من دفتر اليوميات: برلين - حوائط صد





 رفيق الرحلة


قبل موعد الرحلة بأربعة أيام كنت أتنقل بين مجموعة من الكتب على الكندل، أقرأ قليلا من كل كتاب ثم أتململ وأقرر أنه ليس ممتعا بما يكفي لاصطحابه معي في الرحلة. تكرر الأمر مع كتاب تلو الآخر حتى أحسست كما لو أنني فقدت الشغف بالقراءة عموما. في نفس هذه الحالة المزاجية أميل إلى إعادة قراءة كتاب أعجبني. لكن للأسف الرواية التي كنت أريد إعادة قراءتها أهديتها لأحد الأصدقاء ولم أجدها في المكتبات. فقررت اصطحاب كتاب "مناخ ٨٢" الذي يوثق قصة انهيار سوق المناخ في بداية الثمانينات بعد أن تضخمت قيمة التداولات فيه إلى ١٠٠ مليار دولار في وقت كان دخل الدولة السنوي من النفط لا يتعدى ٢١ مليار دولار. استشعرت صحبته الممتعة مذ شرعت في قراءته في المطار إلى أن أنهيت ١٠٠ صفحة منه وأنا في الطائرة. القراءة يجب أن تكون هكذا. إما كتاب يشدنا لننغمس فيه أو نركنه. الوقت محدود والكتب كثيرة.



الأهداف والسفر


كلما خططت للأشياء التي أريد أن أفعلها أجدني أنجز أقل بكثير مما خططت. لماذا أخطط للسفر؟ لأن بعض الرحلات تكون طويلة ولا أريد أن يفوت الوقت هكذا. فمع الذكريات الجميلة أريد أن أرجع بانجازات ولو بسيطة. اخترت ثلاثة أشياء: الأول: التأمل ١٠ دقاىق كل يوم. وكنت أستخدم تطبيق Waking Up لجلسات التأمل. الثاني: الدراسة مدة ساعة يوميا. فعلتها يوم واحد فقط. والثالث: تدوين اليوميات. أستخدم الهاتف لكتابة مختصر ما حدث في اليوم السابق.



التجول في المدينة


فور وصولي إلي أي مدينة أحب أن أخرج في جولة مع مرشد سياحي سيرا على الأقدام. أبحث عن هذه الرحلات في برنامج Airbnb.


حطت الطائرة في السابعة والنصف صباحا. غرفة الفندق تجهز في الثانية بعد الظهر، فما كان لي إلا أن أترك حقيبتي في الفندق وأخرج إلى أحد أفرع ستاربكس الذي منه ستبدأ الجولة. كنا ١٥ شخص والمرشدة روسية مقيمة في برلين. بدأنا عند الساعة ١٠:٣٠ وانتهينا عند الثانية. كمية كبيرة من المعلومات قذفتنا بها المرشدة. أتذكر منها أن أباطرة ألمانيا السابقين يسهل تذكر أسمائهم، فهي تتراوح ما بين ويليام أو فريدريك. كذلك الوضع الاقتصادي المزري الذي تلا خسارة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ففي ١٩١٩ كان الدولار الأمريكي يعادل ٤ مارك ألماني، أما في ١٩٢٣ وبعد التوسع في طباعة العملة لمواجهة التضخم ، فصار الدولار يعادل مليون مارك!

في البداية كان الرذاذ لطيفا. لكن من وقت لأخر تشتد زخات المطر. ثيابي تبللت. الهواء البارد جعل من المشي عملية غير مريحة. وصوت المطر الغزير يشوش على كلام المرشدة. لم أستمع لكثير مما قالته. طلبت سيارة أوبر وحين ركبت كان قائدها من أصل عربي سألني: كيف حالك؟ لم أتمالك نفسي فضحكت بصوت عالٍ وأن أنظر إلى ثيابي التي يترشش منها الماء.


