سبعة أسباب تجعلني أقرأ موراكامي





سبعة أسباب تجعلني أقرأ موراكامي
بقلم: إليسْ شومان
ترجمة: علي الصباح



في عيد ميلادي, أهداني ابني رواية "تسوكورو تَزاكي عديم اللون وسنوات وحجه" للكاتب الياباني هاروكي موراكامي. كانت هي الهدية التي أريدها بالضبط! أنا قارئ شغوف لموراكامي وكنتُ متلهفا على قراءة الرواية الجديدة, والتي ستنتهي إلى مكان يليق بها في رف الكتب الذي يضم بقية روايات موراكامي.
هذه الرواية التي بيع منها مليون نسخة في الأسبوع الأول من إصدارها في اليابان قد لا تروق لكل أحد, إلا أنها تضيف إلى تقديري لكتابات موراكامي. وهي تختلف عن رواية موراكامي ذات العنوان الغريب "1Q84", فهي أبسط وأكثر إنسانية وحجمها 297 صفحة, أي ثلث حجم "1Q84".

رواية "تسوكورو تَزاكي عديم اللون" تحكي "قصة الفتى تسوكورو تَزاكي المسكون بخسارة عظيمة" وهذه الخسارة ترافقك من الصفحات الأولى للرواية حتى نهايتها الغير ملحوظة والمفتوحة. توصف بأنها "قصة حب, صداقة, ووجع قلبي خالدة", تجربة قرائتها ستتعزز بالاستماع إلى معزوفة فرانز لست "Années de pèlerinage" (سنوات من الحج) والتي تُذكَر باستمرار في القصة.

"حياتنا أشبه ما تكون بنوتة موسيقية معقدة" يفكر تسوكورو, قريبا من نهاية الرواية. "ممتلئة بكل أنواع الكتابة المبهمة, نوتات لستة عشر ثانية وثلاثون ثانية ورموز أخرى غريبة. تفسيرها أقرب إلى المستحيللا ضمان من أن يفهمها الناس بشكل صحيح, أو يقدرون المعنى الذي تنطوي عليه. لا ضمان بأنها ستجعل الناس سعداء. لماذا يجب أن تكون تصرفات الناس معقدة جدا؟"

مثل رواياته السابقة, يأخذ موراكامي قُرَّاءه في زيارات مطولة إلى عقول شخصياته, الشخصيات غالبا ما تكون "عديمة اللون" وغير كفؤة في محاولتها لحل مشاكلها مثل تسوكورو تَزاكي. هذه الشخصيات مرهقة من الملل والحنين, شخصيات فشلت في إيجاد الحب, أو الاحترام. مع نهايات لا تكون دائما مرضية, الكثير من القراء لا يجدون عزائهم في كتابات موراكامي. لماذا إذًا رواياته مشهورة جدا؟


هنا سبعة أسباب تجعلني أقرأ هاروكي موراكامي:

1- روايات موراكامي تنقلني إلى اليابان, البلد التي أتوق لزيارتها في يوم ما. بالرغم من وجود بعض المفردات والعادات اليابانية المتناثرة في رواياته, إلا أنني أجدني آلفها جدا, بالرغم من كوني أجنبي. أجد أشياء كثيرة تربطني بالشخصيات التي تشرب البيرة, تأكل السباغيتي, وتستمع إلى الموسيقى, إلا أنها تقوم بكل هذا داخل إطار ياباني غريب.

2- قد تكون شخصيات موراكامي "عديمة اللون" إلا أنها إنسانية جدًا. لا يوجد أبطال خارقون يحلقون بين ثنايا رواياته, فقط أشخاص لهم أخطائهم, ذكرياتهم, أحلامهم, طموحاتهم, قلقهم, واهتماماتهم. كل شيء قابل للتصديق ومألوف. مع ذلك, على القارئ ألا يفاجأ من الظهور العرضي للقطط الناطقة.

