أسلوب روبرت گرين في الكتابة


Source: https://thoughtcatalog.files.wordpress.com




أسلوب روبرت گرين في الكتابة
بقلم: پاولو ريبيرو
ترجمة: علي الصباح


يدعونا أحد الأقوال المأثورة إلى إنجاز ثلاثة أشياء قبل وفاتنا: أن نؤلّف كتابًا, نربي طفلًا, نزرع شجرةً. على الرغم من أنّ الحياة ليست عبارةً عن قائمة من المهام التي نمرّ عليها لننهيَها, لكنّ هذا القول يعكس مدى الأهمية التي نوليها فعلَ تأليف الكتب، نجعله جنبًا إلى جنبٍ مع تربية الأطفال.
مع ذلك, نلاحظ أنّ عدد الأطفال الذين يولدون في كلّ عامٍ يفوق عدد الكتب التي تُؤلَّف. يلفت ذلك انتباهنا إلى مدى صعوبة كلا النشاطين. الكتابة عملٌ بالغ الصعوبة وينطوي على تعقيدٍ لاخطّي، تعقيدها يتفاقم أسرع من حجم المشروع. بعبارةٍ أخرى: كتابة قطعةٍ أطول مرتين ليس أصعب بمرتين, بل بثلاث أو أربع مرات.

أن تكونَ قادرًا على كتابة مشاركاتٍ في الفيسبوك يختلف جدًا عن كتابة مقالةٍ مدرسيةٍ، والتي ليست مماثلةً لإنشاء تدوينةٍ. دعنا لا نقارن تلك الكتابات بتأليف كتاب؛ لأن متطلباته أصعب بكثير.
للمساعدة على الإبحار في هذه المياه المترامية, يمكننا الاستعانة بتجربةٍ ذات نتائجَ مؤكدةٍ وقابلةٍ للتكرار: مَن أفضل من روبرت گرين, مؤلف خمس كتب من أكثر الكتب مبيعًا، ويمكن القول أنّه أفضل استراتيجيّ معاصرٍ؟ هذا الرجل وحش الكتابة الواقعية Non-fiction, ألّف "القوانين الـ٤٨ للسلطة", ٣٣" استراتيجيةٍ للحرب", "فن الإغواء", "القانون الـ٥٠", و"الإتقان". تعبت من مجرّد تسطيرها. لا شك أنّ روبرت هو الشخص الّذي أريده في صفّي حين يتعلق الأمر بالكتابة الواقعية، ونحن قد عرفنا تلميذه الذي شرع في كتابة مؤلفاتٍ غدت فيما بعد من أكثر الكتب مبيعًا.
بالرغم من أنّ روبرت لم يكتب عن طريقته علانيةً - بشكلٍ عام, هو يفضل الكتب على التدوينات - استطعت أن ألتقط جوهر أسلوبه الإبداعي في البحث عبر عدّة مقابلاتٍ معه. ركّبت اللغز قطعةً قطعةً. وما سيأتي  هو طريقته في الكتابة:

1. حافظ على عقل المبتدئ:

روبرت ليس مجرد مؤلف لكتبٍ حققت أكبر نسبة مبيعاتٍ في عالم الكتب. كما قلت:  هو أحد أكثر العقول المعاصرة براعةً؛ ولهذا السبب يستطيع أن ينتبه إلى مصائد النجاح. كثيرًا ما يشدّد على أنّه مع كلّ كتابٍ جديدٍ يعود إلى المربّع الأول. كما قال في كتاب" 48 قانون للسلطة":"لا شيء أكثر سُميّة من الانتصار, ولا شيء أخطر".
سيكون من اليسير عليه, باستغلال شهرته وسمعته العالمية, أن يستندَ إلى نجاحاته السابقة ليكتب كتبًا مماثلةً تجذب كلّ الاهتمام، وتجلب أموالًا رخيصةً. كما فعل روبرت كيوزاكي مع كتبه الـ 942357 عن "الأب الغني". لكن لا, في كلّ عملية تأليف كتابٍ جديدٍ, يرجع كشخصٍ مبتدئ ويتوسّع في بحثه:

".. لا يمكنك تكرار ما أنجزت في السابق فقط. الأمر لا يتعلّق بالانتباه الّذي جنيته, إنّه يتعلق بالعمل نفسه والذي يجب أن يكون هو دافعك؛ لذلك كلّ كتابٍ أؤلفه, والذي يعادل المشاريع التي يبتدئها مبادر أعمال, هو تحدٍ جديد. لن أكرر ما فعلته في الماضي, لن أعيد استخدام نفس المعادلات".

