ماذا قال طه حسين عن الشعر الجاهلي؟







هناك فئة من البشر تشكّل الحقيقة لديهم حافزا للبحث. هذه الفئة لا تريد التفسيرات السطحية أو الاجابات السريعة، بل تريد الغوص في ماهيّة الأمور. تشكل لديهم كلمة "ماذا" و "كيف" أسئلة تبحث عن جواب.
منذر القباني





في عام ١٩٢٥ نشر الدكتور طه حسين كتابه, الذي أثار ضجة واسعة آنذاك, "في الشعر الجاهلي" وتناول فيه قضية انتحال الكثير من الشعر المعروف بالشعر الجاهلي. إلا أنه اضطر بعد ذلك بعام إلى حذف صفحات من الكتاب وإعادة نشره بعنوان "في الأدب الجاهلي" نتيجة للقضية التي أقامها ضده بعض المنتسبين إلى الأزهر.
لكن ما الذي قاله طه حسين في ذلك الكتاب؟ وهل كانت تلك الضجة مستحقة؟


نقد ابن سلّام الجُمَحي للشعر الجاهلي

الضجة المثارة ضد طه حسين لتناوله هذا الموضوع مستغربة, فهو ليس أول من انتقد الشعر الشعر الجاهلي, بل سبقه العديد من العلماء والباحثين المسلمين والمستشرقين الذين تناولوا هذا الموضوع قبله. فعبدالرحمن بدوي (١٩١٧-٢٠٠٢م) كذلك يستغرب هذه الضجة ضد طه حسين وينقل, في كتابه "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي", رأي ابن سلّام الجُمَحي (٧٥٦-٨٤٦م):


وواضح كل الوضوح من هذه النصوص التي نقلناها عن ابن سلام الجُمَحي أنه استطاع -هو وغيره من علماء اللغة والأدب والنقد في القرنين الثاني والثالث للهجرة- أن يضع قواعد النقد الفيلولوجي السليم للشعر الجاهلي, وأنه استخدم في ذلك منهجا علميا ممتازا توصل بواسطته إلى النتائج التالية:

عبدالرحمن بدوي
١- أن ما ينسب إلى عاد وثمود وما سبق قحطان وما أورده ابن إسحاق -كله منحول مزيف.
٢- أن ما ينسب إلى حمير وجنوب اليمن من أشعار باللغة العربية القرشية كله منحول مزيّف, لأن "لسان حمير وأقاصي اليمن" ليس هو اللسان العربي المعروف ولا عربيتهم بالعربية التي ورد بها الشعر الجاهلي -كما لاحظ أبو عمرو بن العلاء.
٣- أن الفتوح الإسلامية قد أدت إلى التشاغل بالجهاد عن العناية بالشعر وإلى هلاك من هلك بالموت والقتل, فذهب الكثير جدا من الشعر العربي الجاهلي, ولم يبق منه إلا أقله.
٤- وأن الكثير من الرواة -وعلى رأسهم حماد الراوية وخلف الأحمر-, قد كانوا يصنعون الشعر وينسبونه إلى كبار الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام, أو كانوا ينحلون "شعر الرجل غيره" أو ينحلون "الرجل غير شعره" ويزيدون في الأشعار من عندهم. فحماد الراوية "كان غير موثوق به وكان يكذب ويلحن ويكسر".
٥- وأن شعراء الجاهلية حُمِل عليهم -أي نُسب إليهم كذبا- الكثير من الشعر, وأصبح تخليص الصحيح من الزائف شديدا عسيرا, حتى "اضطرب فيه خلف الأحمر", وخَلّط فيه المفضّل (الضبيّ) فأكثر" من أشعارهم المنحولة, حتى أن المفضل ادعى أن للأسود بن يعفر ثلاثين ومائة قصيدة, بينما لا يعرف له ذلك ابن سلام وأصحابه, ولا قريبا من هذا العدد, وأهل الكوفة يتجوزون في ذلك أكثر مما يتجوز ابن سلام وأصحابه.
٦- ويذكر ابن سلام أسبابا عديدة لانتحال الشعر والتكثر من الزائف منه:
أ- منها كذب الرواة للتكسب بالرواية.
ب- ووضع الشعر على لسان الشعراء الكبار مدحا في الأجداد تملقا لذوي السلطان من المعاصرين طمعا في نيل عطائهم, كما حدث لحماد في تأليفه قصيدة في مدح أبي موسى الأشعري ونسبتها إلى الحطيئة, طمعا في نوال بلال بن أبي بردة.
ج- انتحال القصائد للتفاخر القبلي: "وكان قومٌ قلَّت وقائعهم وأشعارهم, فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار, فقالوا على ألسنة شعرائهم, ثم كانت الرواة بعدُ, فزادوا في الأشعار التي قيلت".
د- انتحال القصائد لأسباب دينية كما حدث بالنسبة إلى حسان بن ثابت "لما تعاضهت قريش واستبَّت, وضعوا عليه أشعارا كثيرة لا تُتَقَّى", وبالنسبة إلى أبي طالب في القصيدة المنسوبة إليه في مدح النبي فقد "زيد فيها وطوّلت" ولا يعرف أحد أين منتهاها.
تلك هي النتائج التي انتهى إليها ابن سلام الجمحي, والأسباب التي ساقها لبيان منشأ الانتحال والتزييف والزيادة في الشعر الجاهلي. وهي هي عينها النتائج التي والأسباب التي أوردها الدكتور طه حسين في كتابه : "في الشعر الجاهلي" و "في الأدب الجاهلي" أو كتابه الواحد المعدّل هذا.





