قصة الإنترنت


Internet:  absolute communication, absolute isolation.  ~Paul Carvel


ما قبل الإنترنت
كانت الحواسيب, قبل ظهور الإنترنت, تعمل منفصلة عن بعضها بلا مشاركة للمعلومات, وكانت هناك مجموعة من الأفكار للإستفادة من المعلومات بصورة أفضل والربط بين الحواسيب كي لا يقتصر استخدامها فقط لمعالجة البيانات بصورة منعزلة عن بعضها.

كان للمؤلف ورجل الأعمال بول اوتلي محاولات لتسهيل الوصول إلى المعرفة في بداية القرن العشرين مثل محاولته لإنشاء موسوعة مطبوعة بالكامل على ميكروفيلم. وفي 1934 ألف كتابا يتحدث عن تصوره لمستقبل الكتاب الذي توقع أن يكون مرتبطا مع الهاتف والتلفزيون, ورسم مخططا لعمل شبكة عالمية باستخدام بعض التلسكوبات الكهربائية (كما أسماها) لتسمح لأي شخص من البحث في ملايين الوثائق والصور والأفلام المرتبط ببعضها البعض, وأيضا مشاركة الملفات وإرسال الرسائل بين المستخدمين فيما أسماه بالشبكة. ويصف هذا العالم المتصل بقوله: "سيتمكن أي إنسان من تأمل كل الكون وهو جالس على كرسيه المتحرك". يرجع البعض تاريخيا في نشأة فكرة الويب إلى بول أوتلي.





فكرة أخرى جاء بها المهندس فانيفر بوش في منتصف الأربيعينات من القرن الماضي, وكانت فكرته عبارة عن نظام لإدارة المعلومات متصل بالمكتبة ويستخدم تقنية شبيهة بالنصوص الفائقة Hypertext  لتخزين المعلومات والحصول عليها في أي وقت ليستطيع أي شخص من تخزين كل كتبه وسجلاته فيه,  وأسماه ميميكس. وهذا التصور الذي قام بنشره بوش في 1945 في إحدى مقالاته الشهيرة كان له تأثير لاحقا على تيد نيلسون ودوغلاس إنغلبرت  لتطوير النصوص الفائقة (بشكل مستقل عن بعضهما) والتي استخدمها تيم بيرنرز لي في إنشاء الويب.









وكالة المشاريع والأبحاث المتقدمة
في نهاية الخمسينيات, وبعد قيام روسيا بإطلاق قمرها الصناعي سبوتنك في 1957 قام الرئيس الأمريكي ايزنهاور بإنشاء وكالة المشاريع والأبحاث المتقدمة (داربا) لتكون تابعة لوزارة الدفاع بهدف القيام بأبحاث مبتكرة وطويلة المدى بميزانية أولى تقدر بملياري دولار.
وفي عام 1962 تم إنشاء مكتب تكنولوجيا معالجة المعلومات ليقوم بأبحاث متعلقة بعلوم الحاسوب, وترأسه ليكليدر الذي كانت له رؤية مسبقا لعمل شبكة مجرية Galactic Network يستطيع أي شخص عن طريقها الحصول على المعلومات مهما كان موقعه. وفي منصبه عمل على ربط حواسيب وكالة الأبحاث بشبكة واحدة عرفت فيما بعد بـ أربا نت والتي شكلت نواة الانترنت لاحقا.


في البدء كانت المعايير
كل حاسوب, في الستينات, كان يعرض المعلومات بطريقة مختلفة عن الآخر بسبب تصميمه المغلق أو المملوك (Closed or Proprietary Architecture), ولهذا قامت الحكومة الأمريكية في 1963 بوضع معيار موحد للبيانات (للأحرف الإنجليزية والأرقام وعلامات الترقيم) عرف باسم ASCII لتتمكن الحواسيب بعد ذلك من قراءة المعلومات بصورة موحدة.


هل الانترنت أنشأت لأهداف عسكرية؟
من الأخطاء الشائعة بصورة واسعة القول بأن وزارة الدفاع الأمريكية أنشأت الانترنت لإيجاد شبكة تستطيع التواصل في حال وقوع هجوم نووي على الولايات المتحدة الأمريكية. هذه المقولة انتشرت كثيرا إلا أنها غير صحيحة, ووقع هذا اللبس لأن أثناء القيام بعمل الأربانت كان بول باران, وهو أحد الباحثين في مؤسسة راند, يعمل على تطوير شبكة للاتصالات تستطيع العمل في حال وقوع هجوم نووي, وكان السلاح الجوي الأمريكي هو الذي يمول أبحاثه وليست أربا. فصمم الشبكة الموزعة خلافا للشبكة المركزية أو الشبكة اللامركزية واللتان تعملان بطريقة يمكن أن تتعرض للتوقف في حال حدث عطل بأجزاء معينة منها. بعكس الشبكة الموزعة التي لها بنية متشابكة تضمن لها استمرار العمل في حال تعرضت أجزاء منها للتوقف.







