قصة قصيرة: العشاء الأخير



Source: novica.com



هناك أشخاص يعيشون هروبًا يوميًا من حياتهم, إما لأنهم تورّطوا في سلوك دربٍ لم يعودوا يتواءمون معه, أو لأنّ هنالك من فرضها عليهم. عرفت لاحقًا أنّ كلّ الأصدقاء المجتمعين للعشاء الليلةَ هاربٌ بطريقته، ولكلّ واحدٍ منهم سرٌ يكبّله, يخنقه, يعمّق وحدته.
بعض التفاصيل التي سأرويها عرفتها منهم مباشرةً، وبعضها الآخر خمّنتها حسب معرفتي بهم. ففي لحظةٍ ما من حياتهم كان لزامًا عليهم أن يتوقفوا لمصارحة ذواتهم والآخرين. المصارحة التي حاولوا تجنّبها قدر المستطاع، تهربًا من تحمّل المسؤولية. فالمصارحة تحمّل قائلها مسؤولية تبعاتها على متلقيها. لا تستطيع أن تلقيَ عليه ما يعكّر رصيد ذكرياته عنكَ وتطلعاته إليك, وتمضي. الأمرُ أكثر تعقيدًا.

- - -

استيقظت صباح اليوم مترقبًا عشاء الليلة. فمع نهاية كلّ فصلٍ دراسيّ يدعوني أحد الأصدقاء من معهد اللغة الإنگليزية في كاليفورنيا، في ختام دراستهم، واستعدادًا للعودة إلى أوطانهم، إلى حفلةٍ وداعية نملؤها بالذكريات والوعود، حفلةٍ أشبه ما تكون بغروب شمس نهارٍ قضيناه في رحلةٍ مبهجةٍ. ستكون الحفلة الليلةَ في شقتي التي دعوتهم إليها لنتشارك العشاء والحديث الأخير بيننا قبل أن نرحل.
عند الساعة السادسة باشرتُ غسلَ الخضروات وتقطيعها لأعدّ معكرونة پِنّه penne مع الروبيان والسبانخ والمشروم والبصل وصلصة الطماطم على صوت محمود درويش, الآتي من هاتفي, وهو يلقي إحدى قصائده.
قبل تمام الساعة السابعة بقليلٍ وصلت يونجي، هتفت وهي تضع طبقَها على الطاولة الدائرية الواقعة بين المطبخ والصالة, "أعددتُ كيمچي مع الرز المقلي". أشرتُ إلى المعكرونة، "شارفتُ على الانتهاء". تمايلت مبتسمةً تتنسم رائحتها وهي تقترب مني, "أوه، معكرونة بالروبيان! أجزم يا نواف أنك لا تحسن تطبخ غيرها".

