مقتطفات من سيرة الروائي هاروكي موراكامي


للحفاظ على الاستمرارية, عليك بالمحافظة على الإيقاع.
هاروكي موراكامي






مقتطفات من كتاب: عمّ أتحدث حين أتحدث عن الجري لـ هاروكي موراكامي
ترجمة: علي الصباح




هاروكي موراكامي ذلك الروائي الذي يستدرج قُرّاءه بانسيابية إلى عوالم بعيدة وساحرة لا يستطيعون الفكاك منها والرجوع إلى عالمهم الواقعي إلا بعد مجاوزة الصفحة الأخيرة, ويظل يتشبث بهم ذلك الشعور بأنهم قد عايشوا واقعا غرائبيا كالأحلام لا ينفكون يريدون الرجوع إليه مع كل عمل يتلقفونه من أعماله.

عندما قرر موراكامي أن يبدأ بكتابة الروايات, قرر حينها أنه يريد أن يعيش حياة صِحيِّة ويحافظ على لياقته ليكون قادرا على إنتاج الأدب حتى آخر يوم في حياته. فتوقف عن التدخين وشرع في ممارسة الجري, وفي هذا الكتاب دوّن بعض اليوميّات المتعلقة بممارسته للجري في ماراثونات عدة حول العالم, وتخلله كذلك بعض آراءه حول الكتابة, فاجتزأت منه بعض الفقرات التي أعجبتني فيما يتعلق بالأدب وكتابة الروايات.



*****






في كل مقابلة أُسأل عن أهم صفة يجب أن يتحلى بها الروائي. إنها بديهية: الموهبة. لا يهم مدى الحماس والجهد الذي تضعه في الكتابة, إن كنت تفتقد إلى الموهبة الأدبية فيمكنك أن تنسى أن تصبح روائيا. هذا يُعَد شرطا مسبقا أكثر من كونه صفة مهمة. فأفضل السيارات لن تتحرك إن لم يكن فيها وقود. مع ذلك, مشكلة الموهبة أن الشخص الموهوب لا يمكنه التحكم بكميتها أو جودتها. قد تجد الكمية غير كافية وتريد زيادتها, أو تقرر أن تقتصد لتدوم لأكثر مدة ممكنة, لكن بكلا الحالتين الأمور لا تسير بهذه السهولة. للموهبة عقلها الخاص وآبارها, وحين تجف تكون النهاية. بالطبع هناك بعض الشعراء ومغني الروك الذين ذهبت عبقريتهم بلمحة بصر -أشخاص مثل شوبرت وموزارت, الذين حولتهم وفاتهم الدرامية المبكرة إلى أساطير- لديهم جاذبية خاصة, لكن ليس لغالبيتنا هذا النموذج الذي نحتذي به. إذا سألتَ عن ثاني أهم صفة للروائي فهذا أيضا سهل: التركيز -القدرة على تركيز كل ما لديك من موهبة محدودة على ما هو مهم في اللحظة الراهنة. بدون هذا لن تتمكن من إنتاج أي شيء ذو قيمة, لكن إذا تمكنت من التركيز بفعالية ستتمكن من التعويض عن عدم الثبات في موهبتك أو حتى عن أي نواقص فيها. بشكل عام أصب تركيزي على العمل لثلاث أو أربع ساعات كل صباح. أجلس إلى مكتبي وأركز تماما فيمَ أكتب. لا أرى شيئا آخر, لا أفكر بشيء آخر. حتى أن الروائي ذو الموهبة العالية والذهن المليء بالأفكار العظيمة والجديدة قد لا يتمكن من كتابة أي شيء إذا ما كان, على سبيل المثال, يعاني آلاما حادة في أسنانه. الألم يحجب التركيز. هذا ما أعنيه حين أقول أنك بلا تركيز لن تتمكن من إنجاز أي شيء.