بداية التنفيذ
عندما قامت وكالة المشاريع والأبحاث المتقدمة بعرض الفكرة على الشركات التقنية في ذلك الوقت لعمل شبكة بين الحواسيب, كان رد أغلب الشركات بأنها غير ممكنة, ومنهم شركة آي بي أم التي اعتبرتها مهمة مستحيلة لأنها ستكلف مبالغ هائلة جدا.
فالحواسيب كانت تستخدم لغات وأنظمة مختلفة عن بعضها, وليتم عمل شبكة بينها يجب على كل حاسوب أن يخاطب الحاسوب الاخر بنفس لغته, وتطبيق ذلك صعب جدا, وكذلك كان للحواسيب مهام كثيرة لتعمل عليها, ومعالجة الرسائل الواردة وفرزها سيزيد من المهام التي تقوم بها. ولحل هذه المشكلة تم عمل حواسيب صغيرة Mini Computers يتم وضعها بين خط الهاتف والحاسوب المراد ادخاله في الشبكة, وتتحدث هذه الحواسيب الصغيرة بين بعضها بلغة مشتركة وكان عليها فقط تعلم لغة واحدة وهي لغة الحاسوب الذي ستتصل به, ومهمة هذه الحواسيب الصغيرة الربط بين بقية الحواسيب في شبكة واحدة واستقبال الرسائل لتدقيقها وفرزها وارسالها لوجهتها النهائية وعرفت بإسم Interface Message Processor وتعتبر الجيل الأول من الراوتر (الذي يوجه حزم البيانات بين الحواسيب).





وهذه الحواسيب التي تدير الشبكة (IMPs) كانت تتواصل فيما بينها بطريقة جديدة نسبيا في ذلك الوقت تعرف بـ Packet Switching بحيث يتم تقسيم كل رسالة إلى حزم صغيرة تحتوي كل منها على عنوانين (من وإلى)  وتنتقل كل حزمة إلى الجهة المستقبلة باختيار أفضل وأسرع طريق لها ثم تتجمع عند الحاسوب المستقبل ويتم إعادة ترتيبها. وهذه العملية تتم بسهولة لأن البيانات التي ترسلها الحواسيب رقمية, والبيانات الرقمية يسهل نسخها وتقسيمها إلى حزم ثم إعادتها إلى هيئتها الأولى بدون أن تتضرر.


أول رسالة عبر الانترنت
أول رسالة تم إرسالها عبر شبكة الأربانت (أو الانترنت) قام بها الطالب تشارلي كلين من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس في اكتوبر 1969 مع حاسوب موجود في مركز الأبحاث بستانفورد, وحاول الاتصال بالحاسوب الاخر عن طريق عمل log on وفي أثناء استعماله للكيبورد كان يتواصل هاتفيا مع الجهة الأخرى وبعد كتابته لعدد من التعليمات في الحاسوب سأل الشخص الذي عند الحاسوب الاخر هل ظهر عندك حرف L؟
أجابه: نعم
ثم أرسل الحرف التالي وسأله هل استلمت حرف O؟
أجابه: نعم
ثم أرسل الحرف الثالث لأول كلمة ترسل عبر الشبكة وسأله عبر الهاتف هل استلمت حرف G؟
لكن هذه المرة حصل خلل قبل ان يصل هذا الحرف, لتكون أول عبارة أرسلت في الانترنت هي Lo. وكانت مناسبة كأول رسالة لأن طريقة لفظها قريبة من كلمة hello.





ثم تكونت الأربانت بين أربع جامعات هي جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس, معهد ستانفورد للأبحاث, جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا و جامعة يوتا وتم تطوير بروتوكول التلنت والأف تي بي في 1971 للتواصل بين الحواسيب في الشبكة وكان استخدامها في البداية محصورا على الجهات الأكاديمية والعسكرية. وبدأت تنضم جهات عديدة للأربانت ووصل عدد المضيفات في 1971 إلى 23 وارتفع إلى 235 في 1982 ثم نتيجة لتزايد عدد الحواسيب الشخصية في منتصف الثمانينات قفز إلى 313000 في 1990.

