مقتل هيباتيا |
تزامن صعود المسيحية في القرنين الأول والثاني الميلادي مع إنحدار للثقافة اليونانية وديانتها الوثنية. دفع هذا الانحدار إلى ظهور تيار يسعى في سبيل العودة إلى الجذور القديمة للفلسفة اليونانية وإعادة تقديمها بشكل يجعلها قادرة على مواجهة التغيرات التي يقودها أتباع المسيحية في العالم الهلنستي.
لنلقي نظرة على الأيام الأخيرة للوثنية اليونانية.
بلاط زنوبيا
شهد القرن الثالث الميلادي فورانا عربيا عظيما من أجل تأكيد الذات، فصار العرب عاملا مهما في التاريخ الروماني على مدى هذا القرن. وتمثل هذا العامل، خلال النصف الأول من هذا القرن بأعضاء الأسرة السيڤيرانية Severan العربية، وبفيليب العربي بالقرب من منتصفه، وبأُذينة وزنوبيا التدمريين في النصف الثاني من هذا القرن.
عرفان شهيد، روما والعرب
تقع مدينة تدمر في الصحراء السورية. مجتمع تجاري أغلب سكانه من الآراميين والعرب. لغتها الرسمية الآرامية وفيها مزيج من التقاليد الفارسية والثقافة اليونانية. تُعد ذروة ما بلغه العرب عسكريا وثقافيا قبل الإسلام. أصبحت زنوبيا ملكة عليها بعد اغتيال زوجها أُذينة بن حيران في ٢٦٧م. امرأة مثقفة، أتقنت العربية واليونانية إلى جانب الآرامية. في إحدى زياراتها لحمص التقت بالفيلسوف لونجينوس، المشتغل بالتدريس في أثينا، ودعته للتدريس في تدمر. لبى دعوتها وصار كبير مستشاريها.
بدأ لونجينوس حياته طالبا للعلم في الإسكندرية عند معلمين ينتمون إلى المدرسة الأفلاطونية مثل أمونيوس السقاص. بعد دراسته في الإسكندرية رحل إلى أثينا ودرّس فيها ثلاثين سنة. هو نصف عربي، أمه سوريّة من حمص وخاله الخطيب الشهير فرونتو الحمصي الذي درّس البلاغة في أثينا.
في الفترة التي قضاها في تدمر، أنشأ حلقة علمية يرتادها مجموعة من المفكرين والفلاسفة، سأقتصر على ذكر العرب منهم؛ كالينيكوس البترائي المؤرخ والخطيب الذي تميز بفن البلاغة والخطابة حتى مارسها في أثينا وتعلمت منه زنوبيا تاريخ مصر قبل أن تغزو الإسكندرية، لكن للأسف لم يصلنا شيء من مؤلفاته. وجينيثليوس، منافس كالينيكوس، وهو أيضا من پترا وتميز بذاكرة قوية. توفى في أثينا وهو بعمر ٢٨. ولابد أن ثمة نشاطا فكريا في پترا التي نشأا فيها قبل أن يقررا الالتحاق بزنوبيا. أما مدينة صور التي ينتسب إليها فرفريوس الصوري (أبرز من تتلمذ عند لونجينوس) فهي مشهورة عند المسلمين بكونها مركزًا للفلسفة كما عبّر عن ذلك الاصطرخي في المسالك والممالك: "إن عامة حكماء اليونانية كانوا منها". ومن رواد الحلقة أبسينس الجداري (من مدينة أم قيس في الأردن).
كذلك بلغ شغف زنوبيا بالعلم والفلسفة أن دعمت أميليوس (أقدم تلاميذ أفلوطين) بالمال لينشئ مدرسة تقوم على تعليم الفلسفة في شمال سوريا بمنطقة أفاميا التي نشط فيها الأفلاطونيون المحدثون بشكل لافت فيما بعد. فكان النشاط الفكري لمن رعتهم زنوبيا في بلاطها بمثابة البذور التي تطورت منها فلسفة لاحقة؛ الأفلاطونية المحدثة.
الأفلاطونية المحدثة
وجملة القول: إن الوظيفة التاريخية والأيديولوجية للأفلاطونية المحدثة تظل مستعصية على الفهم ما لم يؤخذ في الاعتبار أنها مثلت خط الدفاع الأخير للوثنية الآفلة في مواجهة المسيحية الصاعدة. وذلك أصلاً ما يفسر أن المهمة الأساسية التي أخذها الأفلاطونيون المحدثون على عاتقهم هي تطوير روحانيات وإلهيات وثنية في مواجهة روحانيات المسيحية وإلهياتها. وهذه المهمة هي التي تفرَّغ لها أفلوطين في التساعيات، وفرفوريوس في أوثولوجيا المنحول على أرسطو، وابروقلوس في الثيولوجيا الأفلاطونية، ودمسقيوس في المبادئ الأولى.