يونجي تعدّت الثلاثين من عمرها, إلا أنّ ملامح وجهها ما تزال طفوليةً، وروحها دائمًا مرحةٌ بما يليق مع عملها ممرضةً. كانت ترتدي طِماقًا أسود legging مع بلوزةٍ بنفسجيةٍ عليها صورة سلحفاةٍ سماويةٍ ذاتِ رقبةٍ طويلةٍ (قد يكون ديناصورًا)، وشعرها يلامس منتصف ظهرها. تسعى إلى المحافظة على نمط حياةٍ شبيهٍ بحياتها في كوريا الجنوبية؛ فتحرص على حضور الصلاة كلَّ أحدٍ في إحدى الكنائس الپروتستانتية، وتحضر دروس تفسير الإنجيل مرةً في الشهر، ومذ عرفتها لا أذكر أنّها فوتت الذهاب إلى النادي الصحي إلّا نادًرا، وهي مع ذلك لا تُعَد، حسب المعايير الشرق-آسيوية، نحيلةً بما يكفي. أشياء كثيرةٌ طرأتْ عليها خلال إقامتها هنا، عقلها صار يحمل أفكارًا لم تراودها من قبل، وأسئلةً. خليلها يعمل قسيسًا في كوريا، وهي لم تره منذ سنةٍ تقريبًا. أخبرتني أنّ والدتها اعتنقت المسيحية بعد أن توفيَ والدها بحادث سيارةٍ وهي مازالت تحبو. فنشأت نشأةً دينيةً مغايرةً عن محيطها. لعلّ والدتها ظنّت أنّ حرمانها من زوجها بوفاته المفاجئة, وهو في أواخر عشريناته, كان رسالةً وعقوبةً لها من القدر على حياتها المليئة باللهو واللعب واقتناص الملذات، فخافت أن تُعاقَب أيضا بحرمانها من ابنتها الوحيدة. فما كان منها إلّا أن اختارت تغيير حياتها رأسًا على عقب, وأن تبدّل محيطها وعلاقاتها بشكلٍ كاملٍ، وأن تتطوعّ بجلّ وقتها في خدمة الكنيسة؛ لذلك نشأتْ يونجي وهي تتعلم ألّا تخطو أيّة خطوةٍ قبل أن تتأكدَ من أنّ المسيحَ سيكون موافقًا عليها.
كنت أحرّك المعكرونة التي شارفت على النضوج حين دخل إيتارو ووضع لوحَ التزلج ذا العجلات عند الباب. التفتَ إلينا وحيَّانا، "كيف حالكم؟". حدَّقتْ به يونجي، "أهلاً إيتارو، ماذا جلبتَ معك؟". ابتسم في وجهها ورفع كيسًا يحتوي على زجاجة نبيذٍ أحمر ومجموعةٍ متنوعة من الأجبان ووضعها على الطاولة، ثم أسرع إلى الحمام.
إيتارو أصغرنا، مازال في العشرين من عمره، وملامح وجهه الآسيوية تجعله يبدو أصغر من ذلك بعدة سنوات. قرر أن يدرس الطب في جامعة كيوتو باليابان بعد إلحاحٍ من والديه، وبعثته جامعته إلى هنا ليدرس الإنگليزية لمدة سنة. التقيت به أوّل مرة حين انتقلت إلى هذه الشقة. اعتدنا في عُطَل نهاية الأسبوع أن نستأجرَ الأفلام ونشاهدها برفقة أصدقائنا. هو لا يحسن التصرفَ مع الفتيات, وفي أوقات فراغه يعزف على الفلوت flute. في تلك الليلة كان يلبس شورتًا رياضيًا أبيضَ مع بلوزة سماويةٍ فاتحةٍ.
حدٌقت يونجي في شاشة هاتفي وهي تخفض صوته, "أنت محظوظ في سكنك مع شخصٍ هادئٍ مثل إيتارو. الفتيات اللاتي أعيش معهن مزعجاتٌ جدًا، يا إلهي، فوق ما تتصور". أطفأتُ النار وأضفتُ جبنةً مبروشةً فوق المعكرونة التي يتطاير منها البخار، ثمّ أغلقت القِدر وحملته إلى الطاولة المستديرة، "هو بالفعل هادئ أكثر من اللازم. وغالبًا ما يمكث في غرفته". في تلك اللحظات، وصل إيكارت وقد أحضر سلطةً أعدّها من الكرنب الأحمر والفاصوليا البيضاء والفليفلة الخضراء والذرة مع صلصة الخلّ والليمون. حيّانا ووضع طبقه على الطاولة. متأنقًا كعادته؛ يرتدي بنطلونًا خاكيًا مع قميصٍ برتقاليّ غامقٍ تبرز منه عضلات ساعديه، وحذاءً بنيًا. قامته طويلة، وملامح وجهه هادئةٌ وتعابيره رزينةٌ. يلبس نظارة بإطارٍ أسودَ نحيلٍ ويعتمر قبعةً سوداء عليها حرفي NY متداخلين, يغطي بها صلعته. عمره اثنتان وأربعون سنة زوجته تدير أحد المتاحف الألمانية وهو يعمل مدرسًا جامعيًا للإقتصاد.

الشقة ليست كبيرةً. بعد الدخول من الباب تكون غرفة إيتارو جهة اليمين، والمطبخ على اليسار مفتوحًا على الصالة التي تحتوي على ثلاث كنبات، الأولى كبيرةٌ ومواجهةٌ للتلفاز وعلى طرفيها كنبتين صغيرتين بينهما طاولةٌ خشبيةٌ مستطيلةٌ، ثمّ البلكونة المطلّة على الشارع الرئيس، وقبل باب البلكونة يقع باب غرفتي يمينًا، وبين المطبخ والصالة تقع الطاولة المستديرة.

