تاريخ الكلمات



والدي لا يزال يقرأ القاموس كل يوم. يقول إن حياتك تعتمد على مدى قدرتك على إتقان استخدام الكلمات.
آرثر سكارجيل




للكلمة حياتها الخاصة, تولد وتنمو وتموت, وتأخذ عبر الزمن أشكالا شتى. تسافر مع بعض البشر وتستقر في بعض المحال, وفيها تكمن روح الناطقين بها. لطالما حاولت تتبع تاريخها بين ثنايا الكتب, وسأشارككم ببعض ما وجدت منه, في محاولة للتأمل والفهم, ولاستنطاقها إن أمكن.

تاريخ كلمة "شعر" من كتاب ملحمة كلكامش لطه باقر:

وقبل أن نتكلم عن الشعر في هذه الحضارة, ولاسيما الشعر البابلي, يجدر أن نذكر أن الباحثين يجمعون على أن الشعر كان أقدم ما زاوله الإنسان من الفنون الأدبية, كما يرجح كثيرا أن أصل الشعر كان من الغناء والانشاد الشعبي, ومما يقوي هذا الرأي أن الكلمة التي تطلق على الشعر في أدب حضارة وادي الرافدين وهي كلمة "شيرو" البابلية و"سيرْ" أو "شِر" SIR السومرية التي ظهرت في نظام الكتابة المسمارية منذ أول ظهور الكتابة تعني في أصلها الغناء والانشاد والترنيم. ولا يمكن الجزم هل أن أصل كلمة الشعر السومرية (سرْ أو شرْ) مأخوذة من الكلمة البابلية "شيرة" (شرو) أو العكس وهو الصحيح. على أنه مما يؤيد الأصل البابلي أن هذا المصطلح اللغوي موجود في جميع اللغات العربية القديمة (السامية) مثل "شير" العبرانية و"شور" الآرامية (وكلها فقدت حرف العين), ومن ذلك المصطلح العبراني "شير هَشَّريم" (نشيد الانشاد المنسوب إلى سليمان في التوراة). ومن قبيل ذلك, ما جاء في المآثر العربية عن أصل العروض والوزن في الشعر أنه من الغناء وحداء الأبل, والمصطلح الأدبي المألوف في رواية الشعر: "وأنشد فلان …. ".


ويرى بعض علماء اللغات السامية أن الكلمة التي تفيد معنى الشعر فيها واحدة مأخوذة من أصلها العربي مع قليل من التحريف طرأ عليها بعد انتشار الساميين في وادي النهرين وبادية الشام وأرض كنعان. ويقول العالم القس الأب مرمرجي في كتابه المعجميات: "إن لفظة الشعر كانت تدل قديما على الغناء وإن لم ترد بهذا المفهوم في المعاجم التي بين أيدينا، ويمكن الاستدلال على ذلك بوسيلة المقارنة الألسنية السامية؛ إذ أننا نجده في أقدم اللغات السامية من حيث الآثار المكتوبة -أي اللغة الأكدية- كلمة (شيرو) الدالة على هتاف الكهان في الهياكل، ومن الأكدية انتقلت اللفظة إلى العبرية بصورة (شير، وشيره) ومعناها النشيد، ومنها صيغ الفعل المرجل (شير) بمعنى أنشد وغنى، ثم إلى الآرامية بصورة (شور) بمعنى أنشد، رنم، غنى؛ ومن ذلك جاء اسم سفر من أسفار العهد القديم وهو (شير هشيريم) أي: نشيد الأناشيد، وقد ورد الفعل العبري (شير) في أقدم أثر للغة العبرية وهو نشيد النبية دبورت، يليه مرادفه (زامر) وكلاهما بصيغة الحاضر (اشيره) أي: أنشد وأزمر. والجدير بالملاحظة كما أشار إلى ذلك لانجدون Langdon أن العبارة الأكدية (زاما شيري) تطابق كل المطابقة العبارة العبرية (مزمورشير) ومفرداههما في العبرية (مزمور، نشيد، أو شعر) … هذا ومعلوم أن أغلب الأحرف الحلقية -ومنها العين- قد سقطت في الأكدية، أو أنها كانت تُلفظ دون أن تمثلها علامة في الكتابة؛ لأن الرسم المسماري المستعار للأكدية السامية من الشمرية غير السامية كان خاليا من العلامات للحلقيات، لخلوِّ الشمرية منها؛ ولهذا جاز لنا افتراض أن كلمة (شيرو) كان أصلها أو لفظها (شعرو) إلا أنها ولجت العبرية والآرامية وهي خلو من العين كما كانت مصورة في الرسم المسماري، أما العربية فقد ظهرت أو بقيت فيها العين الأصلية … على أن العربية والعبرية قد احتفظتا بالكسرة المحرَّكة بها الشين في الأكدية (شيرو)، فجاء في العبرية (شير) وفي العربية (شعر)، والكلمة (شيرو) مشتقة حسب معناها في الأكدية والعبرية، أي: معنى الهتاف ثم الغناء…"