جورج طرابيشي، العقل المستقيل في الإسلام
مرت الفلسفة بثلاث مراحل. البدايات، وهي المرحلة التي سبقت سقراط، كما عند الفلاسفة الطبيعيين الذين انشغلوا بدراسة الطبيعة ونشأة الكون. ثم مرحلة النضج، عند أفلاطون وأرسطو، حيث بلغت الفلسفة، عبر العقل اليوناني، تمامها. وبسط اليونانيون نفوذهم على مستعمرات كثيرة وانتشرت ثقافتهم عند شعوب مختلفة عرفت بالهلينستية. ثم مرحلة الضمور، حيث ظهرت محاولات لمزج الفلسفة اليونانية بالديانات الشرقية. كانت الثقافة اليونانية تنحسر. جاء أفلوطين في مرحلة الضمور، في القرن الثالث الميلادي حيث البيئة مهيئة لظهور تيار فلسفي جديد يجمع ما بين فلسفة أفلاطون والعقائد الدينية، ليتمكن الوثنيون من مواجهة تيار المسيحية الصاعد آنذاك. سبقه إلى هذا المسعى فيلون، الفيلسوف السكندري اليهودي الذي عاش في القرن الأول وكان يرى توافقا بين آراء أفلاطون، من دون بقية الفلاسفة، وتعاليم موسى. حتى قال بعض اليهود أن "أفلاطون لم يكن سوى موسى يتكلم باليونانية". اجتهد فيلون في تأويل نصوص التوراة لتتوافق مع الفلسفة.
أخذ أفلوطين جل علمه الفلسفي من أمونيوس السقاس في الإسكندرية. ثم مزج عناصر من فلسفة أفلاطون مع المسيحية. فنجد في الأفلاطونية المحدثة ثالوثا يضم كل من الواحد والعقل والنفس. وطوّر نظرية الفيض. فمن الواحد انبعث العقل كما ينبعث الضوء من الشمس دون أن ينقص منها شيء. والواحد لا ينقسم إلى أجزاء ولا يتعدد.
يشرح يوسف زيدان في <دوامات التدين> النظرة الدينية للعالم حسب تصور الأفلاطونية المحدثة: "وحسبما يرى أفلوطين، فإن العالم الذي نعيش فيه هو نتيجة لعملية <<فيض>> عن الإله، أو هو بتعبير آخر <<صدور>> غير مقصود.. فقد تفكَّر الواحد (الإله) في ذاته، فصدر من ذلك (العقل الأول) الذي فاض عن الواحد، ثم تفكَّر العقل الأول فيما فوقه (الواحد) فصدر عن ذلك العقل الثاني، وتفكر في نفسه فصدرت (النفس الكلية) نتيجة لذلك. ثم توالت الفيوضات ومراتب الموجودات، وتسلسلت العقول العليا حتى تماست مع الوجود المحسوس من خلال العقل الفعَّال، أو <<عقل فلك القمر>> الذي يؤثر في عقولنا الجزئية، فندرك الحقائق العليا بنوع من الإلهام".
لم يدوّن أفلوطين فلسفته. لكن تلميذه فرفوريوس حين وصل إليه نبأ وفاة معلمه سارع إلى جمع ما دوّنه من آراء أفلوطين وشرحها ونشرها في كتاب أطلق عليه <التاسوعات> في ٢٧٠م ويعد هذا الكتاب لحظة انطلاق الأفلاطونية المحدثة.
فرفوريوس الصوري
كان فرفوريوس مؤرخا للفلسفة وشارحا لنصوصها ومدافعا عن مبادئها في حماس شديد ضد العقيدة المسيحية الصاعدة آنذاك.