نولدكه والمعلقات

أما من المستشرقين فأشهرهم الألماني تيودور نولدكه (١٨٣٦-١٩٣٠م) كان قد انتقد قصة المعلقات في رسالته "من تاريخ الشعر العربي القديم":
تيودور نولدكه



أما فيما يتعلق بخرافة تعليق القصائد, فيلاحظ أولا أن الشواهد عليها رديئة للغاية. وعندي أن هذا الخبر مشكوك فيه جدا لأنه لم يذكره واحد من الكتاب الأقدمين الذين كتبوا تاريخ مكة وعنوا عناية بالغة بذكر كل التفاصيل الدقيقة التي تتعلق بالكعبة. فلا الأزرقي, ولا ابن هشام يذكر هذا الخبر, ولدينا كل سبب كي نذكر أن المصادر الرئيسية عن تاريخ العرب وأساطيرهم: الكلبي وابنه, لا يعلمون شيئا عن ذلك الخبر. كما أننا لا نجد أي أثر لهذه المسابقة ومكانا في هذه القصائد -في القرآن ولا في النقول الدينية, ولو كان هذا الخبر صحيحا لكان (النبي) محمد قد أبدى رأيه في هذا الأمر أعني أن تكون مثل هذه القصائد الدنيوية قد علقت على أكبر حرم مقدس عند العرب. كذلك لا يذكره كتاب "الأغاني" أو أي كتاب آخر في تاريخ الأدب العربي القديم أو يستند إلى مصدر قديم. وأول كاتب معروف لنا ذكر هذه الأسطورة -ودون أن يذكر المصدر العربي الذي اعتمد عليه- بل إنه رفضها على أنها لا أساس لها مطلقا هو أحمد بن النحّاس (المتوفى سنة ٣٣٨ أو سنة ٣٣٧). ثم نجدها بعد ذلك عند بعض الكتاب المتأخرين مثل ابن خلدون في "المقدمة" (ج ٣ ص ٣٥٧) [من نشرة كاترمير] وقد حوّر فيها وفقا لنظرته التاريخية الفلسفية, ثم عند السيوطي في ملاحظة أوردها كوزجارتن, وكذلك نجدها في بعض الأخبار القصيرة المجهولة الأصحاب غير المستندة إلى أسانيد, مثلما في "منتخبات" دي ساسي (ج ٢ ص ٤٨٠) أو في عنوان المخطوط رقم ٦٨ بليدن: "من مدائح على باب الكعبة". وحتى في بعض هذه المواضع يورد الخبر بصيغة: "وقيل" أو ما يشبه ذلك مما يدل على أنه ليس غير مشكوك فيه.