فتح إيكارت الثلاجة وصاح بي, "لا يوجد إلا ثلاث زجاجات من البيرة!". أخبرته وأنا أرتّب الطعام على الطاولة أن جستن سيجلب معه ما يكفي من البيرة. نبهتني يونجي, "هذه الطاولة لن تسعنا كلنا، لم لا ننتقل إلى الطاولة الأخرى؟". وافقناها وشرعنا ننقل الطعام إلى الطاولة المستطيلة. وفي ذلك الوقت، انضمّ إلينا إيتارو، ووصل جستن حاملًا دزينةً من بيرة "بلو مون" وضع نصفَها في الثلاجة.
جستن لا يحبّ شرب الكحوليات، لكن لم يكنْ يدري ماذا يجب عليه أن يجلبَ معه, ولم يبدِ اعتراضًا حين طلبت منه أن يتكفّل بشراء البيرة. أوّل مرة رأيته فيها كان في حرم الجامعة التي يقع فيها معهد اللغة، خلال وقفة نظّمها الطلبة تضامنًا مع ضحايا إحدى الاعتداءات الإسرائيلية على غزة. كان متلفعًا بالكوفيّة الفلسطينية بين مجموعة طلابٍ يشكلون حلقةً ويحملون الشموع. في المدّة التي عرفته فيها، كانت كلّ علاقاته مقتصرةً على طالباتٍ عربياتٍ مبتعثاتٍ، وكان أكثر أصدقائه من الطلبة العرب. ليس في ملامحه أيّ أثرٍ يدل على والدته الفلبينية. شكله يميل أكثر إلى أبيه التركي. عقله متحررٌ جدًا ومتقبّل لكلّ الناس على اختلافاتهم، يحضر الكثير من الحفلات التي يقيمها الطلبة  في نهاية كلّ أسبوعٍ. شخصيته اجتماعيةٌ ومرحةٌ. في أعماقه يشمئز من خوض حكومته حروبًا غير مسوّغةٍ في الشرق الأوسط، كثيرًا ما عبّر عن تذمّره حيال ذلك, ويسعى إلى المشاركة في المظاهرات والوقفات الاحتجاجية كلّما سنحت له. في تلك الليلة كان يرتدي جينزًا أزرق، عليه بقعٌ باهتةٌ، مع قميص پولو أسود.
تذمرت يونجي, "كلّها أيّام قليلة ونرحل إلى بلداننا". قال إيتارو, "لا أريد العودة إلى اليابان". تساءلت يونجي, "ألا تشتاق لأهلك وأصدقائك؟". زم شفتيه، "والداي تقليديان إلى أبعد الحدود. لديهم تصوّراتٌ مثاليةٌ عن الحياة. يريداني أن أقصرَ اهتماماتي كلها على الدراسة والتفوق فيها، وألّا أقضيَ وقتي في ممارسة الرياضة أو الذهاب إلى السينما أو العزف. يرون كلّ هذه الاهتماماتِ هراءً يصرفني عن بلوغ مرتبةٍ مهنيّةٍ عاليةٍ, وذلك ما لا يليق بي. أتمتّع بحريةٍ وافرةٍ هنا، حين أعود سأختنق".
كلّنا كنّا مدركين لحقيقة أنّ اجتماعنا الليلة قد يكون آخر لقاءٍ بيننا. وأنّ الجميع حين يرحلون سينسى بعضُهم الآخر، وسننهمك في حياتنا اليومية. أليس محزنًا أن هذه الصداقات رغم جمالها وعمقها لا تستمر؟
التفت إليّ إيكارت وسألني, "كم درجة الحرارة الآن في الكويت يا نواف؟". أجبته, "جحيم!". سألني جستن, "هل حسمت أمرك بخصوص إكمال دراسة الماجستير؟". نظرت إليه بكسلٍ, "سأبحث عن وظيفة عوضًا عن ذلك، إن أكملتُ دراستي الآن فسأتجاوز الثلاثين وأنا بعد لا أملك أيّة خبرةٍ في العمل". حدّقت يونجي إليّ، "ماذا عن الزواج؟ متى تتزوج؟". ليس لدي طاقةٌ تكفي لأكرّر إجابتي عن هذا السؤال، ولأختصر سألتها, "ما نوع هاتفكِ؟". رفعت حاجبيها, "سامسونگ گالاكسي". سألتها, "لو علمتِ قبل شرائك له، أنّه قد يفشل عن العمل بنسبة ٦٠٪‏، هل كنتِ ستشترينه؟". أجابت, "طبعًا لا. لماذا أشتري هاتفًا لا يعمل في أغلب الأوقات. سأشتري آيفون عوضًا عنه". رفعت سبابتي وهززتها باتجاهها، "بالضبط! تُظهر الإحصائيات أنّ ٦٠٪‏ من الزيجات تنتهي بالفشل. هناك أصنافٌ عديدةٌ من العلاقات الأخرى، وهي أكثر استقرارًا من الزواج". اعترضتْ, "لكنّ العلاقات الأخرى لا تقدم استقرارًا ولا نموًا، وهي غالبًا ما تكون مؤقتةً, لا تشبع رغباتِك الحقيقيةَ في الانتماء إلى شخصٍ ومشاركة حياتك معه وتكوين أسرةٍ وتربية أطفالٍ. بعد الثلاثين ستملّ من هذه العلاقات، ستسعى إلى علاقةٍ تكون أكثر صلابةً، أكثر عمقًا. حينها ستنظر إلى المرآة لتكتشف كم أضعت من عمرك في سبيل لا شيء". عقّبتُ, "بالرغم من كلّ هذه الأشياء التي توفّرها مؤسسة الزواج والأسرة إلّا أنّها لم تعد متماسكةً, سرعان ما تنهار. الكثير من أصدقائي الذين تزوّجوا شعروا بعد فترةٍ وجيزةٍ أنهم تورطوا في دوامةٍ من الروتين والملل وأعباء نفسية لا تنتهي، بعضهم تغيّرت شخصيته إلى الأسوأ ولم يعدْ يعرف كيف يعود كما كان, بعضهم أنجب أطفالًا ثم أدرك فداحة ما اقترف. كلّهم صاروا يتوقون أكثر وأكثر إلى حياة الحرية والاستقلالية التي تمتّعوا فيها قبل زواجهم". استوضحتْ, "وهل الحلّ أن تنفرَ من الزواج؟ لا تفكّر بسطحيّة يا نواف، تكوين أسرة أمرٌ يختلف عن الهواتف النقالة. أولئك الأزواج يتحمّلون مسؤولية عدم استمرارية زواجهم, وهذه التجربة بالنسبة إليهم ستمنحهم المزيدَ من الوعي في تجربتهم التالية, وستُعرِّفهم على أنفسهم بشكلٍ أعمق. لا تخشَ من التجربة الفاشلة. تكمن متعة الحياة بأنّها سلسةٌ من التجارب غير المتوقعة!". تدَّخل إيكارت, "كلام يونجي منطقي، الزواج يحقق أشياء لا تحققها العلاقات الأخرى؛ لذلك هو كنظامٍ للعلاقات استمرّ عدة آلاف من السنين منذ ابتكرته البشريّة أوّل مرةٍ، وسيظل، فنحن لا نملك نظامًا أفضل منه رغم كلّ ما يعتريه, مع وجود بعض المحاولات هنا وهناك لإيجاد بديلٍ أفضل". سأل جستن, "وما الذي يعتري الزواج؟". ردّ إيكارت دون تفكير, "إنّه يلزم الزوجين على الاكتفاء، جنسيًا، بشخصٍ واحدٍ طوال العمر، وهذا أمرٌ ليس باليسير. فبعد سنةٍ واحدةٍ من الزواج، أضمن لك، أنّك ستبدأ بالتفكير، فقط تفكير لا أقول أكثر, بأشخاصٍ آخرين، وستشعر حينها أنّك مقيدٌ؛ لهذا نجد الكثير من الأشخاص في القرن الماضي قرروا أن يطوّروا الزواج إلى علاقةٍ أكثر انفتاحًا". قاطعته يونجي, "تقصد open relationship؟". هزّ رأسَه قائلًا, "بالضبط. هكذا كان زواج الفيلسوف الفرنسي سارتر مع سيمون، وكذلك كان زواج برتراند راسل، الفيلسوف البريطاني. وهنالك الكثير من الإشاعات على أنّ زواج بعض الفنانين مثل براد بِت مع أنجلينا جولي هو علاقةٌ مفتوحةٌ, وكذلك