"ولقد تكفلت القواعد التى وضعها النحاة العرب فى جهد لا يعرف الكلل، وتضحية جديرة بالإعجاب بعرض اللغة الفصحى وتصويرها فى جميع مظاهرها، من ناحية الأصوات، والصيغ وتركيب الجمل، ومعاني المفردات على صورة شاملة، حتى بلغت كتب القواعد الأساسية عندهم مستوى من الكمال لا يسمح بزيادة لمستزيد".
يوهان فُك، دراسة فى اللغة واللهجات والأساليب
سياحتنا ستكون في مدينة البصرة. سنقضي فيها زهاء قرن من الزمن، من بداية الدولة الأموية 660م حتى نهايتها 750م. وفيها سنعرف كيف ولماذا نشأت وتطورت علوم اللغة العربية. حيث دعت الحاجة في ذلك الوقت، بعد أن أُخمدت الفتنة الثانية واستقرت الأمور السياسية، إلى النظر في شؤون الدولة وتطويرها. فظهرت الحاجة إلى تعريب دواوين الدولة وتوحيدها على لغة واحدة بعد أن كانت تُكتب في كل قطر بلغة مختلفة: بالفارسية في العراق، وباليونانية في الشام، وبالقبطية في مصر. كان لزاما كذلك وضع قواعد للغة ليتمكن الأعاجم الداخلون حديثًا في الإسلام من قراءة وفهم القرآن على الوجه الصحيح. وتسببت مخالطة العرب للأعاجم إلى أن وجد اللحن طريقه إلى ألسنتهم حتى صار الذين لا يلحنون يُعدون على أصابع اليد الواحدة. يذكر ابن عساكر في «تاريخ دمشق» أن الأصمعي قال: "أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبدالملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية. والحجاج أفصحهم".
اقتصرت على ذكر أهم الشخصيات التي أسهمت في تطور علوم اللغة من كل جيل. ونلاحظ أن البدايات كانت متواضعة جدا. ففي الجيلين الأول والثاني غُرِست البذور على يد أبو الأسود الدؤلي وتلاميذه نصر ويحيى. ثم صارت دراسة النحو تأخذ منحىً علميًا وأكثر جدية من الجيل الثالث وحتى الخامس حيث جُمعت مادة كبيرة من المفردات والأشعار من الأعراب وصار هناك ميل لاستخدام القياس ووضع القواعد العامة. ثم مرحلة النضج عند الجيل السادس مع الخليل بن أحمد وتلميذه سيبويه.
بعد التسلسل التاريخي سنتطرق إلى مسألتين:
- هل تأثر النحو العربي بالنحو السرياني؟
- ما حجية الحديث النبوي في الاستشهاد بقواعد اللغة؟
البصرة
تأسست البصرة في عهد عمر بن الخطاب لتكون قاعدة عسكرية تنطلق منها الجيوش الإسلامية للقتال في الأراضي الساسانية. وتأسس فيها مركزان ثقافيان: الأول المسجد الجامع حيث يقيم العلماء حلقاتهم الدراسية. والثاني سوق المربد، وهو سوق تجاري يتردد عليه الأعراب من البادية لشراء حوائجهم، ويلقي فيه الشعراء قصائدهم ويخوضون في مساجلات ثقافية. وأشهرهم: الفرزدق وجرير والأخطل.
الجيل الأول
وفي بداية عهد معاوية بدأ التابعي أبو الأسود الدؤلي (توفي 688م) المحاولات الأولى لوضع قواعد اللغة العربية، فأضاف في المصحف ما يعرف بنقط الإعراب (علامات التشكيل) مثل الفتحة والكسرة والضمة، وكانت عبارة عن نقط باللون الأحمر حتى لا تختلط مع خط الآيات، بهدف تجنب الأخطاء التي يقع فيها قارئ القرآن فتتغير معاني الآيات إلى معانٍ غير مقبولة. هذا أهم إنجاز لأبو الأسود، أما المسائل اللغوية التي نقلت عنه فهي نادرة، لذلك يرى بعض المؤرخين أن البداية الحقيقية للنحو كانت مع من أتى بعده.