3- محيط روايات موراكامي واقعي, يصور تفاصيل الطبيعة الباردة لضواحي طوكيو, جمال جبال اليابان الثلجية, والاندفاع المحموم في محطات قطاراتها. مع ذلك, هناك عناصر فانتازيّة تضاف من حين لآخر لأسباب وجيهة, مثل القمرين في رواية 1Q84.

4- روايات موراكامي لا تُقاوم, بالرغم من أنها بالكاد تتضمن بعض عناصر التشويق وقطعا لا يمكن تصنيفها على أنها روايات مثيرة. إلا أن هناك شيء آسر في كتابته يدعوك إلى الاستمرار بتقليب الصفحات, وبتلهف, تنتظر لترى ما الذي سيحدث.

5- كل رواية فريدة من نوعها بشكل استثنائي. لا يوجد روايتان تتشابهان تماما. "الغابة النرويجية", أول رواية أقرأها من روايات موراكامي, كانت بسيطة لكنها تحكي بألم عن الجامعات اليابانية في نهاية الستينيات. "وقائع نهاية الطائر" تبدأ بالبحث عن قطة مفقودة وتنتهي بكشف أسرار مدفونة عن الحرب العالمية الثانية. عناصر من الخيال العلمي وقصص التحري يمكن إيجادها في رواية "بلاد العجائب القاسية ونهاية العالم". كل قصص موراكامي هي أصلية بشكل لافت.

6- أي شيء يمكن أن يحدث, الغنم قد يُسيّرون العالم وقد لا يُسيّرونه في رواية "مطاردة خروف بري". يتساقط السمك من السماء في "كافكا على الشاطئ". رحلات عجيبة, هروب, اتصال بفتيات, مكالمات هاتفية غريبة, جحيم كافكاوي, أناس وحدانيون -لا يمكنك أن تعرف بمن ستلتقي في القصص التي تقرأها.

7- قصصه القصيرة أيضا عظيمة. إذا كان حجم "1Q84" و"كافكا على الشاطيء" يصعب من قرائتهما, يمكنك أن تتذوق موراكامي من خلال قصصه القصيرة. مجموعاته القصصية مثل "الفيل يتلاشى" و"الصفصاف الأعمى, المرأة النائمة" يُعَدون "مجاوزة بإصرار على العادي". موراكامي لديه "عبقرية رائقة بفصل الحقائق للكشف عن السريالي في الحياة اليومية, اللاعادي في الأشياء العادية", كما يقول مراجعي رواياته. كتابات موراكامي ممتعة جدا جدا.

يا إلهي! للتو عرفت عن وجود رواية حديثة الصدور "المكتبة الغريبة", وتوصف بأنها "رواية قصيرة تصور بشكل خيالي صبي يعلق في مكتبة كابوسية." هل يكون الترقب التواق لإضافات جديدة إلى رفوف كتبي سببا ثامنا يجعلني أقرأ روايات هاروكي موراكامي؟

ماذا قال طه حسين عن الشعر الجاهلي؟







هناك فئة من البشر تشكّل الحقيقة لديهم حافزا للبحث. هذه الفئة لا تريد التفسيرات السطحية أو الاجابات السريعة، بل تريد الغوص في ماهيّة الأمور. تشكل لديهم كلمة "ماذا" و "كيف" أسئلة تبحث عن جواب.
منذر القباني





في عام ١٩٢٥ نشر الدكتور طه حسين كتابه, الذي أثار ضجة واسعة آنذاك, "في الشعر الجاهلي" وتناول فيه قضية انتحال الكثير من الشعر المعروف بالشعر الجاهلي. إلا أنه اضطر بعد ذلك بعام إلى حذف صفحات من الكتاب وإعادة نشره بعنوان "في الأدب الجاهلي" نتيجة للقضية التي أقامها ضده بعض المنتسبين إلى الأزهر.
لكن ما الذي قاله طه حسين في ذلك الكتاب؟ وهل كانت تلك الضجة مستحقة؟