زواج الممثل ويل سميث". عقّب إيتارو, "رأيي من رأي نواف، الزواج علاقةٌ باتت غير مستقرةٍ جدًّا بالنسبة لجيلنا، لا شكّ أنّنا سنتجاوزه بعد أجيالٍ قليلة, أرى هذا جليًا. رغم كلّ ما نعانيه في اليابان من تناقص السكان عامًا بعد عامٍ, نحن في سبيلنا إلى الانقراض، لكن لا يبدو أنّ هناك أيّ دافعٍ لدى الشباب للإقدام على نمط حياةٍ يتناسب أكثر مع الظروف التي عاشها أجدادنا". تدّخل جستن, "هذه تخبطات بشرٍ لا يعجبهم شيء. الأديان ضَبَطت الأمور وجعلتها واضحةً. نحن لسنا حيواناتٍ, لا يمكن أن نمارس الجنس مع أيّ شخصٍ نلتقيه، لأنّه أعجبنا ثمّ نمضي نمارس الجنس مع شخصٍ آخر, وهكذا دوالَيْك. الزواج يضفي على المجتمع استقرارًا ويحفظ حقوق الزوجين". قلت له, "الأديان جاءت في أزمنةٍ تختلف كليًا عن زمننا الحالي، المجتمعات أكثر تداخلًا وتعقيدًا اليوم". أصرّ جستن, "مهما حاولنا، لن نستطيع أن نصلَ إلى قوانين أفضل من القوانين الّتي اختارها لنا الرب". اعترض إيكارت, "لا أعتقد أنّ ثمة نموذجًا واحدًا مناسبًا الجميع؛ لذلك أرى في العلاقات المفتوحة حلًا جيدًا للكثيرين". تساءل جستن, "ألا ترى في هذه العلاقات استغلالًا للمرأة من الرجل الذي لا يريد أن يرتبط بامرأةٍ واحدةٍ؟ ما الفرق بينه وبين الخيانة إذًا؟ وماذا نفعل بالغيرة وهي غريزةٌ طبيعيةٌ عند كلّ الناس؟". اعتدل إيكارت في جلسته, "لا شك أنّ الغيرة غريزةٌ طبيعيةٌ عند الكل, لكنّها ليست مقصورةً على الزواج، فأنت تغار من زميلك في العمل إذا أطال مديرك في مدحه, وتغار إذا رأيتَ أقرب أصدقائك يقضي الكثير من الأوقات مع صديقٍ غيرك, لكنّك تعلّمتَ أن تكبتَ هذه الغيرة في تلك العلاقات, فلماذا حين نأتي إلى الزواج يصرّ كلّ شخصٍ على ألّا يتلفّظ قرينه بأيّ إطراءٍ على أحدٍ غيره، وألّا يُعجب بشخص غيره وألّا يحب شخصًا آخر؟ لا أرى سببًا مقنعًا لذلك سوى عدم النضج والأنانية. أمّا الخيانة, فقد يرى الزوج أنّ زوجته خانته حين تحتسي كوبًا من القهوة مع رجلٍ آخر, وقد لا يرى زوجٌ ثانٍ أنّ في ذلك خيانةً. قد ترى الزوجة أنّ زوجها يخونها حين يطيل التحديقَ إلى نادلات المطاعم الجميلات، أو حين يمارس الرياضة مع فتاةٍ يقابلها في النادي الرياضي، وقد لا ترى زوجةٌ أخرى أنّ هذه الأفعال تبلغ مرتبة الخيانة، فليس هناك تصرفٌ واحدٌ يتفق الجميع على تصنيفه بوصفه خيانةً. فالخيانة هي كسر القواعد المتّفق عليها، طالما أنّ هنالك اتفاقًا بينهما حول ما يجوز وما لا يجوز, يصير الخائن هو من يتجاوز ما اُتفق عليه, وهذا يختلف من شخصٍ إلى آخر. وليس في العلاقات المفتوحة أيّ استغلالٍ للمرأة, بالعكس, هي تجعل المرأة في مرتبةٍ متساويةٍ مع الرجل, لها الحقوق ذاتها التي له، وليست أداةً لنزواته". تدّخلت يونجي, "لا أتخيّلني أبدًا في علاقةٍ مفتوحةٍ. الغيرة تنهش قلبي". ضحك إيكارت, "لكل شخص ما يلائمه".