الجيل الثاني
يُنسب إلى أبي الأسود حوالي عشرة تلاميذ. أبرزهم كانا نصر بن عاصم الليثي (709م) ويحيى بن يعمر (708م).
كان نشاطهم في زمن عبدالملك بن مروان حيث ظهرت الحاجة إلى تعريب دواوين الدولة. فأعادا ترتيب الأبجدية من الترتيب القديم: أبجد هوز، إلى الترتيب الحالي. بدءًا بـ "أ" ثم جمعوا الثلاثيات المتشابهة: "ب ت ث"، "ج ح خ"، ثم الثنائيات: "دذ"، "رز"، ثم الحروف التي لا أشباه لها. هذا الترتيب جعلها أسهل للتعلم لغير العرب الذين زادت حاجتهم إليها بعدما اُعتمدت العربية لغة رسمية في كل الأقطار الأموية. وعمل نصر بن عاصم، بطلب من الحجاج، على تنقيط حروف المصحف لتمييز الحروف المتشابهة مثل الباء والتاء والثاء. وفي تلك المرحلة أُنجزت أول دراسة إحصائية لعد كلمات وحروف المصحف بتكليف من الحجاج أيضا. وظهرت مصطلحات جديدة مثل النصب والرفع والتنوين. يذكر السيرافي في «أخبار النحويين البصريين» أن خالد الحذّاء يقول: "سألت نصر بن عاصم - وهو أول من وضع العربية: كيف تقرأ (قل هو الله أحد الله الصمد)، فلم ينوّن [أحد]، قال: فأخبرته أن عروة ينوّن، فقال: بئس ما قال وهو للبئس أهل. فأخبرت عبد الله بن أبي إسحاق بقول نصر بن عاصم، فما زال يقرأ بها حتى مات".
الجيل الثالث
وأبرز شخصيات هذا الجيل عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي (735م).
تتلمذ عند كل من نصر ويحيى. واستخدم القياس في النحو لأول مرة. فتذكر كتب الطبقات أنه "أول من بعَجَ النحو ومدّ القياس وشرح العلل" وكذلك "أنه كان أشد تجريدًا للقياس"، وأيضا "أنه فرّع النحو وقاسه". يشرح عبدالله الخثران في «مراحل تطور الدرس النحوي» المقصود من أنه مدّ القياس: "أي أنه يمدّ حكم القاعدة ويجعله مطردًا. فقد فطن إلى أنّ اللغة العربية تحكمها قوانين عامة تنظم جزئياتها، وأن فيها ما لا يطّرد فيه لذلك، بمعنى أن هناك أمورا في اللغة لا يؤخذ إلا عن طريق السماع دون الخضوع إلى قانون، وهناك ظواهر تخضع لهذا القانون".
وظهرت المناظرات العلمية بين علماء اللغة. يذكر الزجاجي في «مجالس العلماء» أن أبو عمرو بن العلاء قال: "ما ناظرني أحد قط إلا غلبته وقطعته إلا ابن أبي إسحاق، فإنه ناظرني في مجلس بلال بن أبي بردة في الهمز فقطعني، فجعلت إقبالي على الهمز حتى ما كنت دونه".
وفي هذه المرحلة ظهر أول كتاب في النحو من تأليف ابن أبي إسحاق وهو كتاب «الهمز». مع ذلك مازال علم النحو يحبو كما عبّر عن ذلك يونس بن حبيب، الذي جاء بعد جيلين، حيث وصف ابن أبي إسحاق أنه "هو والنحو سواء، أي هو الغاية.
قال: فأين علمه من علم الناس اليوم؟
قال: لو كان في الناس اليوم أحد لا يعلم إلا علمه يومئذ لضُحِك منه، ولو كان فيهم من له ذهنه ونفاذه، ونظر نظره لكان أعلم الناس".