نقد ابن سلّام الجُمَحي للشعر الجاهلي

الضجة المثارة ضد طه حسين لتناوله هذا الموضوع مستغربة, فهو ليس أول من انتقد الشعر الشعر الجاهلي, بل سبقه العديد من العلماء والباحثين المسلمين والمستشرقين الذين تناولوا هذا الموضوع قبله. فعبدالرحمن بدوي (١٩١٧-٢٠٠٢م) كذلك يستغرب هذه الضجة ضد طه حسين وينقل, في كتابه "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي", رأي ابن سلّام الجُمَحي (٧٥٦-٨٤٦م):


وواضح كل الوضوح من هذه النصوص التي نقلناها عن ابن سلام الجُمَحي أنه استطاع -هو وغيره من علماء اللغة والأدب والنقد في القرنين الثاني والثالث للهجرة- أن يضع قواعد النقد الفيلولوجي السليم للشعر الجاهلي, وأنه استخدم في ذلك منهجا علميا ممتازا توصل بواسطته إلى النتائج التالية:

عبدالرحمن بدوي
١- أن ما ينسب إلى عاد وثمود وما سبق قحطان وما أورده ابن إسحاق -كله منحول مزيف.
٢- أن ما ينسب إلى حمير وجنوب اليمن من أشعار باللغة العربية القرشية كله منحول مزيّف, لأن "لسان حمير وأقاصي اليمن" ليس هو اللسان العربي المعروف ولا عربيتهم بالعربية التي ورد بها الشعر الجاهلي -كما لاحظ أبو عمرو بن العلاء.
٣- أن الفتوح الإسلامية قد أدت إلى التشاغل بالجهاد عن العناية بالشعر وإلى هلاك من هلك بالموت والقتل, فذهب الكثير جدا من الشعر العربي الجاهلي, ولم يبق منه إلا أقله.
٤- وأن الكثير من الرواة -وعلى رأسهم حماد الراوية وخلف الأحمر-, قد كانوا يصنعون الشعر وينسبونه إلى كبار الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام, أو كانوا ينحلون "شعر الرجل غيره" أو ينحلون "الرجل غير شعره" ويزيدون في الأشعار من عندهم. فحماد الراوية "كان غير موثوق به وكان يكذب ويلحن ويكسر".
٥- وأن شعراء الجاهلية حُمِل عليهم -أي نُسب إليهم كذبا- الكثير من الشعر, وأصبح تخليص الصحيح من الزائف شديدا عسيرا, حتى "اضطرب فيه خلف الأحمر", وخَلّط فيه المفضّل (الضبيّ) فأكثر" من أشعارهم المنحولة, حتى أن المفضل ادعى أن للأسود بن يعفر ثلاثين ومائة قصيدة, بينما لا يعرف له ذلك ابن سلام وأصحابه, ولا قريبا من هذا العدد, وأهل الكوفة يتجوزون في ذلك أكثر مما يتجوز ابن سلام وأصحابه.
٦- ويذكر ابن سلام أسبابا عديدة لانتحال الشعر والتكثر من الزائف منه:
أ- منها كذب الرواة للتكسب بالرواية.
ب- ووضع الشعر على لسان الشعراء الكبار مدحا في الأجداد تملقا لذوي السلطان من المعاصرين طمعا في نيل عطائهم, كما حدث لحماد في تأليفه قصيدة في مدح أبي موسى الأشعري ونسبتها إلى الحطيئة, طمعا في نوال بلال بن أبي بردة.
ج- انتحال القصائد للتفاخر القبلي: "وكان قومٌ قلَّت وقائعهم وأشعارهم, فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار, فقالوا على ألسنة شعرائهم, ثم كانت الرواة بعدُ, فزادوا في الأشعار التي قيلت".
د- انتحال القصائد لأسباب دينية كما حدث بالنسبة إلى حسان بن ثابت "لما تعاضهت قريش واستبَّت, وضعوا عليه أشعارا كثيرة لا تُتَقَّى", وبالنسبة إلى أبي طالب في القصيدة المنسوبة إليه في مدح النبي فقد "زيد فيها وطوّلت" ولا يعرف أحد أين منتهاها.
تلك هي النتائج التي انتهى إليها ابن سلام الجمحي, والأسباب التي ساقها لبيان منشأ الانتحال والتزييف والزيادة في الشعر الجاهلي. وهي هي عينها النتائج التي والأسباب التي أوردها الدكتور طه حسين في كتابه : "في الشعر الجاهلي" و "في الأدب الجاهلي" أو كتابه الواحد المعدّل هذا.