بعد أن انتهيت من تناول العشاء، أخذت علبة السجائر وتوجّهت إلى البلكونة. هتف بي إيكارت, "سأجلب بيرة من الثلاجة وأتبعك". كان الهواء لطيفًا. سياراتٌ قليلةٌ تعبر الشارع، وأفراد متناثرون يتجولون على أقدامهم. رنوت إلى السماء المرقشة بالنجوم، هذا العدد الوافر من النجوم يبعث في النفس طمأنينةً، مهما ابتعدتْ فثمَّة أعين تلحظني وتحيطني بعنايتها. أشعلت سيجارةً وخرج إليّ إيكارت حاملًا زجاجتيّ بلو مون, ناولني واحدةً وناولته السيجارة وأشعلت ثانية. كان قرار إيكارت بأن يأخذ إجازةً مفتوحةً ليطوّر لغته الإنگليزية، هو في حقيقته محاولةً للابتعاد عن حياته التي تسير على نفس الرتم في السنوات الأخيرة, وعلاقته مع زوجته التي غدت دوامةً لا فكاك منها من الرتابة بعد زواجٍ بدأ قبل  سبع عشرة سنةٍ، بعد علاقة حبٍ كانت عميقة.
رفع إيكارت قبعته لتكشف عن رأسه الأصلع، وارتسمت على وجهه ابتسامةٌ باهتةٌ وهو ينظر عاليًا, "أمارس الرياضة وأتناول طعاما صحيًا.. سيجارةٌ واحدةٌ من حين لآخر لن تؤثر". ارتدى قبعته وأخذ نفسًا عيمقًا من السيجارة. بعد لحظاتٍ من الصمت تكلمتُ أخيرًا بملامح محايدة, "بعد أيامٍ قليلةٍ سأرجع إلى بلادي، أجّلت هذه اللحظة أكثر من مرة. لم أعد قادرًا على تأجيلها أكثر". التفت إليّ بابتسامةٍ ساخرةٍ, "أنت مكثتَ هنا ثلاثَ سنوات فقط تتعلم اللغة. لو كانت اللغة الصينية لانتهيت من احترافها منذ زمنٍ طويلٍ". ضحكتُ, "ومازلتُ لا أُتقن الإنگليزية". سألني, "لماذا لا تريد العودة, ألهذه الدرجة أحببت الحياة في كاليفورنيا؟". أجبته, "هل تعرف الصدمة الثقافية العكسية reverse culture shock؟ أن تعتاد الحياة في ثقافةٍ بعيدةٍ عن ثقافتك الأصلية وتتكلم بلغةٍ غير لغتك الأم حتّى في مناماتك, وتكوّن علاقاتٍ وثيقةً مع أشخاص من تلك الثقافة, ثمّ بعد طول انقطاع, تحاول الدخول مرةً أخرى إلى ثقافتك الأصلية ومجتمعك ولغتك وأصدقائك، لتكتشف حجم تغيّرك عنهم, ومدى صعوبة الانضمام إليهم مجددًا كنسخةٍ مكررة لما كنتَ عليه سابقًا, وأن تحاول تتأقلم مع محيطك الجديد-القديم؟ هذه عمليةٌ ليست يسيرةً, الكثير ممّن عادوا إلى بلادهم غمرهم شعورٌ فظيعٌ بالصدمة, والكآبة, والرفض. صار همّهم الوحيد هو الفرار من هذا الواقع الجاثم. كلّما سمعت قصة أحدهم، أفكر أنّ عليّ أن أؤجلَ هذه اللحظة ما أمكنني, لعلّ أمرًا يحدث في المستقبل, لكن للأسف لم يحدث شيئًا". اتسّعت عيناه، "أعرف هذا الشعور، خبرته حين عدت في الإجازة الماضية إلى ألمانيا. لم يكن شعورًا مريحًا. لا أحد يستطيع أن يفهم ما مررتُ به، لا يبدو أن أحدًا يكترث. يمكنني أن أرى بوضوحٍ الفرق الجلي بين تفكيري وتفكير كلّ من هم حولي هناك. كنت فقط أفكّر بالعودة إلى هنا. زوجتي أحسَّت أن شيئًا ما قد تغيّر، لكن ليس بيدي حيلة". سألته, "ألا تريد أن تجدَ عملا هنا؟". صارحني, "بلا أدنى شك. قدَّمت أوراقي على أكثر من جامعةٍ وأنتظر الرد". استفسرت, "ماذا عن زوجتك؟". أخذ رشفةً, "هي لا تريد العيش خارج ألمانيا. عندما عدت في الإجازة السابقة أخبرتها بنيتي العمل في الخارج، لكنّها لا تريد. بتُّ ألحظ كيف أنّ كلينا يفكّر بشكلٍ مختلفٍ، يبدو أنّني تغيرت كثيرًا خلال مكوثي هنا، أو ربما منذ اللحظة التي قررت فيها القدوم إلى هنا, لا أدري. وجدت ذاتي التي افتقدتها قبل عدة سنواتٍ. بالمناسبة, حدَّثتني أيضا عن حلمٍ أقلقها كثيرا". تساءلت, "حلم؟". تكلم بجدية, "تقول إنّها رأت هذا الحلم مرارًا. نحن الاثنان نمسك بأيدي بعضنا بعضًا ونسير في سرورٍ على حافة جبٍل, إلى أن مرّت غيمة إلى جانبنا فقفزت إليها وناديتها، أن اقفزي، لكنّها خشيت الوقوع. ظللنا ننظر لبعضنا بعضًا والغيمة تبتعد. هبط طائرٌ أحمرُ فوق رأسي، فانشغلت به. صرخت تناديني بأعلى صوتها 'إيكارت، إيكارت، إيكارت'. لكنّ الغيمةَ ابتعدت كثيرًا، وتوارت في الأفق، والعصفور ما يزال على رأسي". بادرته, "ماذا يعني هذا الحلم؟". ألقى بعقب سيجارته من البلكونة, "لا أراه يحتاج إلى تفسيرٍ".
لم يكن لدى إيكارت ما يشتكي منه في زوجته. بينهم تفاهمٌ كبيرٌ, وهي تسانده لأبعد مدى, وتحبّه. لكنّ ما يثقل كاهله أنّه هو الذي تغيّرت مشاعره, لا يعرف كيف ولا لماذا. لم يعد يجد أيّة إثارةٍ في حياته معها. يخشى أن يحطّم قلبها, ويهدم هذه الحياة المستقرة. لا يريد أن يكون سببًا في إيذائها، وفي الوقت نفسه، يشعر أنّ حياتَه معها وصلت إلى طريقٍ مسدودٍ, ولا يريد أن يقضي بقية حياته مع إنسانة لم يعد يحبها كما كان. باتت تستهلكه ببرودٍ، لا يدري ماذا يجب عليه أن يفعل. لعلّه يعرف بالضبط ماذا يجب عليه أن يفعل; أن يصارحها. لكنه لا يريد تحمّل مسؤولية ما سيتبع تلك المصارحة، والأثر الذي سوف تتركه مصارحته فيها. مشكلة الصراحة أنّها تحتّم عليك أن تضع في عين الاعتبار كيف سيعيش متلقيها مع نتائجها.