في 1973 أصبح أكثر من ثلثي البيانات المرسلة في الأربانت لشيء لم يتوقعه مصمموها, وهو البريد الإلكتروني الذي قام راي توملينسون بتطويره في 1972 واختار علامة @ لعناوين البريد. وتعتبر إليزابيث ملكة بريطانيا أول من أرسل بريدا إلكترونيا من الرؤساء والملوك في عام 1976.

ومع تكاثر الشبكات ظهرت مشكلة جديدة وهي أن كل شبكة تستخدم أنظمة وأجهزة مختلفة عن غيرها من الشبكات وحتى الموجهات (IMPs) تختلف عن تلك التي تستعملها الأربانت, فلا يمكن استخدام الموجهات  للربط بين الشبكات بل تستخدم فقط للربط بين الحواسيب. فجاءت فكرة عمل بوابة لكل شبكة بحيث يمكن لكل شبكة أن تستخدم أجهزة IMPs الخاصة بها وتقوم البوابة بمهمة وصل الشبكة مع غيرها من الشبكات. والبوابة عبارة عن جهاز (حاسوب) مثل IMPs موحد بين مختلف الشبكات. وفي أثناء تطوير هذه البوابات استخدمت كلمة "انترنت" لتعني شبكة الشبكات.


TCP/IP
تم تطوير بروتوكول التحكم بالنقل TCP وبروتوكول الإنترنت IP في 1973 وهو عبارة عن مجموعة من البروتوكولات يرمز إليهم بإسم TCP/IP. وطور ليستخدم في نقل البيانات بين مختلف الحواسيب, وتم استعماله في مرحلة تجريبية إلى عام 1983 وهي السنة التي تم فيها تقسيم الأربانت إلى شبكة مدنية للأبحاث وأخرى عسكرية MILNET.

من خصائص هذا البروتوكول أنه يرسل البيانات بغض النظر عن كبر حجمها  بتقسيمها إلى أقسام صغيرة Segments ثم يضيف بعض المعلومات التي تحتاجها الشبكة لتسلمها إلى وجهتها على كل قسم مثل عنوان المرسل والمستقبل فيصبح هذا القسم الصغير حزمة Packet ترسل عبر الشبكة.


نظام فيوترون
الحصول على المعلومات والأخبار, اللعب, إجراء معاملات بنكية عن طريق لوحة مفاتيح للتلفزيون والتسوق وغيرها من الخدمات كان يوفرها نظام فيوترون من شركة اي تي اند تي عام 1983. هذا النظام الذي جاء مبكرا عن زمنه حصل على 15000 مستخدم في الولايات المتحدة لكنه لم يستمر وتوقف في عام 1984 بعد أن تم انفاق 50 مليون دولار عليه. لعل من سلبيات هذا النظام هو أن المستخدم يكون فقط مستهلكا للمعلومات ولا يستطيع المشاركة في صنعها. ولو كتب لهذا النظام النجاح لتغيرت طريقة استعمالنا للأنترنت كثيرا خاصة وانه كان في ذلك الوقت يستخدم جهاز التلفزيون للاستفادة من خدمات هذه الشبكة, وهي الخطوة التي تسعى كثير من الشركات اليوم ان تقوم بها.





هناك أنظمة أخرى مشابهة لفيوترون يطلق عليهم Videotex وكانوا متوفرين منذ نهاية السبعينيات في بريطانيا مثل نظامي سيفاكس وبريستل. وإن كان تطوير هذه الأنظمة منفصلا عن الإنترنت إلا أنها كانت توفر خدمات متقدمة للمستخدم العادي مقارنة مع الإنترنت.



الويب
الذي سهل الاستخدام التجاري للإنترنت وجعل حتى كبار السن يستخدمونها والأطفال هي الويب التي طورها تيم بيرنر لي عام 1990 في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية بجنيف. كان عمله الرئيسي عبارة عن دمج لعدة تقنيات سابقة مثل النص الفائق الذي قام بتطويره تيد نيلسون في الستينات بالإضافة إلى الإنترنت والفأرة. وطور الويب ليكون لكل صفحة على الحاسوب:


بعد الويب انتشر استعمال الأنترنت بشكل كبير جد في التسعينات, وظهرت فرص تجارية كثيرة في الإنترنت قامت باستغلالها العديد من الشركات التي أصبحت تكبر وترتفع سريعا في سماء الانترنت, وبنفس السرعة بعضها يتلاشى. وللحصول على الربح من الإنترنت تستخدم الشركات عدة وسائل أشهرها تقديم خدمات مجانية معبأة بالإعلانات التجارية, وشركة قوقل أشهر من يسلك هذا المنحى. والوسيلة الأخرى هي تقديم خدمات خالية من الإعلانات التجارية مقابل رسوم, وهذا الأسلوب نجده متبعا في الخدمات التي توفرها شركة أبل.