بعد التركيز, أهم صفة للروائي هي المداومة. إذا ركزت على الكتابة لمدة ثلاث أو أربع ساعات يوميا ثم شعرت بالتعب بعد أسبوع واحد من هذا العمل فلن تتمكن من كتابة عمل طويل. ما يلزم كاتب الخيال -على الأقل الذي يأمل بكتابة رواية-- هو الطاقة اللازمة للتركيز يوميا لنصف سنة, أو سنة, أو سنتين. يمكنك أن تقارن ذلك بالتنفس. إذا كان التركيز هو عملية حبس الهواء فحسب, فالمداومة هي فن التنفس بهدوء وبطء في نفس الوقت الذي تحبس فيه الهواء في رئتيك. إذا لم تجد التوازن بينهما ستصبح كتابة الروايات باحترافية خلال مدة طويلة صعبة. الاستمرار بالتنفس في نفس الوقت الذي تحبس فيه نَفَسَك. لحسن الحظ, هاتين الصفتين --التركيز والمداومة-- يختلفان عن الموهبة, حيث يمكن اكتسابهما وشحذهما بالتدريب. ستكتسب بشكل طبيعي صفتي التركيز والمداومة حين تجلس كل يوم إلى مكتبك وتدرب نفسك على التركيز على نقطة واحدة. هذا يشابه كثيرا تدريب العضلات الذي ذكرته سابقا. يجب عليك باستمرار نقل موضوع تركيزك إلى سائر جسدك والتأكد من أنه سيمدك بالمعلومات الضرورية لتكتب كل يوم وتركز على العمل الذي بين يديك. وتدريجيا ستوسع حدود قدراتك. وبشكل لا يُلحظ سترفع مستواك. هذا يحتوي على نفس عملية الجري يوميا لتقوية العضلات وللحصول على بنية جسم عداء. أضف بعض المحفزات واستمر. وكرر ذلك. الصبر أمر لازم لهذه العملية, لكنني أضمن النتائج التي ستتحقق. أقر كاتب الغموض ريموند تشاندلر مرة, في مراسلاته الخاصة, بأنه حتى لو لم يكتب شيئا فإنه يجلس إلى مكتبه كل يوم ويركز. أُدرك السبب وراء هذا الفعل. بهذه الطريقة يعطي تشاندلر نفسه القوة الجسدية اللازمة التي يحتاجها الكاتب المحترف, بهدوء يعزز قوة إرادته. هذا النوع من التدريب اليومي كان لا مفر منه عنده.


*****

حين قررت أن أصير كاتبا محترفا برزت لي مشكلة: مسألة الحفاظ على اللياقة البدنية. فأنا أميل إلى اكتساب الوزن حين لا أفعل شيئا. تشغيل الحانة تطلب جهدا بدنيا صارما كل يوم, مما مكنني من الحفاظ على عدم زيادة وزني, لكن حالما بدأت بالجلوس يوميا إلى مكتبي صارت طاقتي تنخفض تدريجيا وبدأت باكتساب الكيلوغرامات. وكذلك كنت أدخن بشراهة كلما زاد تركيزي في عملي. في تلك الأيام كنت أدخن ستون سيجارة في اليوم. أظافري كلها صفراء وتفوح من بدني رائحة الدخان. اتخذت قراري أن هذا لا يمكن أن يكون مناسبا لي. إذا أردت حياة طويلة كروائي, يلزمني إيجاد وسيلة أحافظ بها على لياقتي وعلى وزن مناسب. للجري عدة مزايا; أولا, لا تحتاج إلي شخص آخر لتجري, ولا تحتاج إلى معدات خاصة. لا تحتاج إلى الذهاب لمكان خاص لتمارسه. طالما لديك أحذية جري وطريق جيدة يمكنك أن تجري قدر ما تشاء. التنس ليست كذلك. يلزمك أن تذهب إلى ملعب تنس وتحتاج شخصا آخر لتعلبان معا. يمكنك أن تمارس السباحة بمفردك لكنك تظل تحتاج أن تذهب إلى المسبح.