أبو ريان، تاريخ الفكر الفلسفي
ولد فرفوريوس في مدينة صور اللبنانية عام ٢٣٤ للميلاد، لقّبه أستاذه لونجينوس بلقب فرفوريوس (ذو اللباس الأورجواني) لكن اسمه الحقيقي مالك. حرص منذ صغره على تحصيل أكبر قدر من المعرفة ما دفعه إلى تعلم أكثر من لغة. رحل إلى أثينا ليدرس على يد لونجينوس الذي كان يوصف بأنه مكتبة حية ومتحف متنقل، فأخذ منه علم النحو والخطابة. وفي عام ٢٦٣ رحل إلى أفلوطين في روما حيث تتلمذ على يديه ست سنوات وتبنى فلسفته، الأفلاطونية المحدثة، وحاول الاستفادة منها بتطبيقها على الوثنية ليصير للوثنيين لاهوت مثل المسيحيين واليهود. فرفوريوس هو الذي حرر ونشر كتاب <التاسوعات> لأفلوطين الذي لا يعرف له كتاب غيره.
رحل بعد ذلك إلى صقلية حيث انشغل في تأليف كتاب يجمع بين أفكار أفلاطون وأرسطو. وكتاب آخر دعى فيه إلى اتباع نظام غذائي نباتي، فقد كان إلى جانب فيثاغورس من أبرز الداعين إلى اتباع نظام غذائي نباتي. وله كتاب نقدي ضد العقيدة المسيحية. رأى النصارى أن فيه خطر على عقيدتهم، فمُنع في بيزنطة وأمر الإمبراطور ڤالنتين بحرقه في منتصف القرن الخامس، إلا أن عددا من المسيحيين، ما يقارب الثلاثين شخصا، تولوا مهمة الرد عليه، واحتوت ردودهم اقتباسات مما كتبه فرفوريوس، وهكذا وصلت إلينا جل، إن لم يكن كل، رسالته. وكتب الإيساغوجي (مدخل إلى المنطق الأرسطي)، أشهر رسالة في المنطق، شرح فيها الكليات الخمس ووضع فيها شجرة فرفوريوس التي كان لها تأثير على دارسي الأحياء، وغدى هذا الكتاب هو المعتمد في علم المنطق عند البيزنطيين وفي العالم الإسلامي وفي الغرب اللاتيني لأكثر من ألف سنة. والمؤلفات المنسوبة إلى فرفوريوس تصل إلى الستين، القليل منها الذي وصل إلينا مثل: حياة أفلوطين، حياة فيثاغورس، رسالة إلى مارسِلا (زوجته)، حول الامتناع عن تناول الحيوانات، إيساغوجي (مدخل إلى المنطق الأرسطي)، مغارة الحوريات.
يقول في <ضد النصارى> مدافعًا عن عبادة التماثيل: "حتى إذا افترض أن بعض اليونانيين هم من الحماقة بحيث يعتقدون أن الآلهة تسكن في التماثيل، وحتى إن ذلك لو اعتبر مفهوما محضا من (العقيدة) فذلك أهون من أن نعترف بأن القدرة الإلهية نزلت في رحم مريم العذراء، وأن تلك القدرة الإلهية أضحت جنينا، وبعد الولادة لفت في الخرق المتسخة مع الدم والصفراء، وأسوأ من ذلك".
حين كبرت سن فرفوريوس تزوج من مارسِلا. وهي أرملة لها سبعة أولاد، انجذب إليها كونها مهتمة بتعلم الفلسفة ومواظبتها على حضور دروسه العلمية. إلا أن حياته معها لم تستمر أكثر من عشرة أشهر. وتوفي عام ٣٠٥م في روما.
يامبليخوس
يُعد الفيلسوف السوري يامبليخوس أحد الأعمدة الثلاثة التي قامت عليها الأفلاطونية المحدثة (بالإضافة إلى أفلوطين وفرفوريوس). ولد عام ٢٤٠م في بلدة عنجر (حوش موسى) بالبقاع اللبناني. ويعود بنسبه إلى أسرة شمس غرام العربية التي حكمت حمص منذ القرن الأول ق. م. حتى منتصف القرن الميلادي الثالث، وشارك بعض أفرادها في حكم الإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور إيل جبل.
طلب العلم في الإسكندرية وروما، وتتلمذ على يد أناتوليوس السكندري وفرفوريوس الصوري. ثم أسس مدرسة في مدينة أفاميا بشمال سوريا. ووضع منهجا علميا لدراسة كتب أفلاطون وأرسطو وشرح فلسفتهما، ولم يصلنا من تلك الشروح إلا مقتطفات. وله مؤلفات أخرى عن فلسفة وحياة فيثاغورس الذي احتل المكانة الأعلى من بقية الفلاسفة عند يامبليخوس. أضاف في منهجه الدراسي تعليم الهرمسية والسحر.