نولدكه والمعلقات

أما من المستشرقين فأشهرهم الألماني تيودور نولدكه (١٨٣٦-١٩٣٠م) كان قد انتقد قصة المعلقات في رسالته "من تاريخ الشعر العربي القديم":
تيودور نولدكه



أما فيما يتعلق بخرافة تعليق القصائد, فيلاحظ أولا أن الشواهد عليها رديئة للغاية. وعندي أن هذا الخبر مشكوك فيه جدا لأنه لم يذكره واحد من الكتاب الأقدمين الذين كتبوا تاريخ مكة وعنوا عناية بالغة بذكر كل التفاصيل الدقيقة التي تتعلق بالكعبة. فلا الأزرقي, ولا ابن هشام يذكر هذا الخبر, ولدينا كل سبب كي نذكر أن المصادر الرئيسية عن تاريخ العرب وأساطيرهم: الكلبي وابنه, لا يعلمون شيئا عن ذلك الخبر. كما أننا لا نجد أي أثر لهذه المسابقة ومكانا في هذه القصائد -في القرآن ولا في النقول الدينية, ولو كان هذا الخبر صحيحا لكان (النبي) محمد قد أبدى رأيه في هذا الأمر أعني أن تكون مثل هذه القصائد الدنيوية قد علقت على أكبر حرم مقدس عند العرب. كذلك لا يذكره كتاب "الأغاني" أو أي كتاب آخر في تاريخ الأدب العربي القديم أو يستند إلى مصدر قديم. وأول كاتب معروف لنا ذكر هذه الأسطورة -ودون أن يذكر المصدر العربي الذي اعتمد عليه- بل إنه رفضها على أنها لا أساس لها مطلقا هو أحمد بن النحّاس (المتوفى سنة ٣٣٨ أو سنة ٣٣٧). ثم نجدها بعد ذلك عند بعض الكتاب المتأخرين مثل ابن خلدون في "المقدمة" (ج ٣ ص ٣٥٧) [من نشرة كاترمير] وقد حوّر فيها وفقا لنظرته التاريخية الفلسفية, ثم عند السيوطي في ملاحظة أوردها كوزجارتن, وكذلك نجدها في بعض الأخبار القصيرة المجهولة الأصحاب غير المستندة إلى أسانيد, مثلما في "منتخبات" دي ساسي (ج ٢ ص ٤٨٠) أو في عنوان المخطوط رقم ٦٨ بليدن: "من مدائح على باب الكعبة". وحتى في بعض هذه المواضع يورد الخبر بصيغة: "وقيل" أو ما يشبه ذلك مما يدل على أنه ليس غير مشكوك فيه.