حين خرجنا من البلكونة، كانت الأضواء خافتةً والأصدقاء يتابعون مسلسل House of Cards. زجاجة النبيذ تتوسط الطاولة مع صحنٍ فيه قطعٌ متنوعةٌ من الأجبان. وكأسان أمام يونجي وإيتارو. جميعهم يتابعون أحداث المسلسل مشدوهين. انغمست في الكنبة, يلفحني هواءٌ آتٍ من باب البلكونة المفتوح, مال رأسي إلى اليمين, وبعد لحظاتٍ قليلةٍ غفوت.

- - -

بعد تلك الليلة سافر كلّ واحدٍ منا إلى بلده باستثناء جستن. ومع الأيام خبا تواصلنا وانشغلنا بحياتنا. إيتارو خرج من منزل والديه وترك دراسة الطب. صار يعمل أيّام الأسبوع كمرشدٍ سياحيّ للزائرين الذين يريدون التعرف على معابد كيوتو. في عطلة نهاية الأسبوع يعمل مع فرقته الغنائية في حانة زاك باران Zac Baran في سرداب جامعة كيوتو. في آخر محادثةٍ بيننا شرح لي سبب قراره, "حين تحاصرك ظروفٌ لا تملك الخلاص منها, تصير بين خيارين: إمّا أن تمضي لحظات عمرك حنقًا وألماً, أو أن تتعلم كيف تتأقلم معها إلى أن تواتيك فرصة للنفاذ". إجادته للغة الإنگليزية فتحتْ له بابًا مكّنه من العمل في وظيفةٍ يجني منها ما يكفيه من مالٍ ليستقلّ ويزاول الحياة التي يريدها هو.

أمّا جستن فقد اعتنق الإسلام. أعفى لحيته, ونشط في جمع التبرعات لمساعدة المحتاجين. غدت صفحته في في الفيسبوك خاليةً إلا من أخبار الحروب الدائرة في الشرق الأوسط. ما يزال صوته يرنّ في أذني, "الظلم أعلى مرتبات الشرّ. غايتنا في الحياة أن نقيمَ العدل".

أما يونجي فعلى العكس من جستن. فقدت كل اهتمامٍ دينيّ, ولم تعد مسيحيةً. كانت تشعر دائمًا أنّ الدين يكبّلها بقيودٍ لا ترى لها مسوّغًا. غلب عليها الشكّ في كلّ معلومةٍ كانت تعرفها. كانت تقول, "الرومان كانوا يدوّنون كلّ شيءٍ, كيف فاتهم أن يدونوا أيّة معلومةٍ عن حياة يسوع وموته، لو كان موجودًا بالفعل في ذلك الوقت كما أخبرنا كتبة الأناجيل؟". أخبرتني أنّها ما تزال تملك السيرة الذاتية لستيفن هاوكينگ التي استعارتها مني حين كنّا في كاليفورنيا. لدهشتها, لاحظت أنّ قرارها بعدم الاستمرار في ممارستها الدينية, عوضًا عن أن يحررها من الدين, حاصرها دينيًا بشكلٍ أعمق. فصارت تقرأ بنهمٍ كتبًا في تاريخ الأديان, وكتبًا مقدسةً لأديانٍ أخرى, وتتابع مناظراتٍ دينيةً تلفزيونية, وتحضر جلسات نقاشٍ فكريةٍ. استمرت هكذا لمدة سنةٍ ونصف. إلى أن قررت أخيرًا أنّها لا تريد لحياتها أن تضيع هدرًا في هذه المجادلات. امتنعت عن تصنيف نفسها دينيًا. فهي ليست مسيحيةً, ولكنّها في الوقت نفسه ليست ملحدةً. لم تعد هذه المسألة تحتلّ أيّة مساحةٍ من الاهتمام لديها. حين قررتْ أن تصارح خطيبها بعزمها على مفارقته, لم يبدُ عليه أيّ تأثر, بدا صلبًا وواثقًا. كأنّه توقّع ذلك. في أقل من عشر دقائق طُويَت صفحتهما.
بعد انتهاء علاقتها بعامين, تعرّفت عبر إحدى صديقاتها إلى رجلٍ أمريكيّ من أصلٍ كوريّ يمتلك شركةً عقاريةً في الولايات المتحدة الأمريكية, وكان في زيارة لكوريا. هي الآن ترتّب لانتقالها إلى العمل في مستشفى جون هوبكنز بولاية ميريلاند.