There are two kinds of business people on the internet: successful people, and those who quit too soon.
~Jim Smoot


روابط





مراجع
Internet by Lorenzo Cantoni and Stefano Tardini
A Brief History of Computing by Gerard O’Regan
The story of the internet by Stephen Bryant

الشيفرة - كيف اقتحمت السرية في العصر الرقمي



اسم الكتاب: الشيفرة - كيف اقتحمت السرية في العصر الرقمي
المؤلف: ستيفن ليفي
تعريب: عبدالإله الملاح
سنة النشر: الطبعة العربية
عدد الصفحات: 549
دار النشر: العبيكان



كتاب الشيفرة يروي قصة بداية انتشار استخدام ادوات التشفير بعد الحرب العالمية الثانية ومحاولة وكالة الامن القومي للحد من انتشار التشفير واعتبار أجهزة التشفير من أدوات الحرب!!

بعد الحرب العالمية الثانية كانت المصادر المتوفرة لعلم التشفير قليلة جدا, وكان هذا العلم محاط بالسرية الشديدة, وفي عام 1952 تم انشاء وكالة الأمن القومي بمرسوم سري من الرئيس الأمريكي ترومان وكانت تهدف الى شيئين:
1- حفظ\تشفير البيانات الحكومية
2- رصد  كل ما يبث في وسائل الاتصالات الأجنبية
يعني كان على الوكالة ان توفر تقنيات متفوقة لتشفير البيانات الحكومية وفي نفس الوقت ان يكون لها القدرة على فك تشفير بيانات الاخرين.

فجندت الكثير من العلماء في مجال الرياضيات والكمبيوتر للعمل داخل الوكالة, وكانت اعمالهم وابحاثهم سرية ولم يسمح لهم حتى بالحديث عنها.

في تلك الاثناء قام اثنين من المهتمين في مجال التشفير وهما ديفي وهيلمان بنشر بحث لهم عن فكرة جديدة في مجال التشفير وهي فكرة المفتاح العام, حيث كانت تعتبر شيء اقرب للجنون, فلم يكن مقبولا تشفير البيانات باستخدام مفتاح عام وليس سري كما جرت عليه العادة.

هيلمان وديفي نشرا عملهما في عام 1976 ولكن هناك من سبقهم الى هذه الفكرة في سنة 1969 ولكن لم ينشرها وهو جيمس إلليز الذي كان يعمل لدى القيادة العامة للاتصالات وهي جهة بريطانيا عملها قريب لعمل وكالة الامن القومي الامريكية.

سأنقل ما ذكره المؤلف عن جيمس إلليز:
كان رجلا وقع على فكرة ثورية وعاش ليرى الاخرين يفوزون بالشهرة لإعادة اكتشافها, وتجشم عناء كتابة بحث يعرض لمساهمته وانتظر, بلا جدوى, لكي ينشر في حياته, إنه ذلك الرجل الذي رأى فكرته, عندما قدمها الاخرون, لم تزدهر فحسب بل خلقت صناعة جديدة ومجتمعا جديدا أيضا, وأحدثت تحولا جذريا في الموضوع, نقلة نوعية لدرجة أن عالم الظلال لم يعد هو نفسه. إلا أنه لم يكن بمقدوره , ولم يكن ليقوم بذلك, أن يخرق القوانين, ويكشف عن أسراره للاخرين, ولا حتى لقرينه في القطاع الخاص.

حزينة جدا  قصة جيمس إلليز, حيث انه امضى اغلب عمره يسمع ويشاهد اشخاص اخرين غيره يمدحون ويحصلون على الثناء لعمل هو سبقهم اليه بسنوات, ولكن طبيعة وظيفته حتمت عليه السكوت, فسكت.

الكتاب يروي احداثا كثيرة حاولت فيها وكالة الامن القومي من منع ما ينشر في مجال التشفير, منها متابعتها لكل ما يسجل من براءات اختراع في مجال التشفير, ومحاولتها لمنع اشهر كتاب كلاسيكي في موضوع التشفير وهو كتاب مفككوا الشيفرة لديفيد كاهن الذي نشره في الستينات وحاولت وكالة الامن القومي منعه.
-----
نشرت هذه المقالة في العدد 12 من مجلة عرب هاردوير