وكلمة "صلاة" آراميّة في الأصل أخذت من أصل "ص ل ا" "صلا" ومعناها ركع وانحنى. ثم استعملت في التعبير عن الصلاة بالمعنى الديني المعروف, ثم استعملها اليهود فأصبحت لفظة آراميّة عبرانيّة, دخلت العربية قبل الإسلام عن طريق أهل الكتاب. استعمل اليهود هذه الكلمة: "صلوته", في الأزمنة المتأخرة من عهد التوراة, حتى أصبحت كلمة مألوفة ذات معنى ديني خاص, وفي كتاب اللغة: "وصلوات اليهود: كنائسهم. وفي التنزيل "لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد". قال ابن عبّاس: هي كنائس اليهود, أي مواضع الصلوات, وأصلها بالعبرانية صَلُوتا".
وقد لاحظ بعض المستشرقين أن لفظتي صلاة وزكاة لم تكتبا على الشكل الذي ندوّنهما في الزمن الحاضر, وإنما كتبتا بحروف الواو في صدر الإسلام: "صلوة" و"زكوة". وقد رجعوا في ذلك إلى الأثر الأرمي في أصل الكلمة, إذ تكتب الصلاة "صلوتو" "Slouto" "صالوته" "صلوته" في لغة بني أرم, وتكتب الزكاة "زكوات" عندهم. وأصلها من "زكى" و"دكي" ويعني التطهير.
وقد زعم بعض المستشرقين أن لفظة "صلاة" لم تكن معروفة قبل الإسلام, وإنما دخلت العربية من القرآن الكريم, تعبيراً عن الفرائض المعروفة. وهو رأي يحتاج إلى دليل, إذْ ليس في استطاعة أحد الادّعاء أننا أحطنا علماً بلغة الجاهليين وبمصطلحاتهم وبجميع عقائدهم, حتى نقول بهذا الرأي. ولعلّ الأيّام تكشف لنا في المستقبل عن نصوص جاهلية مدوّنة بأقلامهم, قد تبتّ في أمثال هذه الأمور.
أما إذا كانوا قد قصدوا من قولهم ذلك أنّ الصلاة, بالمعنى الإسلامي أو الطريقة اليهودية أو النصرانية, لم تكن معروفة عند الجاهليين الوثنيين, فذلك رأي صحيح سليم, لا يمكن أن يخالفه أحد. فالصلاة المعروفة, أي الصلاة الإسلامية, هي صلاة نزل الأمر بها في الإسلام, فهي لذلك غير جاهلية, وهي إذن لم تكن معروفة عندهم. وأما الصلوات اليهودية والنصرانية فلم تكن معروفة عن الجاهليين عبدة الأصنام والأوثان, لأنهم لم يكونوا يهوداً ولا نصارى, فلم يعرفوا صلاة اليهود ولا صلاة النصارى, خلا أولئك الذين كانوا على اتصال بهم, فقد عرفوها ووقفوا عليها, بدليل ما ورد في شعر بعض الجاهليين من ذكرهم لها من إشاراتهم إلى بعض شعائرهم من ركوعٍ وسجود وتسبيح.
[.....]
وفي اليهودية صلوات يومية, صلوات أيام السبت, وصلوات رأس كل شهر, وصلوات في المناسبات مثل الأعياد ونهاية أيام الصوم, وصلوات على الجنائز, وأمثال ذلك. ونجد في التوراة تهجداً كان يقوم به الأنبياء والقضاة, وصلوات أخرى كانوا يقومون بها ثم تركت بعد ذلك.
أما الصلوات اليومية فهي صلاة الصبح, وصلاة الليل, ويقال لهما "شماع" أي "سماع", وهي صلاة تُقرأ فيها فقرات معيَّنة من التوراة. وسبب تسميتها بـ"شماع" "سماع", هو ابتداؤها بكلمة الشهادة وهي "يشمع يسرائيل", أي: "اسمع يا إسرائيل", وهي شهادة بني إسرائيل, يؤديهما اليهودي عند نهوضه من نومه وعند ذهابه إليه. وهم يعتقدون أنها تحمي الإنسان من الأذى, وتبعد عنه الشر والأرواح المؤذية, وتكون له بمثابة سيف ذي حدّين يحارب كل شانئ وحسود وأرواح مؤذية, كما أنها تطفئ نار جهنم "جهنوم" على من يؤديها ويقرأ "الشماع".
ثم الصلوات الثلاث الأخرى التي يقال لها "تفيله" "Tephillah" وهي: صلاة السحر "تفيله هشحر" وتسمى بـ"شحريت" أي "السحر" اختصاراً, وتُقام في الصباح, ولذلك عرفت بصلاة الصبح أيضا, وصلاة العصر, وتسمى بـ "تفيله همنحه" وبـ "منحه", أي العصر اختصاراً, وصلاة المغرب, ويُقال لها "تفيله هعربيت", و"عربيت" اختصاراً, أي المغرب والغروب.
فمجموع صلوات "الشماع" و"التفيله" هي خمس صلوات, يؤديها اليهودي في اليوم, وهي "الصلوات الخمس".

تاريخ كلمة "الطائف" من كتاب أمية بن أبي الصلت لبهجة الحديثي:

واختلف المؤرخون في سبب تسميتها بالطائف, قيل إن اسمها القديم "وج" نسبة إلى وجّ بن عبدالحي, من العماليق وهو أخو "أجأ" الذي سمي به جبل طيء, وهم من الأمم الخالية. ويؤيد هذا ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن آخر وطأة وطئها الرحمن عز وجل بوج". قالوا: يريد: إن آخر ما أوقع الله بالمشركين "بوج" وهي الطائف. ويقول أمية يذكر دار قومه "وج":
إنَّ وجا وما يلي بطن وج دار قومي بربوة ورتوق
واختلف في "وج" هذا, فقيل إنه اسم لحصون الطائف, وقيل إنه واد في الطائف, وجاء عن أهل اللغة: أنه اسم لبلد الطائف كلها. قالوا: كان ذلك ولم تكن محصنة, فلما حصّنت وبني سورها سميت بالطائف.
واختلافهم بسبب تسميتها هذه يوحي لنا بما كانت لها من مكانة بين مدنهم, لأنهم رأوها لا تشبه غيرها من مدن الحجاز القاحلة, ورأوها -في جوها ومناخها وأشجارها- تشبه الشام. ومن هنا ذهب بعض المؤرخين إلى أن سبب تسميتها بالطائف لأنها -من طوفان نوح- انقطعت من الشام, وحملها الماء وطافت في الأرض حتى رست في هذا الموضع.
وهناك تسمية تنعكس عليها الناحية الدينية, إذ يرى بعض المفسرين أن سبب نقلها من الشام أو فلسطين كان استجابة من الله عز وجل لدعاء نبيه إبراهيم عليه السلام, إذ جاء على لسانه في القرآن الكريم: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون".
قالوا: فنقل الله ارض الطائف هناك رزقا للحرم, واستجابة منه لدعاء نبيه. ورووا عن ابن عباس أنها سميت بالطائف لأن الله لما نقلها من الشام طافت بالبيت واستقرت بالطائف. وقيل إنها اقتطعت من اليمن.
وهناك تسمية تتعلق بما كان من الخلاف بين سكانها وبين أقاربهم أهل الصحراء, مما اضطرهم إلى بناء حائط أو سور, ليحموا أنفسهم من غارات المغيرين. فقد كانت قديما بين ولد ثقيف وولد عامر بن صعصعة, فلما كثر الحيان قالت ثقيف لبني عامر: إنكم اخترتم العَمَد على المدر والوبر على الشجر, فلستم تعرفون ما نعرف, ولا تلطفون ما نلطف ونحن ندعوكم إلى حظ كبير: لكم ما في أيديكم من الماشية والإبل. والذي في أيدينا من الحدائق فلكم نصف ثمره, فتكونوا بادين حاضرين, يأتيكم ريف القرى ولم تتكلفوا مؤوونة. وتقيموا في أموالكم وماشيتكم ولا تتعرضوا للوباء وتشتغلوا عن المرعى ففعلوا. فلما اشتدت شوكة ثقيف وكثرت خيرات "وج" رمتهم العرب بالحسد, وطمع فيهم من حولهم, فاستنجدوا ببني عامر فلم يفعلوا, فأجمعوا على بناء حائط يكون حصنا لهم, فكانت النساء تلبِّن اللِبن والرجال يبنون الحائط حتى فرغوا منه. وسموه "بالطائف", لإطافته بهم, وجعلوا لحائطهم بابين, أحدهما لبني يسار والآخر لبني عوف. ثم جاءهم بنو عامر ليأخذوا ما تعودوه فمنعوهم وجرت بينهم معركة انتصرت فيها ثقيف وتفردت بملك الطائف, فضرب بهم العرب مثلا. قال أبوطالب بن عبدالمطلب:
منعنا أرضنا من كل حيّ كما امتنعت بطايفها ثقيف
أتاهم معشرٌ كي يسلبوهم فحالت دون ذلك السيوف
[…]
وهناك تسمية تشير إلى كثرة العنب فيها, حيث جاء في سبب تسمية ثقيف أنه والنخع ابن خالته خرجا في نجعة ومعهما غنيمة لهما وفيها شاة حلوب ولها جدي صغير, فعرض لهما مصدق أحد ملوك اليمن فأرادهما على أخذ الشاة فلم يوافقا, ورماه أحدهما بسهم فقتله فافترقا, فنزل ثقيف عن عجوز يهودية فاتخذها امًا واتخذته ولدا, فلما حضرتها الوفاة أعطته شيئا من المال وقالت له: خذ هذه القضبان من العنب, فإذا نزلت واديا تقدر فيه على الماء فاغرسها, فلما وصل إلى "وج" التقى بأمة ومعها غنم فأسر في نفسه قتلها وأخذ ما عندها من الغنم, فعلمت بأمره وأشارت إليه أن يذهب إلى عامر بن الظَّرب العدواني, سيد قيس وحكمها, فلما ذهب إليه أمَّنه وزوجه وغرس هناك القضبان التي معه فنبتت وأطعمت. وبني المكان فسمي "الطائف", لأنه طاف البلاد وسكن بها.
[…]
وإني أرجح أنها سميت بالطائف لإطافة حائطها بها أو لكونه مبنيا من الطوف وهو اللبن.


يذكر صاحب اللسان, بأسلوب فيه الكثير من الحياد حديث الغرانيق بعد أن أورد قصّة غرنوق كان قد دخل في نعش ابن عبّاس, ابن عمّ الرسول, "ولم يخرج منه حتى دُفن". ثمّ يمضي بعدها في مناقشة مسهبة عن تركيبة لفظ "غُرنوق" الذي لا يقبل حسب قوله التحويل إلى جذر ثلاثي. وإن أردنا تطويع هذه الكلمة لاستخراج ثلاثي منها لا يعود بإمكاننا إلاّ اعتبار النون حرفا زائدا فيها, وهو فرض لم يقبله اللّغوي سيبويه بقوله إنّ هذا الحرف أصلي في لفظ "غُرنوق". لم ير النحوي ابن جنّي في هذا القول حجّة محكمة, إذ رفض الأخذ بما اعتبرها دعوى عارية عن الدليل, فسأل أستاذه أبا عليّ الفارسي الّذي حاول تعليل ذلك التركيب, ورأى ابن جنّي في قول معلّمه هذا استدلالا ضعيفا, ثمّ انتهى بتأييد فكرة سيبويه. ما قاله هذا اللّغوي فيه صواب في جانب لم يذكره أيّ من مصادر التّراث اللّغوي والمعجمي, فلكلمة "غُرنوق" أو "غِرنوق" جذر رباعي لكونها تعريبا للفظة "غيرانوس" اليونانية التي تعني ببساطة "غرنوق". بل أكثر من ذلك, تضع المعاجم العربية القديمة جميعها في مقام أوّل, المعنى الثانويّ لهذا اللفظ, باعتباره استعارة عن ذلك الطائر, فتقول إنّه "النّاعم المُنتشِر من النَّبات, وإنّه نَبْت ينبُت في أصول العَوسَج". هذه الدلالة الأخيرة تذكرها المعاجم اليونانية القديمة في مقام ثان, وهي نفسها التي أتت منها الكلمة اللاتينية والفرنسية "جيرانيوم" "Geranium". وإذ قبلنا فرض سيبويه القائل إنّ النون أصليّ في الكلمة, فإنّ حرف القاف هو الّذي يثير الشكّ, فهو الذي يدلّ على الأصل اليوناني للفظ "غُرنوق".
فبالرجوع إلى ترتيب الأبجديّة العربية الّذي بقي معتمدا حتّى نهاية القرن الأوّل الهجري (أي قبل إعادة ترتيب الأحرف وفق تشابهها في الخطّ), وكان مطابقا لترتيب الأبجدية السريانية واليونانية, يرد كلّ من حرف الصاد العربي وحرف (سيغما) اليوناني في المقام 18 من الترتيب الأبجدي في اللّغتين. ويعقب حرف القاف الصاد العربية مباشرة, بينما لا وجود لمثيل صوتي للقاف في الأبجدية اليونانية. لذلك يستوجب تعريب الكلمات اليونانية التي تضمنّت حرف (سيغما) استبدال هذا الحرف حكما بقاف عربية. (كما تحوّلت بينيسيا إلى بندقية, ودمسكس إلى دمشق, ونيسيه إلى نيقيا, وغيرها كثير.)