يرى يامبليخوس أن النصوص المكتوبة من قبل شخصيات ذات سلطة علمية يجب أن تأخذ طابعا مقدسا لأنه يرى أنها ترجمة لمعانٍ عميقة ومعبرة عن الحقيقة. وهذا ما دفعه إلى محاولة التوفيق بين نصوص فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو. وأضاف إليهم نصوص أخرى، يراها مستوحاة من الله، مثل <العرافات الكلدانية> و<الترانيم الأورفيّة>.
الطقوس السحرية
اتخذت الأفلاطونية المحدثة مع يامبليخوس مسارا مغايرا عن المسار الذي خطه أفلوطين وفرفريوس وذلك بسبب اهتمام يامبليخوس بالسحر (الثيورجيا) وسيلة للتواصل مع الآلهة والاتحاد معها والتأثير في العالم. وافترق عن معلمه بس اختلافهم حول هذه المسألة، وكتب رسالة يرد فيها على فرفريوس <الرد على فرفريوس> اشتهرت أيضا باسم <أسرار مصرية>. دافع فيها عن الممارسات الوثنية (الصلاة، القربان، الكهانة) ضد انتقادات فرفريوس، قدّم فيها رؤاه الفلسفية حول طبيعة الإله والنفس البشرية. وظهرت نتيجة لذلك المدرسة السورية للأفلاطونية المحدثة والتي وفَّقت بين الفلسفة والديانة الوثنية.
لا نعرف الخطوات التي استخدمها يامبليخوس لممارسة الثيورجيا. لكنه وصف لنا الحالة التي يعايشها حين يؤدي تلك الطقوس وتغشاه الرؤى. تتراءى أمامه مخلوقات متعالية، ويأتيه نور غامض، وميض من تيار الخلق. ويتناهى إلى سمعه صوت شبيه بالريح يأتيه من كل الاتجاهات. وعندما يشعر بكل هذا يكون الاتصال مع العوالم الأخرى قد تحقق، وحدث تحوّل في وعيه.
يقول محمد جلوب الفرحان: "إن نقطة الخلاف ، هي إن إمبيلكوس أعتقد إن الفلسفة عامة ، وفلسفة إفلوطين بالطريقة التي قدمها فرفريوس الصوري ، عاجزة عن تحقيق ” وحدة أو إندماج بين الفيلسوف والألهة ” . وهذه هي نقطة الطلاق الفلسفي بين الأستاذ والتلميذ ، بين فرفريوس وإمبيلكوس ، بين الأتجاه العام للإفلاطونية المحدثة الذي أرسى قواعده فرفريوس ، والنزعة السورية الخاصة للإفلاطونية المحدثة التي يقودها إمبيلكوس .
ولهذا تسائل أمبيلكوس : ما هو السبيل لإنجاز مثل هذه الوحدة أو الإتحاد ” بين الفيلسوف والألهة ؟ ” أعتقد إمبيلكوس بصورة قاطعة ، إنها ” الأفعال الطقوسية المناسبة ، والتي تتسم بنوع من الشعائر وذات طبيعة سحرية ” . وهذا السبيل أطلق عليه كلمة ” ثيورجي ” والتي توصف عن طريق ” تطبيق الشعائر والطقوس ” والتي تتمثل بعض الأحيان ” بطبيعتها السرية أو السحرية ” والتي تنجز من خلال ” الدعاء والتوسل بحضور واحد أو أكثر من الآلهة ” وذلك تطلعاً للتوحد (أو الإندماج) في الذات الإلهية ، والتي تمثل في الإفلاطونية المحدثة ، التوحد مع ” الواحد ” أو ” الموناد ” الذي هو مصدر ” الحقيقة الأساس ” (أنظر: صمويل أنجوس ؛ الأديان السرية : دراسة في الخلفية الدينية المبكرة (بالإنكليزية) ، نشرة دار مطبوعات دوفر 1975، ص 52) .
…
حقيقة إن القارئ لنصوص طلابه وأتباعه ، وشراح كتاباته يجدهم يمدحونه بنوع من الإطراء المتفرد ويعلون من مكانته . فقد كان ينظر إلى إمبيلكوس كرجل يمتلك “قوى عجائبية” . وفعلاً فأن الأمبراطور ” جوليان ” (331- 363) ، والذي كان يطلق عليه ” الإمبراطور الفيلسوف ” ، كان يعتبر إمبيلكوس ” أكبر من كونه إفلاطون الثاني ” ودعا إلى إنه ” سيتنازل عن كل ذهب ليديا لواحد من حواري إمبيلكوس ” . وخلال عملية بعث فلسفته في القرنيين الخامس عشر والسادس عشر ، فأن الأسم إمبيلكوس إكتسب نوعاً من القداسة ، فكان حين يذكر ، يشار إليه بأسماء مثل ” الإلهي ” أو ” الأكثر إلهية."