وبعد أن وضع ابن أبي اسحاق قواعد للنحو صار ينتقد الشعراء المعاصرين الذين يخالفونها، كما انتقد الفرزدق في عدة أبيات منها قوله:
وعَضُّ زمانٍ يا ابنَ مروانَ لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ
وقوله:
مُسْتَقْبِلِينِ شمال الشامِ تَضِربُنا بحاصب كنديف القطن منْثُور
على عَمائمِنا يُلقَى وأَرْحُلنا على زَواحِف تُرْجَى مُخُّها ريرِ
الجيل الرابع
أبرز شخصيات هذا الجيل من النحويين هما تلميذي ابن أبي إسحاق: عيسى بن عمر الثقفي (766م) وأبو عمرو بن العلاء (770م).
عيسى بن عمر هو أهم تلاميذ ابن أبي إسحاق. تواصل مع الأعراب الذين يزورون البصرة، خاصة سوق المربد، ليسألهم ويأخذ منهم. وتوسع في القياس النحوي وزادت ثقته في علمه حتى صار ينتقد الشعراء السابقين على الإسلام، مثل النابغة، على رفعه القافية في هذا البيت:
فَبِتُّ كَأَنّي ساوَرَتني ضَئيلَةٌ مِنَ الرُقشِ في أَنيابِها السُمُّ ناقِعُ
وازداد اهتمامه بالتدوين مقارنة بما كان عليه سلفه. فكان يدوّن كل ما يتعلمه كما يروي عنه السيوطي: "قال عيسى بن عمر: كنت أنسخ بالليل حتى ينقطع سوائي (يعني وسطه)". وألَّف كتابين، الأول بعنوان «الجامع» وآخر بعنوان «الإكمال».
الشخصية الثانية في هذا الجيل هى أبو عمرو بن العلاء الذي سافر طلبا للعلم. فرحل إلى الشام واليمن وعمان ومكة والمدينة. وكان كثير التدوين لما يتعلمه حتى يقال إن دفاتره "ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف". وامتدحه الفرزدق لمعرفته الواسعة في اللغة:
ما زلت أفتح أبوابًا وأغلقها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
وكان يصحح الأخطاء اللغوية التي يسمعها من رواة الأحاديث كما فعل مع الأعمش. فقد روى الزجاجي عن الطيالسي في «مجالس العلماء» عن المجلس الذي جمع الأعمش وأبو عمرو:
قال لي الأعمش في حديث عبد الله بن مسعود حين خرج على أصحابه فقال: إني لأعلم بمكانكم فما يمنعني من الخروج إليكم إلا مخافة أن أملكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.
فقال له أبو عمرو بن العلاء، وكان إذ ذاك بالكوفة: إنما هو: ((يتخوننا بالموعظة)).
فقال الأعمش: ((يتخولنا))
فقال أبو عمرو: ((يتخوننا)).
فقال الأعمش: وما يدريك؟
فقال أبو عمرو، إن شئت أن أعلمك أن الله جل وعز لم يعلمك من العربية حرفاً واحداً أعلمتك. فسأل عنه الأعمش فأخبر بمكانه من العلم، فكان بعد ذلك يدنيه ويسأله عن الشيء إذا أشكل عليه.
يتخولنا: يستصلحنا.
يتخوننا: يتعاهدنا.
الجيل الخامس
يونس بن حبيب (769م).
رحل في البادية ليجمع أخبار الأعراب ويدون كلامهم من المنابع الأصلية، وقد يكون أول من رحل إلى الأعراب في سبيل دراسة اللغة وسماعها منهم مباشرة. يُنسب له أكثر من خمسة كتب، مثل كتاب «اللغات» و«النوادر» و«معاني القرآن» و«القياس في النحو» و«الأمثال». وروى عنه سيبويه في كتابه الكثير من الآراء النحوية ولعله رجع إلى كتابه في معاني القرآن في استشهاداته القرآنية التي رواها عنه.
وضع معايير لتقسيم الكلام إلى عدة مستويات، مثل اللغة الجيدة أو القبيحة أو الخبيثة. وتكون تلك التصنيفات حسب قِدم العبارات المستخدمة أو موافقتها لكلام الأعراب أو القرآن أو مدى شيوعها وانتشارها.
ومعه ظهر الاشتقاق لأول مرة. يقول ابن دريد في «الجمهرة»: يقال حبرت أسنانه: إذا اصفرّت صفرة غليظة.