تاريخ كلمة "قول" من كتاب قصيد بارمينيدس: إلى ينابيع الفلسفة ليوسف الصديق:

يطالعنا القران الحكيم بأوصاف كثيرة تلحق لفظة "قول" لتقربها من الذهن حسب سياق معين فإما أن يكون القول قولا ليّنا أو مبينا أو قول زور -أي لا قول, في النهاية- وإما أن يكون اللفظ بدون صفة مطلقا فلا يعني شيئا آخر سوى "منطق" القَدَرَ الإلهي, نظاما كونيا أو إنسانيا أو ضابطا لإحكام الخطاب المرسل للعالمين. فهذا النوع الثاني من القول لا يحتمل صفة بل يجيء حادثا فاعلا كما يجيء الأمر أو هو يَحُقُّ قولا فيكون به الشيء, وهو في جميع خصائصه هذه, الأمر الذي انفرد به من له السبحانية ومنه المقادير, مطابق في الدلالة لمفهوم الـ"لوغوس" اليوناني, واللفظتان ليستا إلا قلبا لذات التركيبة الصوتية (لق\قل). ولهذا "التخريج اللغوي" -الذي لا نعلم أن أحدا قبلنا أقدم عليه, في ما حصّلنا من علم قليل!- ما يعمده عند كبار اللغة الإغريقية القديمة, مثل بيار شانتران, في قاموس أصول اللغة الإغريقية, إذ افترض أن لفظة لوغوس (أو لوقوس) قد تكون اشتُقت من كلمة قديمة, لا يُعرف مآتاها تعني تلقّى [ليغاين]. وهكذا يقع داخل العربية, قلب القلب (لق\قل)!
كان النبي موسى يتلقّى الوحي ليصرفه في الناس رؤية "تخوفهم", من حيّات تسعى, وأكفّ بيضاء "بدون سوء", وباستقدام "القمّل والجراد" على الكافرين, إلى أن بلغ هذا التطلّع "لما يُرى" من آياته إلى طلب رؤية الحقّ جهرة… وكان النبيّ عيسى عليه السلام, هو ذاته قولا تمثّل للنّاس "بشرا سويّا" حاول إقناعهم بأنه لا يعدو أن يكون "عبدا لله" يحمل كتابا في الحكمة, ويداوي الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله, حتى نسي الناس بُعْدَهُ كقول وتَمثّلَ وتشبيه ومجاز واتخذوه, هو وأمه, إلاهين وهو ما سيُطرحُ سؤالا في محاورة بين القول الحق و"قول الظن" وفي آخر سورة المائدة: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلاهين… الآيات" (116-118), وتلك هي المرة الوحيدة التي يأتي فيها فاعل القول (الله) غير مستتر علمًا بأن لفظتي "الرب" و"الرحمن", وغيرهما من أسماء الله لا تجيء البتة فاعلا لـ"قال" في القرآن.
ثم جاء القرآن على لسان محمد, عليه سلام الحق, ليُحلّ القول في محلّه الأرفع والأبلغ, لا في الرؤية الحسيّة ولا في المشاهدة المجازية وإنما في موقع النظر والتفكر والتدبر والعلم, وكل هذه  الألفاظ قرآنية.
ذلك هو الحيّز الذي احتله غالق آماد النبوات, محمد بن عبدالله, حين ختم النبوة بما جاء به, مجاوزا سياجات ما أغلقه, محررا الإنسان من كل وثنيات الرؤية والرؤيا, بما في ذلك وثنية القول ذاتها, حين تحبسه الأهواء ويجمّده عودٌ صَلِفٌ إلى السلف لا رجوع منه إلى الحاضر لا يكون في الواقع إلا مرادفا حَيِيًا للنسيان!
ولدى هذا الحيّز الذي كان فيه المتلفظ الأول بالقول الحقّ, تضاف إلى محمد منزلة أبسط وأعلى وأنقى وأبقى من منزلة النبي تجعله أقرب إلى محاور موسى في سورة الكهف منه إلى كل المرسلين اللذين خلوا من قبله, نعني منزلة العبد, مرتبطة دائما بمادة القول المُتلقّى, وذلك من أولى بواكر التنزيل حتى أواخر ما نزل: "... فأوحى إلى عبده ما أوحى… الآية, أو فواتح سورتي الفرقان والإسراء, مثلا….

تاريخ كلمة "منافق" من كتاب تاريخ القرآن لتيودور نولدكه:

كلمة "منافق" مأخوذة عن كلمة "مِنافِق" الحبشية, ويعني فعل "نافَق" فيها "شك, تردد" في اللغة الحبشية الكلاسيكية. ويبدو أن اسم الفاعل "مِنافق" هو ما اقتبس عن اللغة الحبشية, وهذا يؤيده أن أشكال اسم الفاعل ترد في القرآن ٣٢ مرة بينما لا يرد الفعل بأشكال مختلفة إلا أربع مرات فقط. ويصف التراث العربي كلمة منافق بحق بأنها "كلمة إسلامية", لكنه يشتقها خطأ من "نافِقاء" بمعنى "جحر الفأرة" (مثلا المبرد, "الكامل", طبعة القاهرة ١, ص١٥٨). أما الترجمة الألمانية المعهودة "Heuchler" فهي غير مصيبة تماما, إذ أن غالبية الناس الذين يوصفون في القرآن والحديث بالمنافقين لم يخادعوا بالمعنى الحقيقي للكلمة, بل أظهروا في كل مناسبة أن قلوبهم لم تمل للإسلام, ولم يتخذوه عن اقتناع, بل أجبرتهم الظروف على ذلك.