*****

القيلولة هي إحدى العادات التي أداوم عليها للمحافظة على صحتي. أنا حقا آخذ الكثير من القُيّل. غالبا ما يغلبني النوم مباشرة بعد الغداء, أسقط على الكنبة وأغفو. بعد ثلاثين دقيقة أكون يقظًا جدا. وحالما استيقظ لا يعود جسمي خاملا ويصير ذهني صافيا تماما. هذا ما يسمى siesta في جنوب أوروبا. أظن أنني تعلمت هذه العادة عندما عشت في إيطاليا, لكن ربما تخونني الذاكرة لأنني كنت دائما أحب أخذ القُيّل. على أية حال, أنا من الأشخاص الذين من طبيعتهم إذا نعسوا لا يجدون صعوبة في النوم أينما كانوا. مؤكد أنها موهبة جيدة إذا أردت أن تحافظ على صحتك لكن المشكلة أنني أحيانا أنام في مواقف لا يجب أن أكون فيها نائما.

*****

لا يهم أي مجال تتحدث عنه -لا تتحقق رغبتي في التغلب على شخص آخر. ما يهمني أكثر هو مدى تحقيقي للأهداف التي وضعتها لنفسي, لذا بهذا الإعتبار, الجري لمسافات طويلة هو الأنسب لنمط تفكيري.

*****


كما ذكرت سابقا, منافسة الآخرين سواء في الحياة العامة أو في مجال عملي, ليس هو نمط الحياة الذي أسعى إليه. اعذرني على توضيحي للبدهيات, لكن العالم مليء بشتى أنواع البشر. الآخرون لديهم قيمهم التي يحييون خلالها, نفس الشيء ينطبق عليّ. هذه الفروقات تفتح مجالا للخلاف, والمزج بين هذه الخلافات يفتح مجالا لسوء فهم أكبر. نتيجة لذلك, بعض الناس يُنتَقدون بظلم. غني عن القول بأن سوء التفاهم أو الانتقاد ليس ممتعا, بل هو تجربة مؤلمة تؤذي الناس بعمق. مع ذلك, كلما كبرت كلما أدركت تدريجيا أن هذا النوع من الألم والأذى جزء ضروري من الحياة. إذا فكرت في الأمر, الناس مختلفون عن بعضهم البعض لذلك يمكنهم أن يخلقوا ذواتهم المستقلة. خذني أنا على سبيل المثال, قدرتي على اقتناص جوانب لا يستطيع الآخرون رؤيتها من مشهد ما, أن اشعر بمشاعر مغايرة عن الآخرين وأنتقي مفردات تختلف عن مفرداتهم, هذا يتيح لي أن أكتب قصصا تنتمي إليّ وحدي. ولهذا السبب لديّ هذه الحالة الرائعة حيث يقرأ عدد كبير من الناس مؤلفاتي. لذلك, حقيقة أني أنا نفسي ولست شخصا آخر هي واحدة من أعظم ممتلكاتي. الأذى العاطفي هو الثمن الذي يجب أن يدفعه الإنسان ليحقق إستقلاليته.