قال أبو الزحف الكليبي:
تضحك عن أبيض لم يُثلَّم صاف من الحَبر لذيذ المَبْسم
وقال يونس: من هذا اشتقاق الحِبر الذي يكتب به؛ وأنشد:
ولست بسعديٍّ على فيه حَبْرَةٌ ولست بعبديٍّ حقيبتُه للتَّمْرِ
واشتهرت حلقته العلمية حتى تردد عليها بعض الشعراء ليعرضوا عليه شعرهم أو يسألوه عن مسائل في اللغة، مثل مروان بن أبي حفصة الذي قدم إليه ليعرض قصيدته ليخبره إن كانت جيدة أو رديئة قبل أن يلقيها أمام الخليفة. وجاءه مرة ثانية يستفسر عن معنى بيت لزهير بن أبي سلمى.
الجيل السادس
الخليل بن أحمد الفراهيدي (789م) وتلميذه سيبويه (796م)
تُروى عن الخليل قصص كثيرة تدل على ذكائه الاستثنائي. وتشهد له بذلك إنجازاته العلمية. فهو عقلية عربية فريدة بين مجايليه، وكان "عقله أكبر من علمه" كما لاحظ ابن المقفع حين قابله. حرص على الذهاب إلى الأعراب في بواديهم والأخذ منهم مباشرة.
طوّر علامات التشكيل التي وضعها أبو الأسود الدؤلي. فكان أبو الأسود يستخدم النقاط الحمراء (لتمييزها عن لون خط الآيات) للدلالة على الضمة والفتحة والكسرة. وحين جاء بعده نصر بن عاصم وأضاف النقاط على الحروف المتشابهة صار نقط الإعراب يختلط بنقط الإعجام. وللتمييز بينهما جعل الخليل:
- الفتحة ألفًا صغيرة فوق الحرف
- الضمة واوًا صغيرة فوق الحرف
- الكسرة ياءً صغيرة تحت الحرف
- أضاف علامات جديدة مثل الشدة ورمز إليها بثلاث أسنان مأخوذة من أول كلمة (شديد)
- علامة للهمز وهي رأس عين (عـ)، لقرب مخرج العين والهمزة من الحلق
- علامة للسكون عبارة عن رأس خاء (خـ) مأخوذة من (خفيف)
وفي معجمه «كتاب العين»، أول معجم للعربية، أعاد ترتيب الأبجدية بشكل علمي حسب مخارج الحروف، فكان ترتيبها على هذا الشكل:
ع ح هـ خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ث ذ ر ل ن ف ب م و ا ي همزة.
ظهرت في معجمه فكرة جذور الكلمات، واستخدم فيه التباديل، بحيث يدرس الترتيبات المختلفة للأحرف داخل الكلمة. فمثلا حين يتكلم عن كلمة «قمع» يذكر معها كل التقاليب الممكنة للأحرف ق م ع:
عقم
عمق
قعم
مقع
معق
ويورد معنى كل منها. وفي حال كان الترتيب غير مستخدم في زمنه، مثل كلمة معق، فيذكر أنه مهمل.
ثم تأمل الشعر العربي ولاحظ أنه يسير على رتم معين، ساكن ومتحرك. وجد فيه موسيقى داخلية وحاول فك شفرتها حتى انتهى بوضع علم لم يسبقه إليه أحد وهو العَروض. وفيه جمع ستة عشر بحرا لا تخرج أشعار زمنه وما قبله عنها.