قررت بعد عدة أيام القيام بجولة ثانية، وحرصت قبلها على لا تكون السماء ممطرة. المرشد ألماني اسمه هاري. يقول إن برلين لم تتعافى بعد من آثار كوفيد-١٩. فقبل ٢٠٢٠ كان يقوم بجولات يومية مع ١٥ سائح، أما الآن فبالكاد يقوم بهذه الجولات مرتين بالأسبوع. عددنا كان ١٠ أشخاص في تلك الجولة. أما عن أشهر الوجبات في ألمانيا فيقول هاري: "لو سألت أي طفل ألماني فسيخبرك أنه يحب الدونر". تلك السندويشة المحشية باللحم. ففي الستينات جاءت بعثة من الأتراك إلى ألمانيا وكان من المفترض أن يعودوا إلى تركيا بعد فترة من الزمن. إلا أنهم لم يعودوا. جلبوا معهم أسرهم وأكلاتهم ومنها الدونر التي غدت مطاعمها في كل مكان من ألمانيا. زرنا أماكن لا يتردد عليها كثير من زوار وسكان برلين. الأول مكان يحتوي على مجموعة من الأكشاك للأطعمة والمشروبات الأفريقية. اسمه YAAM.  الحشيش ممنوع في ألمانيا لكني سمعت أنه يباع هنا. المكان الثاني راق لي أكثر. اسمه Holzmarkt وفيه جلسات على النهر مظللة بالأشجار وبالقرب منه مجموعة من المخابز والمطاعم والمقاهي.



متاحف


زرت ثلاثة متاحف. الأول متحف السحر. بداية الدخول يعطونك أصفاد وسطها قطعة حديد وعليك أن تخرجها. ثم تأخذ ورقة فيها مجموعة من الأسئلة تحاول تجاوبها من خلال استخدام ما هو موجود في المعرض.

المتحف الثاني عن ألعاب الفيديو. صغير من دور واحد. لكنه يحوي كمية كبيرة من الألعاب اللي يقدر الزائر يلعبها.

المتحف الثالث عن التجسس. الأدوات المستخدمة للتجسس وقصص أشهر الجواسيس.

كلها متاحف ممتعة لجميع الأعمار (الأول والثاني سيستمتع فيه الأطفال أكثر)، ويمكنك قضاء ساعة إلى ساعة ونص في كل واحد.



حوائط صد


أول يوم في برلين كان طويل ومتعب. في نهايته خرجت أتمشى قرب الفندق إلى أن وصلت إلى حانة قريبة. كل من فيها يتحدث الألمانية. جلست أقلب نظري فيهم وأفكر في هذا الحاجز المعنوي الذي شُيّد بيننا. حاجز يعزلني عنهم رغم جلوسي بينهم؛ كلامهم بلغة لا أفهمها.


أذكر معلومة قرأتها عن نيوتن أنه اختار كتابة كتبه العلمية باللاتينية، اللغة التي لا يفهمها بها إلا النخبة، الذين يريد أن يخاطبهم، وحدهم. وأعرف أصدقاء عرب لا يعبرون عن أفكارهم في شبكات التواصل إلا بالإنجليزية. كأنهم يخلقون حائط يصد عنهم مجموعة من الناس. حوائط الصد هذه لا تقتصر على اللغة التي نتواصل بها. يمكن أن تكون الاهتمامات التي نصرف أوقاتنا إليها والعوالم التي ننغمس فيها ونعيشها إلى أن تصير صورتنا عند الآخرين موشومة بها. وهي تكمن أيضا من خلال تعبيرنا بوضوح عن أنفسنا. هذا التعبير الواضح الذي يقول للأخرين "هذا أنا"، دعنا لا نضيّع أوقات بعضنا البعض.


حوائط الصد هذه لا يسير داخلها إلا الأشخاص الذين ترغب في وجودهم. ولا تحدث فيها غير الأشياء التي أنت تهواها. ولا تنبت داخلها إلا الورود التي أنت ساقيها. اختر لغتك بعناية وشيِّد حائطًا للصد.