*****


بالنسبة لي, كتابة الرويات في الأساس عمل يدوي. الكتابة ذاتها عمل ذهني, لكن إنهاء كتاب كامل أقرب إلى العمل اليدوي. إنها لا تتضمن حمل أشياء ثقيلة أو الجري سريعا ولا القفز عاليا. مع ذلك, ينظر أغلب الناس إلى الجانب الخارجي للكتابة فقط, ويظنون أن الكتّاب منطوون في بيئات عمل هادئة ليزاولون عملا فكريا متعلق بأبحاثهم. فيعتقدون إذا ما كانت عندك القوة البدنية الكافية لحمل كوب قهوة فستتمكن من كتابة رواية. لكن حالما تضع يديك فيها ستكتشف سريعا بأنها ليست وظيفة هادئة كما تُصَوّر. العملية بأكملها --الجلوس إلى مكتبك, شحذ انتباه ذهنك كشعاع ليزر, تخيل أشياء تأتي من عند الأفق الخالي, إنشاء قصة, انتقاء المفردات المناسبة, واحدة واحدة, المحافظة على استمرار تدفق القصة-- يتطلب, على مدار فترات طويلة, طاقات أكبر مما يتخيله أغلب الناس. قد لا يتحرك جسدك, لكن يعتمل داخلك جهد متحرك مرهق. كل إنسان يستخدم عقله حين يفكر. لكن الكاتب يرتدي ثيابا تُسمى السرد ويفكر بكامل كيانه. بالنسبة للروائي, هذه العملية تتطلب اللعب بكل ما يدخره جسدك, وغالبا حتى الانهاك. الكتاب الموهوبون يخوضون هذه العملية بشكل لا واعي, وفي بعض الحالات يكونون في غفلة عنها. , طالما يمتلكون قدرا من الموهبة, خاصة حين يكونون حدثاء, ستغدو كتابة الرواية بالنسبة إليهم أمرا ليس بتلك الصعوبة. يستطيعون بسهولة إزالة كل العقبات. أن تكون صغيرا في السن يعني أن يكون جسدك ممتلئا بالحيوية. القدرة على التركيز والمداومة سيتوفران عند الحاجة, ولن يكون ضروريا السعي ورائهما. إذا ما كنت صغيرا وموهوبا ستكون أشبه بمن يمتلك أجنحة.


*****


بشكل طبيعي, هناك أناس في العالم (عددهم محدود بالطبع) يتمتعون بموهبة هائلة بحيث تظل متوقدة منذ بدايتهم إلى نهايتهم وأعمالهم دائما تكون بأعلى جودة. هؤلاء المحظوظون يمتلكون بئر مياه لا تنضب مهما استقوا منها. بالنسبة للأدب, هذا شيء يستحق الامتنان. يصعب تخيل تاريخ الأدب بدون هؤلاء القامات مثل شكسبير, بلزاك, وديكنز. لكن العمالقة في النهاية عمالقة --قامات أسطورية استثنائية. بقية الكتاب الذين لا يستطيعون الوصول لهذا العلو (بما فيهم أنا بالطبع) يلزمهم تعزيز نواقص موهبتهم بشتى الوسائل التي يمتلكونها. بغير هذه الطريقة لن يتمكنوا من كتابة روايات ذات معنى. الطرق والاتجاهات التي يمكن للكاتب أن يسلكها تصير جزءً من فردانية ذلك الكاتب, أو ما يجعله مميزا. معظم ما أعرفه عن الكتابة تعلمته خلال الجري كل يوم. هذه دروس عملية وبدنية. إلى أي حد يمكنني دفع نفسي؟ ما هو القدر الكافي للراحة --وما هو القدر الزائد عن الحاجة؟ إلى أي حد يمكنني الاحتفاظ بشيء ما ويظل بصورة لائقة ومتماسكة؟ متى يصير الأمر ضيق الأفق وغير مرن؟ إلى أي مدى يجب علي أن أكون واعيا بالعالم الخارجي, وإلى أي مدى يجب علي أن أركز على عالمي الداخلي؟ إلى أي مدى يمكنني أن أكون واثقا من قدراتي, ومتى يجب أن أشكك بقدراتي؟ لو لم أمارس الجري لمسافات طويلة حين بدأت في كتابة الروايات, لأخذت كتاباتي منحى مختلف تماما. كيف؟ صعب علي أن أقول كيف. لكن شيئا ما سيكون مختلفا بكل تأكيد.