فلهلم ألفرت ورواة الشعر

ألفرت (١٨٢٩-١٩٠٩م) هو مستشرق ألماني آخر انتقد كذلك الشعر الجاهلي, وبالأخص أشهر رواته خلف الأحمر, في رسالة له بعنوان "ملاحظات عن صحة القصائد العربية القديمة":




ولم يكن حماد وحده هو الذي أساء التصرف في الشعر الجاهلي; بل هناك من هو أخطر منه بكثير, وأعني به معاصره والأصغر سنا منه بقليل: خلف الأحمر (المتوفى حوالي سنة ١٨٠ هـ). لقد كان هو الآخر من علماء اللغة الأفذاذ, وكان واسع الاطلاع على شعر القدماء; وما يميّزه عن حماد وعن معظم العلماء هو أنه كان ذا موهبة شعرية عظيمة. وهكذا لم يكن فقط قادرا مثل حماد على التصرف في أشعار الجاهليين, بل كان قادرا على نظم قصائد كاملة بروح القدماء ولغتهم, وأن يولج في أشعارهم ما يشاء من أبيات من نظمه, وأن يقدم هذا كله على أنه صحيح أصيل. فهو الذي نظم القصيدة المشهورة ووضعها على لسان الشنفرى وأوهم الناس بأنها للأخير, كذلك فعل مع تأبّط شرًا; كذلك نسب إلى امرئ القيس الكثير من القصائد التي نظمها هو, كذلك فعل مع النابغة الذبياني. وعن خلف الأحمر أيضا صدرت قصيدة الرجز الطويلة في "الأصمعيات" المنسوبة إلى صحير بن عمير; ومثل هذا حدث في كثير من الأحوال التي لا نستطيع إيرادها تفصيلا.

فلهلم ألفرت
ومن المؤكد أنه استطاع أن يستغل موهبته العظيمة إلى حد جعل علماء الكوفة وعلماء البصرة على السواء ينخدعون تماما, وإلى حد أنهم فضلوا الاستراحة إلى هذا الخطأ الذي بدا لهم كأنه الحقيقة أوْلَى من أن يثقوا به, بأنه كان مستعدا للإقرار بتزييفاته. وكان في أسلوبه وفي قوافيه سحر خاص, وكما يقول ابن سلّام, وهو رجل فاهم, كان الناس حين يسمعونه ينشد الشعر لا يحفلون بالتحقيق من المؤلف الحقيقي لهذا الشعر. 

وفي مواجهة هؤلاء الناس الذين لم يتورعوا عن الخداع والإيهام والتضليل, وفي مواجهة الذين كانوا مخدوعين -عن حسن نية- في صحة الكنوز الشعرية التي يروونها- كان موقف الجمّاعين صعبا: لقد كانت مهمة شبه مستحيلة أن يميّزوا بين الصحيح والمشكوك به, وأن يحددوا من هم المؤلفون الحقيقيون لهذه الأشعار. وحتى أعلم هؤلاء وأكثرهم تورعا, مثل أبي عمرو بن العلاء, والمفضل الضبي, والأصمعي, كانوا حيال هذه التزييفات متحيرين عاجزين, ولم يستطيعوا في غالب الأحوال غير التحفظ في الحكم.



ثم يذكر ألفرت قصة وقعت بين ابن الأعرابي والأصمعي تعكس مدى الصعوبة التي كان يواجهها رواة الشعر الموثوقين مثل الأصمعي في التفريق بين ما هو ثابت وما هو منحول:



ولم يكن من السهل على حذاق العلماء أنفسهم مثل الأصمعي أو ابن الأعرابي الخ -أن يميزوا بين القصائد القديمة والقصائد الجديدة, وتوجد أخبار ممتعة كثيرة تبين كيف ضلّوا وأخطأوا. وهاك واحدا منها: أنشد إسحاق بن ابراهيم للأصمعي هذي البيتين (من الخفيف):

هل إلى نظرة إليك سبيل
فيروَّى الصدى ويشفى الغليل؟
إنَّ ما قلَّ منك يكثر عندي
 وكثيرٌ -مِمَّنْ يُحَبُّ- القليل

فسأله الأصمعي: لمن هذان البيتان؟ -فأجاب إسحاق: لشاعر عربي قديم. -فصاح الأصمعي: وأيم الله إنهما أشبه بالبساط السلطاني! -فاعترف إسحاق قائلا: كلا, لقد نظمتهما أنا في الليلة الماضية. -فقال الأصمعي متضايقا: نعم, إن المرء ليلاحظ فيهما التصنع والإجهاد.


إنه الشّك ما يدفع بالمرء إلى الأمام
باولو كويلو


أبرز ما جاء في كتاب "في الشعر الجاهلي" لـ طه حسين

منهج طه حسين وملخص ما توصل إليه:

في مقدمة الكتاب, أوضح طه حسين المنهج الذي سار عليه ولخّص النتائج التي أدى إليها بحثه:


أريد أن اصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه (ديكارت) للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل, وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما.