تاريخ كلمة "ياسين" من كتاب أساطير الآلهة في بلاد الرافدين لناجح المعموري:

وفي فهرس الأصنام عند العرب نجد أسماء الأشياء الطبيعية مثل الشمس والقمر والأرض والسماء والشجر, وقد جعل الإنسان علاقته بها كعلاقة العبد بالمعبود فخاطبها كما كان يخاطب الإله "سين" كبير آلهة حضرموت [الذي] كشفته بعثة بريطانية في منطقة العريضة عام ١٩٤٤ في نعوش تمتد بطول الشريط الساحلي, لجنوب الجزيرة العربية على امتداد أرض الأحقاف وقد كان إله القمر "سين" معروفا في عبادات أخرى عديدة وله معابد ومزارات في شبه جزيرة سيناء والتي يرى الباحثون أن اسمها مشتق من اسمه ونرى أن الاسم (سين) يتركب من (ن) نون الأخيرة وهي أداة التعريف في العربية الجنوبية تلحق بآخر الاسم المراد تعريفه والاسم (بني) كعلم دال على إله القمر, إنما يعني الإله التيس أو الإله الثور, وهو ما يلتقي مع ألقاب القمر المنتشرة في الجنوب اليمني وهو اللقب (الثور) لكن الأمر اللافت للنظر في أمر الإله (سين) أن بعض المتخصصين في اللغات السامية وعلمائها يرون أن الاسم هو (ياسين) وهو مما يستدعي التساؤل, هل هناك علاقة بين (سين) و(ياسين) وما جاء بالقران الكريم (يس والقران الحكيم إنك لمن المرسلين) خاصة إذا أخذنا بالحسبان ملاحظة الباحثة ثريا منقوش في ملاحظة هامشية تقول: أن الإله (سين) ظل كمكبوت في العقل اليمني, يستدعى اليوم في قرى اليمن عندما يتعرض عزيز لحادث فيقولون (ياسين عليك) وهذا موجود بشكل اعتيادي وشائع في ريف ومدن العراق الوسطى, كذلك يستخدم في القسم أيضا ولأن الأب الذي في السماء كان أبا في المجتمع الذكري الأبوي الرعوي ولأن الآلهة التي في السماء كانت أنثى ولودا في المجتمع الأنثوي الأمومي الزراعي ولأن المجتمعين تداخلا وكذلك النظامين, فقد زوج العباد آلهتهم بعضها من بعض ومن ثم كان القمر رب البادية وأبا الرعاة وزوجا للأم الكبرى التي كانت صاحبة أخطر دور في حياة المحصول الزراعي ونضجه والمقصود بها الشمس ولأن هناك زواجا قد حدث فلا بد من وليد فكما كانت حياة الأب الأول والأم الأولى على الأرض فلا بد أن تكون كذلك في السماء وبذلك اكتملت أضلاع الثالوث الإلهى, نعم اختلف وضع الزهرة والشمس ما بين مجتمع وآخر, فتارة كانت الشمس ذكرا وتارة أنثى وتارة كان كوكب الزهرة زوجة أنثى وتارة ابنا ذكرا, تبعا لاختلاف المجتمعات وطبيعة البيئة وعلاقتها بالشمس والزهرة إلا أن القمر بالذات كتبت له السيادة بسيادة الذكور المطلقة فظل هو الأب الذكر دائما وأخطر ضلع في الثواليث الالهية المختلفة الذي كان ربما أهمها الآن ثالوث الجنوب العربي اليمني الذي قدس الثلاثي السماوي: القمر كإله ذكر أخذ دور ذكر أخذ دور الأب والشمس كآلهة أنثى أخذت دور الأم و(عشتر) أو الزهرة كإله الابن لكن القمر هو الإله الأقدم فعبده القتبانيون والحميريون بالإسم (عم), وعم القبيلة أبوها وسيدها وعبده السبئيون باسم (المقه).

تاريخ "أل" التعريف من كتاب ينابيع اللغة لسعيد الغانمي:

معضلة "أل" التعريف:
قسّم د. جواد علي اللهجات العربية إلى ثلاث:
أولا: اللهجات التي تستعمل "النون" في نهاية الكلمة, وهي اللهجات العربية الجنوبية في اليمن.
وثانيا: اللهجات الشمالية التي تستعمل "هـ" في بداية الكلمة, وهي الثمودية واللحيانية والصفوية.
وثالثا: اللهجات التي تستعمل "أل" وهي لهجة الحيرة التي تبنتها قريش, ونزل بها القرآن الكريم. والواقع أن خلوَّ بعض اللغات السامية القديمة من أداة تعريف وانطواءها على أداة تنكير مثل الأكدية بفرعيها البابلي والآشوري, والكنعانية على اختلاف لهجاتها في بلاد الشام وشمال أفريقيا, ووجود أداة تعريف في بداية الكلمة في بعضها (مثل "ها" في العبرانية), أو أداة تعريف في آخر الكلمة (مثل "آ" الآرامية), واختصاص العربية في "أل" التعريف في أول الكلمة مع انطوائها على أداة تنكير في آخر الكلمة أيضا; أدى كل ذلك إلى أن الباحثين قد وقعوا في لبس من مصدر هذه أل"أل".
ولكي يعلل الأستاذ يوسف حوراني ظهور "أل" في العربية عادَ إلى السومرية; فرأى أنّ علامة الإله في السومرية هي "آن", التي حوّلها الأكديون إلى "إيل". وقد رصد الباحثون قائمة تضم ثلاثة آلاف  وثلاثمئة اسم بلقب إله, وبسبب الطبيعة المقطعية للغة السومرية, وما تتميز به من خاصية إلصاقية تستطيع بموجبها جمع أكثر من مقطع صوتي بُغية التعريف بالاسم; كانت تضيف إليه مقطعا تعريفيا دالا. أمّا الأكدية ذات الطبيعة الاشتقاقية التي تنوع على المصدر الثلاثي -مثل أخواتها الساميات- فقد استغنت عن خاصية التصنيف المقطعي بإضافة اللاصقة الأولية التعريفية للأسماء. لكنّ ما لم تَتَخلّ عنه الأكدية من السومرية هو المقطع الصوتي الدال على الألوهية "إيل"; يقول الأستاذ الحوراني: "وهكذا تكون قد سقطت بوادئ التصنيف السومرية جميعا مع التطور اللغوي على أيدي الساميين, وبقيت بادئة "أل" وحدها في اللغة العربية شاهدًا على المبدأ التصنيفي اللاهوتي الذي تعامل به إنسان حضارة الشرق المتوسطي الآسيوي طوال ما يقارب ثلاثة آلاف سنة. وحين نبحث عن حلقة تصل بين "أل" اللاهوتية نجد معالم هذه الحلقة في البادية السورية, المكان الطبيعي الصالح لمثل هذا التطور الذهني والتفاعل اللغوي بين الأكديين والساميين الغربيين الذين تحدّر منهم العرب بسلالتهم وتراثهم الثقافي".
من الناحية الإجرائية يعتمد هذا التصور على الاعتقاد بوجود انقطاع على مستوى اللغة, واتصال على مستوى الأرض. ووحدة الأرض في هذا الفهم هي التي تسمح بعودة "أل" اللاهوتية البابلية بصورة "أل" اللغوية العربية بعد ألف عام من اختفائها تقريبا. والواقع أن التاريخ الدوري لمنطقة المتوسط يتطلب منّا القيام بعكس ذلك تماما; فهناك انقطاع على مستوى الأرض, إذ تتبادلها الأقوام ذات الأصول اللغوية المختلفة, واتصال على مستوى اللغة, إذ تنتقل تأثيرات لغة معينة من الشرق إلى الغرب أو من الجنوب إلى الشمال. لقد كانت هناك حروب وأوبئة وفيضانات وأمواج من الهجرات تتبادل بها مجتمعات الشرق القديم الموقع; لكنها تنقل تأثيراتها اللغوية ميراثها الثقافي من منطقة إلى أخرى. وهذا ما يدعونا إلى قلب افتراض الأستاذ الحوراني, والقول بوجود اتصال على مستوى اللغة, وانقطاع على مستوى الأرض.
لكي نعرف أصل استخدام "أل" في اللغة العربية ينبغي لنا أولا رصد معاني "أل" في اللهجات العربية القديمة جميعا شمالا وجنوبا, وهناك ثلاث حالات متميزة تُستخدم فيها العلامتان الكتابيتان الدالتان على "أل" في مختلف اللهجات العربية.
١- "أل" اللاهوتية: وهي العلامة التي يكتب بها اسم الإله في الشمال والجنوب. و"إيل" اسم إله سامي قديم عرفه الكنعانيون والفينيقيون والآراميون والسبئيون والثموديون, وهو في نظر الجميع أبو الآلهة وأقدمهم.
وتدل نصوص الكنعانيين في أوغاريت على أنه كان عندهم رب الأرباب وأكبر الآلهة. ولكن يبدو أن أهميته لدى الجميع أخذت بالتناقص فقد صار وجوده وجودا رمزيا. ومع تكاثر الآلهة واستقلال كل إله بمظهر من مظاهر الحياة أخذ "إيل" يوغل في السنّ ويشيخ, ولم يعد يُرجع إليه إلا عند الضرورة القصوى, ومن قبل الآلهة أنفسهم. ولكنه مع اضمحلال دوره بقيَ له خطر رمزي وهيبة كبيرة إذ غدا اسمه علما دالا على الألوهية نفسها في جميع اللغات السامية. وليس أدلّ على ذلك من أن أيّ إله صار اسمه "إيل". وبقي اسم إيل اللاهوتي سابقة أو لاحقة على أسماء الأعلام الشخصية; ففي جميع اللهجات العربية احتفظ "ئيل" بكونه لاحقة لأسماء الأعلام مثل (كربال\كربئيل) و(سعدئيل) و(دانيال\داني ئيل)... إلخ. ولكن ربّما كان المثال الوحيد الذي بقي في "ئيل" سابقة على أسماء الآلهة هو اسم الإله اليمني السبئي (ألمقه\إله الحب), وإن كان تكرر وروده في أسماء الأشخاص في اليمن مثل (العز) و(العدل) و(الأمين)... إلخ.
٢- "أل" القبلية: ترد علامة "أل" نفسها في النقوش الثمودية والصفوية بمعنى "آل", وتكون مسبوقة في العادة بكلمة (ذي); فيقال مثلا كما في النقش (هاردنغ:٤): "لزكي بن عمرو ذي آل عاد". وعاد هنا اسم قبيلة من قبائل ثمود. أو كما في النقش (هاردنغ: ٢٢٣): "لأسد بن وائل ذي آل عثر" أي من قبيلة عثر. وفي النقش (٣٩٢) من المجموعة نفسها يرد "لنور بن راهي بن هنات ذي آل دحات"... إلخ.