*****


على أية حال, أنا سعيد لأني لم أتوقف عن الجري طوال هذه السنوات. والسبب هو أني أحب الروايات التي كتبتها. وأنا حقا أتطلع لأرى نوع الرواية التي سأكتبها لاحقا. بما أنني كاتب له حدود --شخص غير كامل يعيش حياة غير كاملة ومحدودة-- فكوني لا أزال أشعر بهذه الطريقة هو انجاز حقيقي. وإذا كان الجري يوميا يساعدني على تحقيق هذا, فأنا ممتن جدا للجري. الناس أحيانا يسخرون ممن يجرون كل يوم بدعوى أنهم قد يفعلون أي شيء في سبيل العيش لفترة أطول. لكنني لا أظن أن هذا هو السبب الذي يدفع أغلب الناس إلى الجري. أغلب العدائين لا يجرون لأنهم يريدون حياة أطول, لكن لأنهم يريدون أن يحيوا الحياة لأقصى مدى. إذا كنت ستُعَمَّر لسنوات طويلة فمن الأولى أن تعيش بأهداف واضحة وبحياة مفعمة عوضا عن العيش بحياة ضبابية, وأرى أن الجري يحقق ذلك. أن تبذل قصارى جهدك حسب ما تتيحه إمكانياتك على أكمل وجه: هذا هو جوهر الجري, وهو أيضا كناية عن الحياة --وبالنسبة لي, للكتابة أيضا. أعتقد أن الكثير من العدائين سيوافقوني.


*****


بينما كنت أجري أتتني بعض الأفكار حول كتابة الروايات. أحيانا يسألني الناس: "أنت تعيش كل يوم حياة صحية يا سيد موراكامي, لكن ألا تعتقد بأنك يوما ما ستجد نفسك غير قادر على الكتابة." الناس لا يتطرقون كثيرا إلى هذا حينما أكون مسافرا, لكن يبدو أن الكثير من اليابانيين ينظرون إلى كتابة الروايات باعتبارها نشاطا غير صحي, بأن الروائيون بشكل أو آخر يجب أن يفسدوا ويعيشوا حياة ضارة ليتمكنوا من الكتابة. هناك نظرة شائعة بأن على الكاتب أن يعيش بنمط حياة غير صحي ليتمكن من نزع نفسه من دنس العالم وليتملك نوع من النقاء الذي يعطيه قيمة فنية. هذه الفكرة تتشكل عبر الزمن. الأفلام والمسلسلات التلفزيونية تعزز هذا التصور --أو هذه الأسطورة-- لشخصية الفنان. أوافق مبدئيا على أن كتابة الروايات هي عمل ضار بالصحة. حينما نبدأ بكتابة رواية, حينما نستخدم الرواية لنحكي قصة, سواء أعجبك أو لم يعجبك هناك صنف من السموم المختبئ عميقا داخل جميع البشر يطفو على السطح. كل الكتاب يجب عليهم أن يواجهوا هذه السموم وجها لوجه ويكونون واعين بها ويكتشفون طريقة للتعامل معها, لأن بغير هذه الطريقة لا يمكن لأي نشاط ابداعي أن يأخذ مجراه. (أرجو أن تعذر غرابة هذا التشبيه: أشهى قطعة من سمك الينفوخ تلك التي تكون قريبة من السم --قد يكون هذا قريبا لما أرمي إليه.). لذا فمن البداية, الأنشطة الفنية تتضمن عناصر ضارة بالصحة ولا اجتماعية. أعترف بهذا. لهذا السبب يكون من بين الكتاب والفنانين الآخرين مجموعة ممن قد تكون حياتهم فاسدة أو ممن يتظاهرون بأنهم لا اجتماعيين. يمكنني تفهم ذلك. أو بالأحرى, لا أنكر بالضرور هذه الظاهرة.

*****

في الجري لمسافات طويلة المنافس الوحيد الذي عليك أن تتغلب عليه هو نفسك, ما كنتَ عليه.