[...]

طه حسين
أول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك, أو قل ألح عليّ الشك, فأخذت أبحث أفكر وأقرأ وأتدبر, حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقينا فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء, وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام, فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين ميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين, وأكاد لا أشك في أن ما بقى من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على أي شيء, ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النتيجة, ولكني مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها, ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء; وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين.



القرآن يمثل العصر الجاهلي أكثر من الشعر الجاهلي

يرى طه حسين بأن أكثر نص يعكس حياة العرب في الجاهلية هو القرآن وليس الشعر الجاهلي. لأن القرآن غطى أديان العرب قبل الاسلام من نصارى ويهود ووثنيون وونقل مجادلاتهم. كذلك أشار إلى تجارتهم الصيفية إلى الشام والشتوية إلى اليمن وكذلك علاقاتهم مع الأمم الأخرى مثل الروم, أما الشعر الجاهلي فلا يكاد يذكر شيئا من حياتهم الدينية ويصورهم على أنهم بشر معزولون عن العالم.



لغة الشعر الجاهلي

يشير طه حسين إلى انتفاء أي اختلافات بين لغة قريش التي سادت بين العرب بعد الإسلام وبين لغة شعراء الجاهلية الذين كانوا ينتمون لقبائل مختلفة لكل واحدة منها لهجتها الخاصة:

والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع الذي ابتدأنا به منذ حين, وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا. ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن, والتي كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء: إن لغتها مخالفة للغة العرب, والتي أثبت البحث الحديث, أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية.

ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقا قليلا ولا كثيرا بينه وبين شعر العدنانية. نستغفر الله! بل نحن لا نجد فرقا بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن. فكيف يمكن فهم ذلك أو تأويله؟ أمر ذلك يسير, وهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلى القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء, لم يقله شعراؤها وإنما حمل عليهم بعد الإسلام لأسباب مختلفة سنبينها حين نعرض لهذه الأسباب التي دعت إلى انتحال الشعر الجاهلي في الإسلام.


الشعوبية والعداء بين الفرس والعرب

بعد دخول الكثير من الأمم تحت سلطان العرب خلال الفتوحات الإسلامية, نشب صراع فكري ثقافي, حيث كانت تلك الشعوب ترى أنها أكثر حضارة مِن مَن هجموا عليهم من الصحراء, فكانت هذه الشعوبية من هؤلاء الأقوام تجاه العرب وكذلك افتخارهم بأجدادهم أحد الأسباب التي دعت العرب إلى انتحال الشعر على لسان القدماء ليثبتوا فيها مقدار علم السابقين وفهمهم, كما يشير طه حسين:

ولعل أصدق مثال لهذه الخصومة العنيفة بين علماء العرب والموالي: هذا الكتاب الذي كتبه الجاحظ في البيان والتبيين وهو "كتاب العصا". وأصل هذا الكتاب كما تعلم أن الشعوبية كانوا ينكرون على العرب الخطابة, وينكرون على خطباء العرب ما كانوا يصطنعون أثناء خطابتهم من هيئة وشكل وما كانوا يتخذون من أداة, وكانوا يعيبون على العرب إتخاذ العصا والمخصرة وهم يخطبون. فكتب الجاحظ كتاب العصا ليثبت فيه أن العرب أخطب من العجم, وأن اتخاذ الخطيب العربي للعصا لا يغضّ من فنه الخطابي. أليست العصا محمودة في القرآن والسنة وفي التوراة وفي أحاديث القدماء؟ ومن هنا مضى الجاحظ في تعداد فضائل العصا حتى أنفق في ذلك سفرًا ضخما.

والذي يعنينا من هذا كله هو أن نلاحظ أن الجاحظ وأمثاله من الذين كانوا يعنون بالردّ على الشعوبية, ومهما يكن علمهم ومهما تكن روايتهم لم يستطيعوا أن يعصموا أنفسهم من هذا الانتحال الذي كانوا يضطرون إليه إضطرارًا ليسكتوا خصومهم من الشعوبية. فليس من اليسير أن نصدق أن كل ما يرويه الجاحظ من الأشعار والأخبار حول العصا والمخصرة ويضيفه إلى الجاهليين صحيح. ونحن نعلم حق العلم أن الخصومة حين تشتدّ بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب. كانت الشعوبية ينتحلون من الشعر ما فيه ذود عن ورفع أقدارهم.