يمكنك أن تلحظ الموسيقى حين تقرأ هذه الأبيات التي على وزن فَعَلُن:
سُئِلوا فَأَبَوا فَلَقَد بَخِلوا فَلَبِئسَ لَعَمرُكَ ما فَعَلوا
أَبَكَيتَ عَلى طَلَلٍ طَرَباً فَشَجاكَ وَأَحزَنَكَ الطَلَلُ
ومن أهم إنجازات الخليل تلميذه سيبويه الذي ألّف «الكتاب» وكان بمثابة الدرة على تاج النحو. فقد جمع علم من سبقه في كتاب جامع شامل، جمع فيه علوم اللغة: النحو والصرف والأصوات. ويعد بمثابة أول موسوعة عربية في المعارف اللغوية. شرح فيه قواعد اللغة كما استقاها من القرآن والشعر والنثر. وضمنه مواضيع صرفية كالتصغير والنَّسَب، ودراسات صوتية كالإدغام والإمالة والإبدال. فهو ثمرة لجهود كل من سبقه منذ أبي الأسود الدؤلي. روى فيه عن الخليل أكثر من 500 مرة وعن يونس بن حبيب أكثر من 200 مرة وعن أبي عمرو بن العلاء 44 مرة وعن عيسى بن عمر 22 مرة وعن ابن أبي إسحاق 4 مرات. وهناك من يعده أول وآخر كتاب في النحو العربي، لأن من جاء بعده لم يضف الكثير، وكان كتاب سيبويه دائما أساس أي كتاب بعده. ولقي تعظيما كبيرًا من النحاة إلى درجة أن بعضهم كان يحفظه كما يحفظ القرآن، وهناك من يختمه كل خمسة عشر يوما.
علاقة النحو العربي بالنحو السرياني
ابتدأ السريان، قبل العرب، في وضع قواعد النحو. وكان دافعهم هو نفسه عند العرب، أي انتشار اللحن بينهم بعد اختلاطهم بالروم وكذلك اعتناقهم للمسيحية، حيث نقلوا إلى السريانية الكتب المقدسة. لم تكن لغتهم يومئذ تحتوي على علامات التشكيل، فاضطروا إلى وضعها وتأسيس علم النحو ليضبطوا قراءتهم للكتاب المقدس في الكنائس على الوجه الصحيح.
أول نحوي سرياني هو يوسف الأهوازي (580م) الذي كان أستاذ مدرسة نصيبين. ترجم إلى السريانية كتاب «الصناعة النحوية» من اليونانية، وكتب رسالة في النحو، واخترع علامات التشكيل. ثم جاء يعقوب الرهاوي (708م)، وكان معاصرا لأبي الأسود الدؤلي، وتوسع في وضع قواعد النحو السرياني واستخدم النقط لتوضيح شكل الحركات. يشرح محمود محمد علي في كتابه «النحو العربي وعلاقته بالمنطق» عمل الرهاوي الذي "أخذ من اليونانية حرف الألف وجعله للفتح، والهاء للكسر، والعين والواو للضم، والحاء للكسر المشبَع، والعين وحدها للضم المُمال إلى الفتح، وجعل صورة هذه الحروف اليونانية صغيرة، وكان أسلوبه في تشكيل الكلمات كتابة الحركات (الحروف الصوائت) مع الحروف الصوامت على السطر، ولم يُكتَب لهذه الطريقة البقاء طويلًا، وتطورت بعدئذٍ، فوُضعت الصوائت كعلامات صغيرة فوق الحروف، أو تحتها، كما أن السريان الغربيين لم يتركوا طريقة التنقيط، بل سارت الطريقتان جنبًا إلى جنب أجيالًا عديدة، ثم فضلت الحركات لوضوحها وسهولتها، فاستعاض السريان بها عن التنقيط".
ويمكننا أن نجد تشابها في بعض المصطلحات النحوية كما يوردها شعبان العبيدي في «النحو العربي ومناهج التأليف والتحليل» فمثلا التصريف عند السريان يسمى Surafa بمعنى فرع أو غصن، والعطف يسمى عندهم Etufya، والفتح عندهم يسمى Petaha. ولعل ذلك بسبب تقارب اللغتين العربية والسريانية نتيجة لأصلهم المشترك، وليس لأن إحداهما أخذت هذه المصطلحات من الأخرى. ولم أجد شيئا يشير إلى اتصال وانتقال معرفي في النحو تحديدا بين من وضع النحو السرياني والعربي. على العكس من ذلك، نجد اختلاف مهم في بداية النحو. فالنحو السرياني بسبب تأثره بالنحو اليوناني يقسم الكلام إلي ثمانية أقسام: الاسم، الفعل، المشترك، الضمير، الأداة، الحرف، الظرف، الرابط. أما النحو العربي فيقسهما إلى ثلاثة فقط. يقول سيبويه في بداية كتابه: "فالكَلِم: اسمٌ، وفِعْلٌ، وحَرْفٌ جاء لمعنّى ليس باسم ولا فعل".