*****


لكن هؤلاء أمثالنا الذين يأملون بمزاولة مهنة الكاتب المحترف لأمد طويل علينا أن نطور نظامنا المناعي الخاص بنا بحيث يقاوم أخطار السموم (بعض الأحيان القاتلة) القابعة فينا. قم بهذا, وستتمكن حتى من التخلص من سموم أقوى بكفاءة أكثر. بعبارة أخرى, يمكننا خلق حكايات أفضل لتتعامل مع هذا. لكن يلزمك طاقة أكبر لتخلق نظام مناعة وتتحكم به على مدار فترات طويلة. يجب عليك أن تنقب عن تلك الطاقة من مكان ما, وأين يمكنك أن تجدها بأفضل من وجودك المادي؟ أرجوك لا تسيء فهمي, أنا لا أزعم أن هذه هي السبيل الوحيدة التي يمكن للكتاب أن يسلكوها. كما أن هناك أنواع مختلفة من الأدب, هناك أنواع مختلفة من الكتاب, كل يملك نظرته الخاصة تحاه العالم. ما يتعاملون معه يختلف, كما تختلف أهدافهم. لذا لا يوجد ثمة طريق صحيحة للروائيين. لا داعي لذكر ذلك. لكن بصراحة, إذا أردت كتابة عمل واسع النطاق, زيادة قوتي وقدرتي أمر لا بد منه, وأرى أن هذا شيء يستحق, أو على الأقل فعله أفضل بكثير من تركه. هذه ملاحظة تافهة, لكن كما يقال: إذا كان يستحق أن تفعله, فيستحق أن تعطيه أفضل ما لديك --أو في بعض الحالات أفضل مما لديك. للتعامل مع شيء غير صحي, يحتاج المرء أن يكون صحيا قدر الإمكان. هذا شعاري. بعبارة أخرى, الروح السقيمة تحتاج إلى جسد صحيحا. قد يبدو هذا متناقضا, لكنه أمر شعرت به تماما منذ أن صرت كاتبا محترفا. الصحي والسقيم ليس بالضرورة أن يكونا على طرفي نقيض. لا يعارضان بعضهما البعض بل يكملان بعضهما وفي بعض الحالات يتحدان معا. بالطبع بعض الأشخاص الذين يسلكون مسارا صحيا في حياتهم لا يرون إلا الجانب الصحي, بينما الآخرون الذين تتدهور صحتهم يفكرون بهذا التدهور فقط. لكن إذا اتبعت هذا النظرة الأحادية للصحة الجيدة لن تكون حياتك مثمرة.


*****


بعض الكتاب اللذين كتبوا أعمالا باهرة, جميلة, قوية في شبابهم يجدون أنهم حين يكبرون يتملكهم الإرهاق فجأة. كلمة "انطفأ" تكون مناسبة جدا هنا. أعمالهم اللاحقة قد لا تزال جميلة, وإرهاقهم قد ينقل معاني معينة, لكن الأمر واضح بأن طاقتهم قد بدأت تنضب. أعتقد, أن هذا نتيجة لعدم قدرة أجسادهم على احتمال دفق السموم التي يتعاملون معها. الحيوية الجسدية التي ظلت مستمرة لفترة قد تجاوزت قمتها, وفعاليتها كنظام مناعة قد بدأ يتلاشى. حينما يحدث ذلك سيصعب على الكاتب أن يظل مبدعا بشكل حدسي. التوازن بين القوة الخيالية والقدرات الجسدية التي تسمح باستدامتها قد تفتت. ويظل الكاتب يطبق الأدوات والطرائق التي اكتسبها ويسخر الحرارة المتبقية لصهر شيء ما إلى ما يشبه العمل الأدبي --طريقة مقيدة لا يمكنها أن تكون رحلة ممتعة. بعض الكتاب ينهون حياتهم عند هذه اللحظة, بينما آخرون يقررون التوقف عن الكتابة وسلك مسار آخر. إذا كان ممكنا, أود أن أتجنب هذا الانطفاء الكتابي. فكرتي عن الأدب أنه شيء أكثر عفوية, أكثر تماسكا, شيء ذو طبيعة حيوية إيجابية. بالنسبة إلي, كتابة رواية كتسلق جبل شديد الانحدار, مكافحة للصعود إلى أعلى الجرف, بلوغ القمة بعد عناء شديد. قد تتخطى حدودك وقد لا تتخطاها, كلاهما ممكن. دائما أحتفظ بهذه الصورة الذهنية حين أكتب. لا أحتاج لأن أذكرك أنك يوما ما ستخسر. مع مرور الوقت حتما سيتدهور الجسد. آجلا أم عاجلا, سيُهزم ويتلاشى. حين يتفتت الجسد, الروح كذلك (على الأرجح) ستذهب أيضا. أنا واعٍ لذلك بشدة. على الرغم من ذلك, أحاول قدر الإمكان تأخير حلول النقطة التي عندها ستُهزم حيويتي وستنتصر عليها السموم. هذا مسعاي كروائي. مع هذا, في هذه المرحلة لا أملك رفاهية أن أنطفئ. لهذا السبب بالتحديد حتى وإن كان الناس يقولون "هو ليس ماهرا" فأنا مستمر بالجري.