ونوع آخر من الانتحال دعت إليه الشعوبية, تجده بنوع خاص في كتاب الحيوان للجاحظ وما يشبهه من كتب العلم التي ينحو بها أصحابها نحو الأدب. ذلك أن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى أن يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلوا أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة. فإذا عرضوا لشيء مما في هذه العلوم الأجنبية فلا بد أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه أو ألموا به أو كادوا يعرفونه ويلمون به.

ومن هنا لا تكاد تجد شيئا من هذه الأنواع الحيوانية التي عرض لها الجاحظ في كتاب الحيوان إلا وقد قالت العرب شيئا قليلا أو كثيرا طويلا أو قصيرا, واضحا أو غامضا. يجب أن يكون للعرب قول في كل شيء وسابقة في كل شيء, هم مضطرون إلى ذلك اضطرارًا ليثبتوا ما يفقدون من السلطان السياسي, وبمقدار ما ترفع هذه الأمم المغلوبة رؤوسها.



تأثير هذا التشكيك على صحة القرآن

استشعر طه حسين ما يدور في خلد القارئ بعد تمامه من قراءة الكتاب, فحرص في نهاية كتابه أن يوضح تأثير هذه النتائج التي توصل إليها على صحة القرآن الكريم:

طه حسين وزوجته سوزان
أن الذين يقرءون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته وفي نفوسهم شيء من الأثر المؤلم لهذا الشك الأدبي الذي نردّده في كل مكان من الكتاب. وقد يشعرون, مخطئين أو مصيبين, بأننا نتعمد الهدم تعمدا ونقصد إليه في غير رفق ولا لين. وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الذي يتصل به هذا الأدب خاصة.

فلهؤلاء نقول أن هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس به, لا لأن الشك مصدر اليقين ليس غير, بل لأنه قد آن للأدب العربي وعلومه أن تقوم على أساس متين. وخير للأدب العربي أن يزال منه في غير رفق ولا لين ما لا يستطيع الحياة ولا يصلح لها من أن يبقى مثقلا بهذه الأثقال التي تضر أكثرها مما تنفع, وتعوق عن الحركة أكثر مما يمكن منها.

ولسنا نخشى على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسا; فنحن نخالف أشدّ الخلاف أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلي لتصح عربيته وتثبت ألفاظه. نخالفهم في ذلك أشدّ الخلاف لأن أحدا لم ينكر عربية النبي فيما نعرف, ولأن أحدا لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته. وإذا لم ينكر أحد أن النبي عربي وإذا لم ينكر أحد أن العرب فهموا القرآن حين سمعوه, فأي خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الجاهلي أو هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟ وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع في أن المسلمين قد احتاطوا أشدّ الإحتياط في رواية القرآن وكتابته ودرسه وتفسيره حتى أصبح أصدق نص عربي قديم يمكن الإعتماد عليه في تدوين اللغة العربية وفهمها. وهم لم يحفلوا برواية الشعر ولم يحتاطوا فيها, بل انصرفوا عنها في بعض الأوقات طائعين أو كارهين, ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر وبعد أن عبث النسيان والزمان بما كان قد حفظ من شعر العرب في غير كتابة ولا تدوين. فأيهما أشد إكبار للقرآن وإجلالًا له وتقديسًا لنصوصه وإيمانًا بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها, أم ذلك الذي يستدل على عربية القرآن بشعر كان يرويه وينتحله في غير احتياط ولا تحفظ قوم منهم الكذاب ومنهم الفاسق ومنهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث؟


هذه أبرز النقاط التي ذكرها طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" سأكتفي بها للاختصار, وهو قد تطرق لحوادث أخرى مثل قصة مقتل سعد بن عبادة  في سفره والتي لم يكتفي فيها الرواة باتهام الجن بقتله بل رووا شعرا نسبوه إلى قتلة سعد من الجن. وفي فصول الكتاب الأخيرة حلل فيها السيَر والأخبار والقصائد المنسوبة لأكثر من شاعر مثل امرئ القيس والمهلهل وغيرهم.