إذا أردت أن تبدع أيّ شيءٍ ذا قيمةٍ, ويُحدث فارقًا, ويكون منفتحًا, وبلا تحيزاتٍ مسبّقةٍ, ومهيأ لأن يتشكل من خلال المعرفة, فسيحتاج لأن يُحرَث. بهذه الطريقة لن تكون أقلّ عرضة لتبني آراء منحازةٍ فحسب (بأن تبتعد عن الحقيقة), لكنّ إبداعك لن يتقيدَ بالأفكار المسبّقة. يقول شونريو سوزوكي المتخصص في مدرسة زن: "في عقل المبتدئ احتمالاتٌ كثيرةٌ, لكن هناك القليل منها في عقل الخبير".


2. كلّ شيءٍ يبدأ ببحثٍ جيدٍ:

قال شوبنهاور مرةّ أنّ هناك نوعين من الكتّاب: "أولئك الذين يكتبون لأن لديهم شيءٌ يجب عليهم قوله، وأولئك الذين يكتبون لأجل الكتابة. باستثناء لو أنّك عشتَ حياةً مذهلةً بحق, فما ستكتب عنه سيكون معرفةً ثانويةً. تتوقع ما هي أفضل طريقة للتمكّن من هذه المعرفة؟ نعم, القراءة, والقراءة النهمة".
خلال مناقشته إصدار كتابه القادم (اسمه المؤقت "قوانين الطبيعة الإنسانية"), والذي يحتاج ١٢-٢٤ شهر, يخبر روبرت قرّاءهُ بأنّه يقرأ من ٣٠٠ إلى ٤٠٠ كتابٍ كاملٍ لإجراء البحث لكلّ كتاب. هذا يفوق عدد الكتب التي اعتاد الكثير من الناس قراءتها في (عدّة) حيواتٍ.
-كيف يتعامل مع هذا الكمّ الهائل من المعلومات خلال فترة البحث؟
بات من الضروري إنشاءُ منهجيةٍ لاستخلاص أكثر ما يمكن استخلاصه من كلّ كتاب. روبرت يعتمد على نظامٍ مبنيّ على مجموعةٍ من البطاقات التي يُجمّع فيها أهم الأفكار التي يعثر عليها في كلّ كتاب: "أقرأ الكتاب باهتمامٍ شديدٍ وأدوّن كلّ ما يخطر لي من أفكارٍ على الهوامش. أرجع إليه بعد أسابيعَ قليلةٍ لأنقل خربشاتي إلى البطاقات, حيث أضمّن كلّ بطاقةٍ أحد المواضيع المهمة في الكتاب".

باختصار, المبدأ الأساس للاحتفاظ بالمعارف بشكلٍ أفضل يكمن في التفاعل البنّاء مع الكتاب, عبر الممارسة الغابرة المعروفة باسم التهميش marginalia: تدوين ملاحظات, تظليل, تعليق وانتقاد العمل خلال قراءته. إنّه التطبيق العملي لمفهوم يستخدم الآن في المدارس ويعرف باسم الشرح الموسّع elaborative interrogation.
بعدما تأكدت فعاليته, يتضمن الشرح الموسّع بأن يُسأل الطلبة:  لماذا هذه الأفكار تبدو معقولةً أو لماذا هي غير متوقعة؟ هذا يحفز تكوّن شبكاتٍ أكثر تفصيلاً حول المعرفة, ويربط بين المواد الجديدة بما كان يعرفه الطالب من قبل, مما يجعلها تثبت لفترةٍ أطول. بطريقةٍ ما, هذا بالضبط ما تفعله حين تتفاعل بنشاطٍ أكثر مع ما تقرأه.

نقطةٌ أخرى مهمة: عليك أن تستخدم هذه الملاحظات, والتي يحوّلها روبرت گرين إلى كنّاشة (ريان هوليداي, تلميذ روبرت السابق, كتب عنها هنا). وهي أيضًا ممارسةٌ غابرةٌ - كان ماركوس أوريليوس, وپِترارك, ومونتين, ورونالد ريگان وغيرهم الكثير من الرموز التاريخية يحتفظون بواحدٍة - وهي تتضمن أفضل الاقتباسات, المقتطفات, الأقوال المأثورة التي يمكن استخلاصها من الكتب التي يقرؤها.
التكنولوجيا هي ما يفتقد إليه نظامه (روبرت يستخدم الورقة والقلم), تعادلها بالفائدة, وتتيح له تكويم كثبان من الحقائق والأفكار المهمّة فقط خلال قراءتِه بنهمٍ.