محاولة يامبليخوس للقيام بحركة إصلاح ديني داخل الوثنية لم تنجح، فقد كان الموج المسيحي أعلى. لكنه أثّر في من جاء بعده من الفلاسفة مثل بروكلس وداماسكس وسمليشيس. توفي عام ٣٢٥م. بعد وفاته أسس تلميذه إيديسيوس مدرسة في بيرگامون وتركزت تعاليمها على الثيورجيا وإعادة إحياء عبادة الآلهة (الوثنية) وكان من تلاميذها الإمبراطور يوليانوس المرتد.
غدت معلوماتنا عن الأفلاطونية المحدثة قليلة، وشحّت المصادر التي وصلتنا من تلك الفترة التي عُرِفَت باسم مدرسة بيرگامون حيث انعكف مجموعة من التلاميذ عند إيديسيوس (تلميذ يامبليخوس) وشكلوا ما يشبه الجماعة الدينية. لا نعرف بالتفصيل كيف وصلت تعاليم يامبليخوس إلى أن صارت تُدرَّس في أكاديمية أثينا. لكن يرى بعض الباحثين أن خلال تلك الفترة تفوق الاهتمام بالمسائل الدينية وممارسة الشعائر على الفلسفة العقلانية.
تأثير الأفلاطونية المحدثة في الحضارة الإسلامية والغرب
انتهت المدرسة الأفلاطونية المحدثة حين قرر الإمبراطور جستنيان إيقاف تمويل مدرسة أثينا بشكل نهائي في ٥٢٩م. فانتشر أتباعها في المدن، بعضهم لجأ قطيسفون عند الإمبراطور خسرو وبعضهم استقر في مدينة حران.
حين شرع العرب في ترجمة الفلسفة اليونانية تجنبوا الإشارة إلى أفلوطين وأطلقوا عليه لقب <الشيخ اليوناني>، ونسبوا الكتب التي تحوي أفكاره أو أفكار أفلاطون إلى أرسطو. كان عبدالرحمن بدوي يشعر بحيرة شديدة حين يفكر في السبب الذي دفعهم إلى هذا الفعل، كما أخبر عن ذلك في كتابه <الأفلاطونية المحدثة عند العرب>: "الآن وقد قدّمنا لأرسطو عند العرب صورة شبه تامة، ألّفناها من آثاره الصحيحة الباقية في ترجمتها العربية القديمة، فقد حقَّ علينا أن نقدّم الصورة الأخرى المضادة والتي كان لها من الخطورة بقدر ما كان للأولى، ونعني بها صورة الأفلاطونية المحدثة كما عرفها العرب في آثارها الأصلية وإن لم ينسبوها في الغالب إلى أصحابها الحقيقيين، بل حسبوها هي أيضا من نتاج أرسطو، فكانت غلطة سعيدة felix culpa لولاها -فيما نعتقد- لم تظفر بما ظفرت به من مكانة وعناية، بل لأصبح مصيرها ذلك المصير البائس الذي لقيته مؤلفات أفلاطون الصحيحة على جلال قدرها ومساس رَحِمها بالروح العربية السحرية. أجل هو مصير بائس كلما فكرت فيه استبدت بيَ الحيرة لأنه من ألغاز الفكر العربي".
ونجد أن نظرية الفيض التي ذكرها أفلوطين في التاسوعات قد دخلت إلى الفلسفة الإسلامية عبر الفارابي، واشتهرت بعد ذلك بسببه.