إيكارت ما يزال يعيش مع زوجته وابنه الذي يدرس في الجامعة وابنته التي في الثانوية. محاولته لتجنب إيذاء مشاعر زوجته لم تفلح. رغم أنّه لم يصارحها بأيّ شيء, إلا أنّها كانت تشعر به, كانت تشعر بكلّ شيء. درّس لمدة سنة كاملة في الجامعة بعيدًا عن عائلته. وخلال تلك الفترة كانت له بعض العلاقات العابرة. كانت زوجته تتمثّل أمامه في كلّ مرة يمارس فيها الجنس مع امرأةٍ أخرى. علاقاته لم تذهب بعيدًا, سرعان ما كانت تخبو إثارتها بعد أسابيع قليلةٍ ليدرك أن لا شيء  يجمعه مع هذه المرأة أو تلك. ثم يطفو حنينه إلى زوجته مجددًا. قال لي, "الحبّ وحده لا يكفي. العلاقات يلزمها تطويرٌ دائمٌ من كلا الطرفين ومتابعة حتى تحافظَ على استمراريتها". هو الآن أكثر سعادةً بعد أن تأكد أنه أكثر انسجاما في العيش مع عائلته.

- - -

قبل أيامٍ قليلةٍ, بينما كنت أرتّب أدراجي المكتظّة بأشيائي القديمة, عثرتُ على قطعة فلاش ميموري حفظت فيها مئات الصور التي التقطتها في كاليفورنيا. جلست أشاهدها واحدةً تلو الأخرى. لم أنتبه إلا بعد مرور أكثر من ساعةٍ كاملةٍ من الحنين. الصور لم تكن كافيةً لاستدعاء كلّ عناصر الذكريات. أغلقت اللابتوب, وأخرجت زجاجة بلو مون من الثلاجة، تناولت الفتّاحة من درج المطبخ وفتحت الغطاء، مسكت كأس ستاين stein بيدي اليسرى وأملته جهة اليمين، صببت البيرة ببطءٍ حتى امتلأ. تابعت انبعاث الفقاعات من قاع الكأس حتى غمرت أعلاه بالزبد. رشفت رشفةً وأغمضت عينيّ وأنا أستشعر برودة السائل وهو يتمدد في فمي، ثم أشعلتُ سيجارة بينما أُنصت إلى صوت محمود درويش الآتي من هاتفي:

وجدتُ نفسي حاضراً مِلْءَ الغياب.
وكُلَّما فَتَّشْتُ عن نفسي وجدتُ الآخرين.
وكُلَّما فتَّشْتُ عَنْهُمْ لم أَجد فيهم سوى نَفسي الغريبة،
هل أَنا الفَرْدُ الحُشُودُ؟
[..]
وأَنْظُرُ نحو نفسي في المرايا:
هل أَنا هُوَ؟
هل أُؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل الأخير؟
وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض،
      أَم فُرِضَتْ عليَّ؟
      [..]
وجلستُ خلف الباب أَنظُر:
هل أَنا هُوَ؟
هذه لُغَتي.
وهذا الصوت وَخْزُ دمي
ولكن المؤلِّف آخَرٌ…
أَنا لستُ مني إن أَتيتُ ولم أَصِلْ
أَنا لستُ منِّي إن نَطَقْتُ ولم أَقُلْ
أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ:
اكتُبْ تَكُنْ!
واقرأْ تَجِدْ!
وإذا أردْتَ القَوْلَ فافعلْ،
يَتَّحِدْ ضدَّاكَ في المعنى …

وباطِنُكَ الشفيفُ هُوَ القصيدُ