أميل إلى رأي المستشرق كارل بروكلمان في «تاريخ الأدب العربي» والذي يؤكد على أن "أوائل علم اللغة العربية ستبقى دائما مَحوطة بالغموض والظلام؛ لأنه لا يكاد يُنتظر أن يُكشف النقاب بعد عن مصادر جديدة تعين على بحثها ومعرفتها، ومن ثم لا يمكن إصدار حكم قطعي مبني على مصادر ثابتة للحسم برأيٍ في إمكان تأثر العلماء الأولين بنماذج أجنبية".
حجية الحديث النبوي في قواعد اللغة
برزت هذه المسألة في القرن الحادي عشر الميلادي عندما انتبه ابن حزم الأندلسي (1064م) في «الفصل في الملل والأهواء والنحل» إلى امتناع النحويين عن الاستشهاد بالحديث النبوي، واستنكر وتعجب تقديمهم كلام الأعراب على كلام النبي. وكأنما كان يرد على هذا الاستنكار، ذكر ابن السيد البطليوسي (1127م) ثمانية أسباب امتنع بسببها النحويين من الأخذ بالحديث النبوي، وهي: فساد الإسناد، ونقل الحديث على المعنى، الجهل بالإعراب ومعاني كلام العرب ومجازاتها، التصحيف، إسقاط شيء من الحديث، إغفال السبب الموجب لقول الحديث، سماع بعض الحديث دون بعض، النقل من الصحف.
رجع النقاش مرة أخرى في القرن الثالث عشر الميلادي حين استنكر ابن الضائع (1281م)، أحد علماء النحو في الأندلس، على توسع ابن مالك (1273م) في الاستشهاد بالحديث في النحو. وعدّ هذا الفعل مخالفًا لنهج النحاة الأوائل في امتناعهم عن الاستشهاد بالحديث في قواعد اللغة.
مر بنا تصحيح أبي عمرو بن العلاء لخطأ وقع به الأعمش في رواية الحديث. وقد تكون مثل هذه الحادثة تكررت مرات عديدة، وكانت أحد أسباب امتناع النحاة عن الاستشهاد بالحديث النبوي لعدم ثقتهم أن ألفاظه هي ألفاظ النبي، فأغلب رواته إما من الأعاجم أو المولدين وهم يروونه بالمعنى. حتى ذكر بعض النحويين أن سيبويه لم يستشهد بأي حديث نبوي في كتابه.
ينقل محمد الخضر حسين هذا الموقف في بحثه عن «الاستشهاد بالحديث في اللغة»: "ذهب جماعة من النحاة إلى أن الحديث لا يستشهد به في اللغة؛ أي: لا يستند اليه في إثبات ألفاظ اللغة، ولا في وضع قواعدها، ومن هذه الجماعة: أبو الحسن علي بن محمد الاشبيلي المعروف بابن الضائع، وأثير الدين محمد بن يوسف المعروف بأبي حيان، وزعم أبو حيان: أنه مذهب المتقدمين والمتأخرين من علماء العربية، فقال في "شرح كتاب التسهيل": "إن الواضعين الأولين لعلم النحو، المستقرئين للأحكام من لسان العرب؛ كأبي عمرو، وعيسى بن عمر، والخليل، وسيبويه، من أئمة البصريين، والكسائي، والفراء، وعلي بن مبارك الأحمر، وهشام الضرير، من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك -أي: لم يحتجوا بالحديث- وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين، وغيرهم من نحاة الأقاليم؛ كنحاة بغداد، وأهل الأندلس".