أما فرفوريوس فقد ترك أثرا واضحا في الساحة الفكرية للحضارة العربية الإسلامية بسبب كتابه <إيساغوجي>. فقد درج الكثير من المناطقة العرب على تأليف كتب ورسائل في المنطق تحمل نفس الاسم. أشهرها متن <إيساغوجي> لأثير الدين الأبهري الذي يوصف بأنه مختصر إيساغوجي فرفوريوس. وكتب الفارابي في القرن العاشر للميلاد شرحا على الإيساغوجي. ونتج عن حديث فرفوريوس حول العَرَض في المنطق جدال طويل في الفكر الإسلامي عن الجوهر والعرض. أما ابن سينا فقد تبنى بعض أفكار فرفوريوس في المنطق وأضاف إليها التفريق بين العَرَض والعَرَضي في كتابه الشفاء. واليوم يتوجب على من يريد طلب العلم الشرعي أن يبدأ بتعلم المنطق من خلال أحد الشروح على الإيساغوجي ليفهم النصوص الدينية، قال عنه الكِندي: "إن <إيساغوجي> هو الكتاب الذي ينبغي أن يبدأ به طلاب الفلسفة جميعًا، لما فيه من وضوح وجلاء".
أما في التصوف، يشير أنستاس الكرملي، في مجلة <لغة العرب>، إلى أن كلمة <تصوف> انتقلت إلى المسلمين عن طريق النصارى الذين أخذوها بدورهم من فرفوريوس الصوري: "وأول من بحث عنه واشتهر به هو أحد متصوفي السوريين اليونانيين واسمه (ملك الصوري) الذي ولد في (بتانة) من أعمال صور، وكانت مستعمرة صورية وقريبة منها: ثم نقل اسمه بعد ذلك ترجمة، فعرف (بفرفوريوس الصوري) صاحب كتاب إيساغوجي، وقد ذكر التصوف في كتابه (في التنحس) أي في الامتناع عن أكل اللحم. في الصفحة 327 من طبعة أ. نوك الثانية … إذن عاش فرفوريوس قبل الإسلام بنحو ثلاثة قرون، وكان وثنيا من أشد الناس عداوة للنصرانية، وعنه نقل النصارى كلمة التصوف، ومنهم انتقلت إلى المسلمين. ومن العجب أن كلمة التصوف لم ترد في القاموس بل في التاج فقط".
ويرى رينولد نيكلسون في كتابه <في التصوف الإسلامي وتاريخه> أن التصوف وليد الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، ويستدل على ذلك بعدة أمور، منها أن بروز التصوف الإشراقي تزامن مع انتشار ترجمة الفلسفة اليونانية في زمن المأمون ومن جاء بعده.
كذلك تنسب <موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة> القول بقدم العالم لدى بعض المسلمين ومفهوم العدم كما عند المعتزلة إلى التأثر بأفكار الأفلاطونية المحدثة: "ويرى أصحاب نظرية "قدم العالم" أن العالم قديم قدم الخالق، فهو مخلوق له ولكن لا يتأخر عنه فى الزمان بل يتأخر عنه فى الدرجة فقط لكونه معلولا للخالق. وقد انتقلت هذه النظرية إلى المسلمين عن طريق الفيلسوف الهيلينى برقلس (485 م) الذى تأثر بفلسفة أفلوطين (270 م) والأفلاطونية المحدثة التى نسبت إليه وقد تأثر بها من المسلمين بعض المعتزلة الذين ذهبوا إلى أن المعدوم شىء يكتسب صفة الوجود فيخلق، أى أن الخلق ليس سوى نقل من العدم إلى الوجود. وارتبطت هذه النظرية عند المعتزلة بقولهم بارتباط الجواهر بأعراضها متأثرين في ذلك بنظرية أرسطو طاليس فى المادة والصورة".
أما في الغرب، فنجد أن الفيلسوف الإيطالي مارسيليو فيسينو أعاد اكتشاف مؤلفات يامبليخوس في القرن الخامس عشر الميلادي، وترجم كتابه <الرد على فرفوريوس> إلى اللاتينية تحت عنوان <أسرار مصرية>، وكذلك ترجم أعمال أفلوطين من اليونانية إلى اللاتينية. أما في القرن العشرين فقد امتد تأثير أفكار يامبليخوس إلى عالم النفس كارل يونگ كما وصفه بيتر كينگسلي بأنه "قارئ عميق لـ يامبليخوس".
مصادر:
تاسوعات أفلوطين، ترجمة فريد جبر
نادي رؤيا: الأفلاطونية المحدثة
مجلة لغة العرب العراقية (ج٦ ص٢١٤- العدد ٥٧)
فرفوريوس الصوري اللبناني مؤرخًا للفلسفة اليونانية - محمد الفرحان
الفيلسوف الأشوري الملك إمبيلكوس - محمد الفرحان
فرفوريوس في موسوعة ستانفورد للفلسفة
يامبليخوس في موسوعة ستانفورد للفلسفة