النظر في الأخبار الواردة عن حياة الفرزدق تجعلنا نخرج بانطباع عنه أنه اصطنع لنفسه نظاما يسير عليه للموازنة بين الحياة التي يرغب في عيشها وبين مجتمعه في زمنه. فقد كانت له شخصية متفردة عن محيطه الاجتماعي، حيث حاول أن يخلق عالمه الخاص الذي يعيش فيه مع من يشبهونه في أوقات معينة، ثم يعود إلى العالم الذي يتظاهر بالاندماج معه.
يذكر ابن الأنباري في «شرح القصائد السبع الطوال» أن الفرزدق مر بمسجد بني أقيصر بالكوفة، وعليه رجل ينشد قول لبيد:
وجَلاَ السُّيولُ عن الطُّلول كأنَّها زُبُرٌ تُجدُّ متونَها أقلامُها
فسجد، فقيل له: ولِمَ يا أبا فراس؟
فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر!
يجب أن لا نمر سريعا على قوله «أنتم» و«أنا»، فبين هاتين العبارتين عاش حياته. لكي نتعرف على مقصوده، يجب أن ننظر فيما ذُكر عنه من أخبار. يُروى أنه حين كان صغيرًا دخل مع أبيه على علي بن أبي طالب، الذي نصح أباه أن يعلمه القرآن، أي يحفظه. إلا أن الفرزدق انشغل عنه حتى كبر، ولعل الناس لاموه على إهماله للقرآن، فاحتال حيلة بأن قيّد رجليه ونذر ألا يفك وثاقه حتى ينتهي من حفظه. لكن بعد فترة وجيزة، هجا جرير قريبات له، فوجد الفرزدق في ذلك فرصة لفك وثاقه والتراجع عن نذره ليقول الشعر:
فإنْ يكُ قيدي كانَ نذراً نذرتهُ فما بيَ عنْ أحسابِ قومي منْ شغلِ
أنا الضامنُ الراعي عليهمْ وإنما يدافعُ عنْ أحسابهمْ أنا أوْ مثلي
يدرك أنه في لحظات معينة يضطر إلى مسايرة الناس، وأحيانًا مسايرة السلطة، وهو متمكن من ذلك. يروي ابن قتيبة في «عيون الأخبار» في فصل النساء، عند باب الزنا والفسوق، هذه الأبيات التي أنشدها الفرزدق عند سليمان بن عبدالملك:
ثلاث واثنتان فهنّ خمس وسادسة تميل إلى شمام
فبتن بجانبيّ مصرّعات وبتّ أفضّ أغلاق الختام
كأنّ مفلق الرّمان فيها وجمر غضى قعدن عليه حامي
فقال سليمان: أحللت نفسك يا فرزدق: أقررت عندي بالزنا وأنا إمام، ولا بدّ لي من إقامة الحدّ عليك؛
فقال: بم أوجبت ذلك عليّ يا أمير المؤمنين؟
فقال: بكتاب الله.
قال: فإن كتاب الله يدرأ عنّي، قال الله جلّ ثناؤه: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ، فأنا قلت ما لم أفعل.
ويذكر الفرزدق عن نفسه ما يفيد أنه اختار أن يتدين على مذهب الإرجاء، وهو مذهب ظهر في الدولة الأموية وتبناه جماعة من الفقهاء، أشهرهم أبو حنيفة النعمان. وهو باختصار يقول بعدم أهمية العمل لصحة الإيمان، يكفيك أن تؤمن بقلبك ولسانك. فقد اختار الفرزدق لنفسه من المذاهب أيسرها، أو كما نقول بلغة اليوم: أوسعها. والناس يعرفون تديّن الفرزدق، كما أشار هو في الخبر الذي أورده ابن خلكان في «وفيات الأعيان»: فحين توفت النوار، زوجة الفرزدق، صلى عليها الحسن البصري حسب وصيتها، وحدث هذا الحوار بين الحسن والفرزدق:
فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد يقولون: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس،
قال الحسن: كلا، لستُ بخيرهم ولستَ بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟
قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدأ رسول الله منذ ستون سنة.
هذا ما كان يقوله «الناس» عن الفرزدق. وفي إحدى الليالي، غلبه النعاس في أحد المجالس، وكان إلى جانبه عنبسة بن معدان. فحرك عنبسة برجله جسد الفرزدق وقال له: بلغت النار يا أبا فراس؟!
قال الفرزدق: نعم ورأيت أباك ينتظرك!
هذه الصورة الذهنية لم تُنسَج من فراغ عند مجايلي الفرزدق. فهذا حماد الراوية، حين أراد أن يحفظ أشعار الفرزدق وصار يتردد عليه يوميًا، يقول: فكنت آتيه فما خرجت من عنده قط إلا وأنا سكران.
لكن لأبناء عمومته من بني تميم رأيًا مختلفًا. فقد زعم بعضهم أنه رآه في المنام بعد وفاته يقول إن الله قد غفر له بسبب شهادة التوحيد. ولكن، هل رضي الفرزدق أن يموت مثل غيره، أم أراد تكون له نهاية مختلفة؟ حين علم بقربه من الموت، لم يكترث بما سيقال عنه، وهو يعرف أنه بعد لحظات قليلة سوف يخرج من هذه الحياة إلى مثواه الأخير.
يذكر البلاذري في «أنساب الأشراف» اللحظات الأخيرة من حياة الفرزدق:
لما مرض الفرزدق مرضته التي مات فيها أوصى لمولاة له بثلاثمائة درهم، فَلَمَّا اشتد وجعه أنشأ يقول:
إِلَى من تفزعون إذا حثوتم بأيديكم عليَّ من التراب
ومن هَذَا يقوم لكم مقامي إذا ما الخصم كلّ عن الجواب
فقالت مولاته التي أوصى لها: نفزع إِلَى اللَّه. فقال: يا زانية، تأخذين مالي وتفزعين إلى غيري، لا تعطوها شيئًا. فلم يلبث أن مات.
ومما ذكره البلاذري أنه قيل للفرزدق: مدحت الحجاج فَلَمَّا مات هجوته فقال: إنا نكون مع القوم ما كان الله معهم، فإذا تركهم تركناهم.
هذه المواقف تؤكد أن الفرزدق احترف التنقل بين عالمين: «أنا» و «أنتم».