٣- "أل" التعريف: وهي أداة نحوية سابقة على الأسماء يدل استخدامها على التعريف والتخصيص, وهي خاصة باللهجة العربية الشمالية التي انتشرت خلال القرون الثلاثة اللاحقة بعد الميلاد. لقد رأينا أن النون اللاحقة في نهاية الكلمة كانت أداة التعريف في اللهجات العربية الجنوبية المعينية والسبئية والقتبانية, ورأينا أنّ الهاء في أول الكلمة كانت أداة التعريف اللهجات العربية الشمالية الثمودية واللحيانية والصفوية, ولم يعثر الباحثون حتى الآن على أي ينقش يضم "أل" بوصفها أداة تعريف في أي نص عربي مكتوب بأيّ من هذه اللهجات. وكان الرأي السائد أن أقدم نص عثر فيه على "أل" بوصفها أداة تعريف هو "نقش النمارة" شاهد قبر الملك امرئ القيس بن عمرو ملك الحيرة, المكتوب سنة ٣٢٨ ميلادية, وقد وردت فيه كلمات معرّفة بـ"أل" واضحة كل الوضوح, مثل: "امرئ القيس" و"ملك العرب" و"التاج" و"الأسدين" و"الشعوب"... غير أن هذا التصور لم يعد قائما بعد العثور على نقش "عين عبدة" الذي أثبت بما لا يقبل الشك أن اللهجة النبطية كانت تضمن "أل" التعريف.
وليس من شك أن هناك بقايا لغوية يستطيع المرء أن يخص منها احتمال وجود "أل" التعريف في لهجة تدمر العربية المحكية, كما يتضح من أسماء الأعلام الواصلة إلينا منها مثل: (Elagablus\الاجبل) أو (Wahballat\وهب اللات بن زنوبيا). غير أن هذا الاستدلال يظل مجرد ترجيح نظري. ومن ناحية أخرى فإن المرء لا يستطيع إنكار التأثيرات البابلية في العرب في شمال الحجاز بعد اتخاذ الملك نبونيذ تيماء عاصمة له بدلا من بابل ما يزيد على عشر سنوات. وقد امتد حكم نيونيذ من (٥٥٥\٥٣٩ ق.م.) بعد استيلاء كورش على بلاد بابل. وقد أثّر هذا الفتح البابلي في القبائل العربية تأثيرا هائلا نستطيع أن نلمسه بوضوح, فهو على الأقل أشعرها باختلاف هويتها عن بقية الأقوام المجاورة لها, فشعرت بذاتها وبتميزها اللغوي, فضلا عن أنه أدخل إليها عددا لا حصر له من المصطلحات الحضرية الدينية والسياسية والاجتماعية والعسكرية...إلخ. ويكفي دليلا على ذلك أنه ما إن سقطت بابل أمام زحف كورش, وانهارت الإمبراطورية الكلدانية; حتى بدأ دور العرب بالتبلور, فظهر حلف ثمود بين قبائل شمال الحجاز, ثم المملكة اللحيانية التي أورثت للأنباط ما أخذته من بابل, لكن الثموديين واللحيانيين وخلفاءهم من الصفويين لم يكونوا يستخدمون "أل" أداة للتعريف, بل كانوا يستخدمون "الهاء" فيقولون للملك مثلا: "هَمَلك". ومن ثم فإن شيوع "أل" التعريف في اللغة العربية إنما ينبغي تأريخه بالقرنين الثالث والرابع الميلاديين, أي مع سيادة العربية النزارية, ونشر ملوك الحيرة لها بوصفها لغة ثقافية للقبائل العربية الشمالية جميعا. وقد حدث ذلك حين التقت الموجات اللهجية القادمة من الأنباط باللهجات الأخرى في المنطقة. وإنّ أيّ باحث يريد أن يؤرخ لـ"أل" بإرجاعها إلى "آن" السومرية التي تطورت إلى "إيل" السامية, ثم إلى "أل" التعريف العربية; لا بدّ له من تفسير شيئين مهمين; الأول: الانتقال من المفهوم اللاهوتي, أي من كونها اسم إله, سواء كان "آن" السومري أم "إيل" السامي, إلى المفهوم اللغوي بوصفها أداة تخصيص سابقة على جميع الأسماء اللغوية. والثاني: تفسير المدة الزمنية الفاصلة بين آخر سلالة بابلية نقلت تأثيرها إلى العرب, وبين ظهور "أل" التعريف في اللغة العربية النزارية, وهي مدة لا يستهان بها لأنها توشك أن تكون ألف عام تقريبا.
وإذ يذكر هيرودوت أن العرب يسمون ديونيزوس بلغتهم (أورانل), ويسمون أفروديت أو أورانيا (اليلات); فقد استخلص بعض الباحثين من هذه الإشارة أن أل التعريف ربما كانت في اللغة العربية منذ بواكير القرن الخامس ق.م., ولكن يبدو أنه نادرا ما كان يُكتب بها حتى القرن السابق على الإسلام.
والواقع أن هذا استنتاج بعيد جدا; فوجود أل بالإضافة إلى أسماء الآلهة لا يدل على حضور أل التعريف, بل على حضور أل الألوهية, هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن هذه الحروف بالتحديد (أليلات) لا تقتصر على العرب الشماليين, الذين يُفترض استعمالهم لأل التعريف; بل هي ترد وبكثرة لدى الجنوبيين أيضا. فقد عرفت سبأ مثلا شهرا هو الشهر الأول في التقويم السبتي باسم (ذ ألتلت), وهي عندهم أيضا كلمة دالة على الألوهية. وفي تقديري فإن لفظها كان أيضا بصيغة (ألتيلات), وقد شكلت مع سابقتها ما صار يُعرف فيما بعد بالإلهة أو اللات.
إذن كيف نحل معضلة وجود "أل" التعريف في اللغة العربية النزارية؟
هناك عدة احتمالات; الاحتمال الأول: أن نفترض أن "أل" التعريف هي "آن" علامة الألوهية في السومرية التي تحولت إلى "إيل" علامة الألوهية في اللغات السامية جميعا, ثم تحولت إلى "أل" التعريف العربية في بداية القرن الرابع الميلادي, وهذا هو رأي الأستاذ يوسف حوراني, وهو رأي لا يستطيع أن يفسر كيف حدث الانتقال من المفهوم اللاهوتي إلى المفهوم اللغوي فضلا عن أنه يغفل ما يربو على تسعة قرون من الفراغ الزمني.