*****


مشروع آخر أعمل عليه الآن هو ترجمة رواية غاتسبي العظيم لسكوت فيتزجيرالد والأمور تسير على ما يرام. انتهيت من المسودة الأولى وأراجع الثانية. آخذ وقتي على مهل, أمر على كل سطر بعناية, بينما أقوم بذلك تصير الترجمة مصقولة أكثر وأصير أكثر قدرة على تقديم نثر فيتزجيرالد ليكون أقرب إلى الطبيعة اليابانية. قد يبدو غريبا إعلان هذه الدعوى بهذا الوقت المتأخر, لكن رواية غاتسبي مرموقة جدا. لم أسأم منها قط, بغض النظر عن المرات التي أعيد قراءتها. هي من ذلك النوع من الأدب الذي ينعشك عند قراءته, وكلما أفعل ذلك أفاجأ بشيء جديد, وأستشعر ردة فعل جديدة تجاهه. أجده أمرا مميزا كيف أن كاتبا شابا, يبلغ من العمر ٢٩ عاما فقط آنذاك, يمكنه إدراك --ببصيرة وإنصاف وبحرارة-- حقائق الحياة. كيف كان ذلك ممكنا؟ كلما فكرت في هذا أكثر, كلما كررت قرائتي للرواية, كلما زاد الأمر إلغازا.


*****

ما أعنيه هو أنني لم أشرع بالجري لأن شخصا ما أراد مني أن أكون عداءً. بالضبط مثلما أنني لم أصبح روائيا لأن شخصا ما أراد مني ذلك. يوما ما, وبلا سابق مقدمات أردت أن أكتب رواية. وكذلك يوما ما, بلا سابق مقدمات شرعت في الجري --ببساطة لأني أردت ذلك. كنت دائما أفعل ما أشعر أني أحب القيام به في الحياة. قد يحاول الناس إيقافي وإقناعي بأني مخطيء, لكني لا أتغير. أنظر لأعلى باتجاه السماء متسائلا ما إذا كنت سأحظى بنظرة خاطفة من اللطف, لكني لا أجد ذلك. كل ما أراه هو غيوم صيفية لا مبالية تتنقل فوق المحيط الهادئ. وليس لديها أي شيء لتقوله لي. الغيوم دائما كتومة. ربما لا يجب أن أنظر إلى الأعلى تجاهها. الذي يجب أن أوجه نظري إليه هو داخلي. كالنظر في بئر عميقة. هل يمكنني أن أرى لطفا هناك؟ لا, كل ما أجده هو طبيعتي. شخصيتي, عنادي, عدم تعاوني, غالبا طبيعة أنانية لا تزال في ريب من أمرها --من ذلك, حين تحدث المتاعب, أحاول أن أبحث عن شيء مرح أو قريبا للمرح متعلق بذلك الموقف. حملت هذه الشخصية كحقيبة يد عتيقة, خلال طريق طويلة ومغبرة. لا أحملها لأني أحبها. المحتويات جدا ثقيلة, وتبدو قذرة ومبقعة. حملتها معي لأني لا أملك شيئا آخر لأحمله. مع ذلك, أعتقد أنه نما فيّ تعلق تجاهها. كما يمكنك أن تتوقع ذلك.