان بمساعدة الأنباط ليرشدوه عبر صحراء الجزيرة العربية.
وحين أرسل أوگستس إلى ملك الأنباط، عبادة الثالث، يخبره بحملته على اليمن، وافق الملك وأخفى ما في نفسه. ووعد بمساعدتهم من خلال توفير كل ما يحتاجون إليه من مساعدة، وتقديم مرشدين ومقاتلين من الأنباط. كان صالح (Syllaeus) وزير الملك عبادة الثالث، دليلاً ومستشاراً للحملة. فأرسل أوگستس عشرة آلاف جندي، وأرسل هيرود ملك يهودا خمسمائة جندي يهودي، وأضاف إليهم ملك الأنباط ألف جندي عربي يترأسهم وزيره، الداهية، صالح.
اقترح صالح في البداية على الرومان أن يُبحروا من مصر إلى ميناء لويكة كومة (Leuke kome) الواقع بالقرب من خليج العقبة، لعدم وجود عدد كاف من الجِمال، ولعدم وجود طرق برية صالحة لمرور هذا الجيش. فحمل جيشه على ظهر مائة وثلاثين سفينة نقل. وكانت النتيجة أن تحطم عدد كبير من هذه السفن التي لم تكن مهيأة لمهمة كهذه، ووصلت السفن السليمة تحمل جنوداً منهكين بعد قضائهم خمسة عشر يوماً في البحر. وعند وصول الجيش إلى ميناء لويكة كومة؛ تعرضوا لعدة أمراض بسبب فساد في الطعام والماء، واضطروا لقضاء فصل الصيف ثم الشتاء في الميناء ليتعافوا من المرض. وخلال مدة استقرارهم في الميناء؛ أنشأوا حامية رومانية، وأخذوا ما يقارب خمسة وعشرين في المائة ضرائب من أثمان البضائع التي تدخل الميناء.
ثم ساروا إلى أرض لملك يدعى الحارث (من أقرباء عبادة) فأحسن استقبالهم. ثم ساروا لمدة ثلاثين يوماً في أرض جافة قليلة الزرع حتى وصلوا إلى أرض صحراوية مأهولة بالأعراب تسمى عرارين، يتزعمها شيخ يدعى سابوس (Sabos). ثم استمر الجيش في المسير مدة خمسين يوماً حتى وصل إلى نجران، حيث الأرض الخصبة المزروعة. وقد هرب ملكها قبل وصول الجيش. ثم استمروا في المسير مدة ستة أيام حتى كانت مواجهتم الأولى مع العرب بالقرب من نهر غيل الخارد في الجوف. انتصر الرومان دون خسائر تُذكر. واستسلمت عدة مدن بعد ذلك دون مقاومة. وأبعد ما وصلوا إليه هي مدينة مارسيابا (Marsiaba) التي حاصروها لعدة أيام حتى دخلوها، ولم يلبث أن تركوها لشحّ المياه فيها. كانوا في تلك المنطقة قريبين جداً من أرض التوابل، إلا أنهم قرر أن يعودوا أدراجهم. واستغرقت العودة ستين يوماً. ووصلوا إلى ميناء لويكة كومة، ومنه توجهوا إلى مصر.
كان صالح مرشد الرومان في الجزيرة العربية. وعوضاً عن أن يسير بهم في طريق القوافل حيث الواحات والقرى ومصادر الماء، سار بهم في أشد الطرقات جفافاً. وكان أيليوس گالوس هو القائد الروماني الوحيد الذي أدخل المحاربين الرومان جزيرة العرب. وبعد الإخفاق الذريع لهذه الحملة قرر الرومان ألا يغزوا بأنفسهم مناطق في جزيرة العرب براً، بل طوّروا أسطولهم البحري، وعززوا علاقاتهم مع الحكومات العربية وسادات القبائل، وتحالفوا معهم ليحفظوا مصالحهم الاقتصادية فيها. وترك الرومان بعد هذه الحملة الفاشلة عداوة اليمنيين الذين استمروا في التحالف مع أعداء الرومان، الفرس واليهود.