٣. إعادة ترتيب وربط الأفكار:

ثلث المجهود يُنجز حين تكوّن معرفةً حقيقيةً عن الموضوع الذي تريد الكتابة عنه. ثلثٌ آخر من الطاقة تُستثمر في إعادة ترتيب وربط الأفكار بطريقةٍ تبدو منطقيةً، تسير بالقارئ إلى الفهم الذي تريده أن يستنتجه.
على سبيل المثال, إذا أردت أن تؤلّف كتابًا عمليًا لجمهورٍ عريضٍ, سيكون من الضروري أن تقدّم الجوانب الفنية باقتضابٍ (والتي يمكن الحصول عليها من كتابين) وبلغةٍ ميّسرةٍ مغلفةٍ بالكثير من الأمثلة العملية المستوحاة من الحياة اليوميّة (والتي يمكن الحصول عليها من عشرات الكتب). إذا كنت تستخلص العبر من التاريخ, مثل كتابي 33" استراتيجيةٍ للحرب"، و "48 قانونٍ للسلطة", فمن الضروري إغناءُ العمل بالعديد من المختارات التاريخية والحكايات لتدلّل على وجهة نظرك.
هناك أكثر من طريقة لتُنشيء وتحتفظ بكناشة, وطريقة روبرت نافعةٌ حين يأتي وقت إعادة ترتيب وربط الأفكار. لكن، إذا لم يعجبك أسلوب روبرت فهنالك خياراتٌ أخرى بديلةٌ. يمكنك أن تنشئها بشكل خطيّ كأنك تقرأ دفتر يوميات. يمكنك أن تنشئها بالاعتماد الكامل على التكنولوجيا، واستخدام برامج تدوين الملاحظات مثل: Evernote و OneNote لتحفظَ فيها سجلّاتك, ممّا يتيح لك التعامل معها بسرعةٍ أكبر وإمكانية للبحث.

في حالة روبرت, هو يدوّن كلّ فكرةٍ\فقرةٍ\قولٍ مأثورٍ مهمٍ على بطاقة, مصنفةٍ حسب الموضوع. يمكن أن يوّلد الكتاب ما بين 20 إلى 30 بطاقةً حين يكون جيدًا. عندما ينتهي من فترة البحث (بعد 300 إلى 400 كتاب), يكون قد راكم من 3000 إلى 4000 بطاقةٍ في المتوسط:

"يمكنني تقسيم كتابٍ يبدو فوضويًا. فعلى سبيل المثال, من أجل الكتاب الجديد, أنا أحب نيتشه كثيرا (كتابي القادم عن السوبرمان Ubermensch) وهناك كتابٌ قرأته له, بعنوان "إنسانٌ مفرط في إنسانيته", إنه بالفعل أكثر كتابٍ روعةً, الأفكار فيه مبعثرة. يحتوي على كلّ تلك الأقوال المأثورة والخواطر, إنّه أشبه بالدخول إلى متاهة فئران. استطعت, عبر بطاقاتي, أن أنظّم كلّ افكاره وكلّ خواطره, وأضفيت عليها شيئا من الترتيب وأظهرت الفوائد البديعة للحكمة التي استقاها هذا الرجل من عقله المجنون".

بعد أن يحدد مواضيع الفصول, يجمع البطاقات المتعلّقة بهذه المواضيع. ثم يجمع البطاقات داخل أبواب كلّ فصلٍ مرةً أخرى. ومن هنا تغدو المسألة مجرد كتابة. بطريقةٍ ما, يمكننا أن ننظرَ إليه على أنّه وسيلةٌ بديلةٌ لفكرة راي برادلي حول إعداد الكلمات\الأفكار أولًا والشروع بكتابة النص فيما بعد.


4. الكتابة بشكلٍ مكثفٍ:

مع وجود ملخّصٍ وأفكارٍ منظمةٍ يذهب الثلث الأخير من الجهد في عملية الكتابة (والتي تكون بالتشارك بين الكاتب والمحرّر, ربما بنسبة 9:1). عدة عوامل تؤخذ في الحسبان, مثل الانضباط, الروتين, وحتّى الأسلوب. تقريبًا كل كاتبٍ مهمٍ في التاريخ كتب عن الكتابة.
على سبيل المثال, بالنسبة إلى روبرت- كما يمكننا أن نستنتجَ بوضوحٍ من أعماله- تبدو مبادئ كيرت ڤونيگوت جذابةً: اكتب عمّا يهمك, لا تتنقل دون هدف, حافظ على البساطة ولتملك الشجاعة على الحذف. مثلما كتب ستيفن كينگ عن البساطة وعن تجنّب المفعول فيه adverbs.
في هذه الرحلة, هناك من يشجعون التخطيط للكتابة مع أوقاتٍ مجدوّلةٍ مسبّقًا. وآخرون يكترثون أكثر إلى التدفق, يدعون إلى "كتابةٍ بلا توقف" ما أمكن. حتى إنّه أصبح جدلًا معاصرًا فيما إذا كانت هذه العملية ممتعة; أسماء بارزة اعتادت على مناقشة ما إذا كانت الكتابة تعذيبًا للفنان أو لا.
بالنسبة إلى روبرت, عندما يحين وقت تلطيخ يديه، يعمل لفتراتٍ طويلةٍ ويمكنني أن أستنتجَ من تعليقاتهِ أنّها عمليةٌ شاقةٌ, طالما أنه يقول بأنّه ليس شخصًا رائعًا لتكون بقربه في تلك اللحظات:

"لا أكتب على الدوام؛ لأنّ كتبي تتطلب كميةً كبيرةً من البحث. لذلك أنا الآن في مرحلة البحث, حيث أقرأ بنهمٍ كتبًا عن الطبيعة الإنسانية, علم النفس, إلخ. ثم بعد سنةٍ تقريبًا سأبدأ بالكتابة، وحينها أدخل في روتين مختلفٍ تمامًا, حينها أكون أكثر جزعًا وصَعْبا لمن هم حولي".

-هل يبدو الأمر شديد الصعوبة عليك؟

من خلال قراءة كهذه, تغدو الكتابة أشبه بعمليةٍ سحريةٍ تربطنا بطريقةٍ ما بطبيعتنا الإنسانية. هناك شيءٌ كامنٌ في الجوهر الإنساني يتعلّق بالرغبة في حكاية التاريخ, بمشاركة القليل من معارفنا, أو من حياتنا مع الآخرين. قد تكون العملية شديدةٌ, لكنّ ذلك لا يعني بأنّها ليست في متناولك. مقولة "رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة" هي تعبيرٌ مستهلكٌ, لكنّه صحيحٌ. حتى الجهابذة, بما لديهم من سمعةٍ عالميةٍ وكتبٍ خالدةٍ ابتدؤوا بخطواتٍ صغيرةٍ في الاتجاه الصحيح. لا شيء أكثر ملاءمةً من هذا الاقتباس الملهم من نيتشه, المنقول من آخر صفحةٍ في كتاب الإتقان لروبرت:

"مع أننا نحسن الظن بأنفسنا, لكن مع ذلك لا نعتقد أننا قادرون على إنتاج لوحةٍ مثل إحدى لوحات رفائيل أو مشهدٍ دراميّ مثل أحد مشاهد شكسبير, نقنع أنفسنا أنّ القدرة على إنجاز ذلك إعجازية بشكلٍ استثنائيّ, صدفةٌ نادرةٌ تمامًا, أو إذا كانت لا تزال لدينا ميولٌ دينيةٌ, بركةٌ من السماء.
وهكذا غرورنا, حبنا لذاتنا, يدفعنا إلى تقديس العباقرة: فقط لأننا نراهم بعيدين جدًا عنا, كمعجزةٍ, لا يزعجوننا…  لكن, بالإضافة إلى هذه الاقتراحات من غرورنا, نشاط الشخص العبقري لا يبدو بأيّ شكل مختلف عن نشاط مخترع الآلات, عالم الفلك أو التاريخ, المتقن للتكتيكات.
كلّ هذه الأنشطة قابلةٌ للتفسير إذا صوّر شخصٌ لنفسه الأشخاصَ الذين ينشط تفكيرهم في اتجاهٍ واحدٍ, الذين يوظّفون كلّ شيءٍ بوصفه أداةً, الذين يرقبون بحماسةٍ حياتهم الداخلية على الدوام وحياة الآخرين, الذين يلاحظون النماذج والدوافع في كلّ مكان, والذين لا يسأمون من مزج الوسائل التي بين أيديهم بعضها ببعض. العبقري كذلك لا يفعل شيئا سوى أنّه يتعلم في البداية كيف يجمع الطوب، ثم كيف يبني, وباستمرار يبحث عن موادٍ وباستمرار يشكلها. كلّ أنشطة الإنسان معقدةٌ بشكلٍ مذهلٍ, ليست فقط أنشطة العبقري: لكن ليس ثمة 'معجزة'".
  • فريدريك نيتشه