لعل أهم سبب في امتناعهم عن الاستشهاد بالأحاديث هو تجويز المحدّثين رواية الأحاديث بالمعنى. يقول ابن ضائع في «شرح الجمل»: "لولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث، لكان أولى وأثبت في إثبات فصيح اللغة كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". والرواة حين يروون الحديث بالمعنى فإنهم يضيفون من كلامهم الذي قد يجانبه الصواب بسبب أعجميتهم كما رأينا في الحديث الذي رواه الأعمش وصوبه له أبو عمرو بن العلاء. وتبديل ألفاظ النبي بمرادفات من عند الراوي لا يسلم منها حتى الأحاديث القصيرة وقد تتعدد على وجوه كثيرة. فمثلا هذا الحديث يُروى بألفاظ متعددة: "زوجتكما بما معك من القرآن". وفي رواية أخرى: "ملكتكها بما معك من القرآن". وفي رواية أخرى: "خذها بما معك من القرآن". وفي أخرى: "أمكناكها بما معك من القرآن". وكان يُنقل عن سفيان الثوري أنه يقول: "إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى".
اشتهر عن «كتاب» سيبويه أنه اكتفى بالاستشهاد من القرآن ومن شعر العرب وترك الحديث النبوي. وربما كان عثمان الفكي أول من تنبه في بحثه «الاستشهاد في النحو العربي» على وجود ثلاثة أحاديث في «الكتاب». وجاء بعض الباحثين بعده وعثروا على حديث أو حديثين إضافيين. وكان سبب غفلة السابقين عن ذلك أن سيبويه حين يورد هذه الأحاديث لم يكن يذكر أنها من حديث النبي، بل كان يوردها مسبوقة بعبارات مثل "أما قولهم.." و"كما قال.." و"من العرب من يرفع فيقول.." و"مثل ذلك.." وغيرها من العبارات كما لو كان يورد عبارات نثرية مشهورة. وهذه الأحاديث التي أوردها موجودة في كتب الحديث وبعضها موجود بألفاظ مغايرة عما ذكرها سيبويه، وهذا ما جعله يتحرز من نسبة ألفاظها إلى النبي.
من أشهر المؤلفات في هذا الموضوع هو كتاب «موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث الشريف» لـ خديجة الحديثي وفيه حاولت أن تتبع الأحاديث التي استشهد بها النحاة الأوائل من أبو عمرو بن العلاء ومن جاء بعده.
في الختام دعونا نتأمل قصة النحوي والملاح التي أوردها جلال الدين الرومي في «المثنوي»:
وعلم التصوف - من بين العلوم جميعًا - هو خير عدة وزاد، يوم موافاة الأجل.
كان أحد النحاة راكبا في سفينة. فاتجه ذلك المغرور نحو الملاح.
وقال: "درست شيئا من النحو؟".
فقال الملاح:"لا".
فقال النحوي: "لقد ضاع نصف عمرك سيدي".
فانكسر قلب الملاح حزنا، ولكنه سكت في تلك اللحظة عن الجواب. وألقت الريح بالسفينة في دوامة، فعلا صوت الملاح مخاطبا النحوي:
"قل لي، هل تعرف السباحة؟".
فقال النحوي: "لست أعرفها أيها المليح البارع الجواب!".
فقال الملاح: "فقد ضاع كل عمرك أيها النحوي! ذلك أن السفينة ستغرق في هذه الدوامة".
فاعلم أن المحو هو المطلوب - في هذا المقام - وليس النحو، فإن كنت محوا فاقفز إلى اليمّ بدون خوف. إن ماء البحر يجعل الميت فوق سطحه. أما من كان حيا فكيف يخلص من البحر؟ وإن ماتت فيك أوصاف البشر، فإن بحر الأسرار يضعك فوق رأسه. فيا من دعوت الخلق حميرا، ها أنت ذا بقيت الآن فوق الثلج تتجول كالحمار! فإن كنت في هذه الدنيا عالم زمانك، فانظر إلى فناء هذه الدنيا وهذا الزمان!
مراجع
الحلقة المفقودة في تاريخ النحولـ عبدالعال سالم مكرم
مراحل تطور الدرس النحوي لـ عبدالله الخثران
المفصل في تاريخ النحو العربي قبل سيبويه لـ محمد الحلواني
الفراهيدي: عبقري من البصرة لـ مهدي المخزومي
تاريخ الاحتجاج النحوي بالحديث الشريف لـ فخر الدين قباوة
مواضيع متصلة