الاحتمال الثاني: أن نعدّل في الرأي السابق; فنفترض وجود "أل" التعريف في أحد الجيوب اللهجية في العراق أو الشام المتأثرة بالأكدية, وقد استطاعت هذه اللهجة مع القرن الرابع الميلادي فرض نفسها على قبائل نزار ومعد وتنوخ القوية. وهو رأي افتراضي يفتقر إلى الوثيقة, إلى جانب أنه يفترض خضوع قبائل الشمال القوية إلى جيب لغوي ضعيف.
الاحتمال الثالث -وهو الرأي الذي يرجحه كاتب السطور- أن تكون "أل" التعريف تطويرا لإحدى أدوات التعريف العربية السابقة عليها, وتبدو النون اليمنية مستبعدة هنا, لأنها تأتي في نهاية الكلمة لا في أولها. بينما تقدم لنا اللهجة اللحيانية بعض المفاتيح, ولذلك لابدّ من التذكير بشيء من تاريخ لحيان.
عاشت لحيان في شمال الحجاز, وكانت ثقافتهم وريثة ثقافة ديدان وثمود الذين تعرضوا لتأثير الثقافة العراقية, بعد استيلاء نبونيذ على هذه المناطق حتى يثرب, وقد تبنى ملوك لحيان الكتابة بالمسند بعد إجراء بعد إجراء بعض التعديلات البسيطة عليه. لكن الكتابة اللحيانية بقيت كتابة رسمية للدولة, وبقيت الكتابة الثمودية هي الكتابة المفضلة شعبيا لدى القبائل الخاضعة لنفوذ لحيان. لكن صعود نجم الأنباط تسبب في إخضاع لحيان لهم, ولم يتمكن اللحيانيون من الاستقلال من النبطيين إلا سنة ١٠٦م باستيلاء فيالق تراجان على عاصمتهم البتراء, والظاهر أن سقوط لحيان وأفول ثقافتها كان في بداية القرن الثالث الميلادي. ويرى بعض الباحثين أنهم خضعوا لليمنيين; غير أن المهم في ذلك هو الطريقة التي انصهرت فيها ثقافة لحيان ولهجتها في بقية القبائل العربية, لقد فضل قسم من اللحيانيين العودة إلى البادية العربية, واتجه قسم آخر منهم إلى العراق, حاملين إلههم الرئيس "سلمان", بينما انخرط قسم آخر في هذيل, واستوطن بعضهم في الرجيع. وقد ورد ذكر هؤلاء في شعر لحسان بن ثابت يهجوهم فيه:
إن سرّك الغدرُ صرفًا لا مزاجَ فيه فأتِ الرجيع وسَلْ عن دارِ لحيان
إن أداة التعريف اللحيانية التي تظهر في النقوش اللحيانية جنبا إلى جنب النقوش الثمودية والصفوية اللاحقة عليهم هي الهاء (هـَ) فيقال مثلا: "هـ - جبل" [الملأ أو مجمع القبيل]. لكن هذه الهاء تتحول إلى "هَنّ" مع الحروف الحلقية والمزمارية, وهي كما وردت في النقوش: الهمزة والعين والقاف [ونستطيع أن نضيف إليها "الهاء" استنادا إلى قوانين صوتية], فيقال في تعريف "العزى" مثلا: "هَنْعُزّى" وفي تعريف "أكتب" [وهو إله الكتابة لديهم] "هنأكتب" -التي قرأها بعض الباحثين "هانئ كاتب" خطأ- ويبدو أن "هَنّ" التعريف هذه هي التي تحولت لديهم إلى "هل", إذ ورد في بعض نقوشهم "هل" أداة التعريف.
وتشجعنا الطريقة التي تفرق بها اللحيانيون والتحقوا بمختلف القبائل العربية في العراق والشام والحجاز ونجد على الظن بأنهم مارسوا نفوذا لغويا كبيرا على بقية القبائل. وفي هذه الفترة بالذات تحولت أداة التعريف اللحيانية من "هـَ" إلى "هَنْ", ثم تحولت إلى "هل". ونحن نجد أن "هل" أداة للتعريف عند الكثير من القبائل العربية في العراق والشام والحجاز حتى هذا اليوم. ومن المحتمل جدا أن اللحيانيين الذين التحقوا بالعراق كانوا يشكلّون نسبة ليست ضئيلة من عرب العراق, وربما انضم أحفادهم للمادة المكونة لجيش ملك الحيرة امرئ القيس بن عمرو, يؤيد هذا الاحتمال النقش النبطي الذي عثر عليه الباحثون في شمال الحجاز, وفي منطقة الحجر تحديدا, وهو النقش المرقم (٢٠٦) في نقوش الحجر النبطية. وقد تكررت "أل" التعريف فيه مرتين; الأولى في كلمة (الحجرو), والثانية في كلمة (القبرو), وهذا ما دفع الباحثين إلى عدّه أقد نص عربي مكتوب بالعربية الفصحى. ولحسن الحظ فإن النقش يحمل تاريخ سنة ٢٦٠ أي قبل نقش النمارة; لكننا رأينا في الفصل المخصص لأدب الأنباط أن نقش الملك عبادة الذي يستعمل أل التعريف الصريحة في كلمة (الموتو) إلى جانب أداة التعريف الآرامية التي يكتبون بها. وتاريخ نقش عبادة هو بحدود منتصف القرن الثاني الميلادي أو القرن الأول, مما يؤكد لنا أن (أل) التعريف نشأت في بيئة شمال الحجاز عند الأنباط ورثة اللحيانيين.
ومن هنا نستطيع أن نفترض -وهذا فرض تسمح به قوانين اللغة والثقافة- أن الأصل في "أل" التعريف العربية عربي خالص منسجم من النموّ الداخلي للغة العربية, وخاضع لقانون تطورها اللغوي عبر الزمن; فتكون أداة التعريف قد مرّت بعدة مراحل من التطور يمكن إيجازها على النحو التالي:
(هـَ) اللحيانية منذ القرن الثالث قبل الميلاد -> (هَنْ) اللحيانية قبل الحروف الحلقية والمزمارية (وهي الهاء والعين والهمزة والقاف وربما الحاء أيضا) -> (هَل) اللحيانية المتأخرة -> (أل) النبطية والنزارية التي عممتها الحيرة في القرن الرابع الميلادي وتبناها الشعر الجاهلي.
نخلص من ذلك أن المادة الأولى للغة العربية كانت قد تكونت في العراق منذ أقدم العصور, وظلت فيها العربية تحتفظ بخصائها القديمة في الإعراب وأوزان الفعل, غير أن مادة أخرى أُضيفت لهذه اللغة حين وفد قسم من العرب النازحين من لحيان إلى العراق, حاملين معهم تأثيراتهم اللغوية التي تفاعلت مع المادة الأولى, وفي مقدمة هذه التأثيرات الوافدة أل التعريف.