فلهلم ألفرت ورواة الشعر

ألفرت (١٨٢٩-١٩٠٩م) هو مستشرق ألماني آخر انتقد كذلك الشعر الجاهلي, وبالأخص أشهر رواته خلف الأحمر, في رسالة له بعنوان "ملاحظات عن صحة القصائد العربية القديمة":




ولم يكن حماد وحده هو الذي أساء التصرف في الشعر الجاهلي; بل هناك من هو أخطر منه بكثير, وأعني به معاصره والأصغر سنا منه بقليل: خلف الأحمر (المتوفى حوالي سنة ١٨٠ هـ). لقد كان هو الآخر من علماء اللغة الأفذاذ, وكان واسع الاطلاع على شعر القدماء; وما يميّزه عن حماد وعن معظم العلماء هو أنه كان ذا موهبة شعرية عظيمة. وهكذا لم يكن فقط قادرا مثل حماد على التصرف في أشعار الجاهليين, بل كان قادرا على نظم قصائد كاملة بروح القدماء ولغتهم, وأن يولج في أشعارهم ما يشاء من أبيات من نظمه, وأن يقدم هذا كله على أنه صحيح أصيل. فهو الذي نظم القصيدة المشهورة ووضعها على لسان الشنفرى وأوهم الناس بأنها للأخير, كذلك فعل مع تأبّط شرًا; كذلك نسب إلى امرئ القيس الكثير من القصائد التي نظمها هو, كذلك فعل مع النابغة الذبياني. وعن خلف الأحمر أيضا صدرت قصيدة الرجز الطويلة في "الأصمعيات" المنسوبة إلى صحير بن عمير; ومثل هذا حدث في كثير من الأحوال التي لا نستطيع إيرادها تفصيلا.

فلهلم ألفرت
ومن المؤكد أنه استطاع أن يستغل موهبته العظيمة إلى حد جعل علماء الكوفة وعلماء البصرة على السواء ينخدعون تماما, وإلى حد أنهم فضلوا الاستراحة إلى هذا الخطأ الذي بدا لهم كأنه الحقيقة أوْلَى من أن يثقوا به, بأنه كان مستعدا للإقرار بتزييفاته. وكان في أسلوبه وفي قوافيه سحر خاص, وكما يقول ابن سلّام, وهو رجل فاهم, كان الناس حين يسمعونه ينشد الشعر لا يحفلون بالتحقيق من المؤلف الحقيقي لهذا الشعر. 

وفي مواجهة هؤلاء الناس الذين لم يتورعوا عن الخداع والإيهام والتضليل, وفي مواجهة الذين كانوا مخدوعين -عن حسن نية- في صحة الكنوز الشعرية التي يروونها- كان موقف الجمّاعين صعبا: لقد كانت مهمة شبه مستحيلة أن يميّزوا بين الصحيح والمشكوك به, وأن يحددوا من هم المؤلفون الحقيقيون لهذه الأشعار. وحتى أعلم هؤلاء وأكثرهم تورعا, مثل أبي عمرو بن العلاء, والمفضل الضبي, والأصمعي, كانوا حيال هذه التزييفات متحيرين عاجزين, ولم يستطيعوا في غالب الأحوال غير التحفظ في الحكم.



ثم يذكر ألفرت قصة وقعت بين ابن الأعرابي والأصمعي تعكس مدى الصعوبة التي كان يواجهها رواة الشعر الموثوقين مثل الأصمعي في التفريق بين ما هو ثابت وما هو منحول:



ولم يكن من السهل على حذاق العلماء أنفسهم مثل الأصمعي أو ابن الأعرابي الخ -أن يميزوا بين القصائد القديمة والقصائد الجديدة, وتوجد أخبار ممتعة كثيرة تبين كيف ضلّوا وأخطأوا. وهاك واحدا منها: أنشد إسحاق بن ابراهيم للأصمعي هذي البيتين (من الخفيف):

هل إلى نظرة إليك سبيل
فيروَّى الصدى ويشفى الغليل؟
إنَّ ما قلَّ منك يكثر عندي
 وكثيرٌ -مِمَّنْ يُحَبُّ- القليل

فسأله الأصمعي: لمن هذان البيتان؟ -فأجاب إسحاق: لشاعر عربي قديم. -فصاح الأصمعي: وأيم الله إنهما أشبه بالبساط السلطاني! -فاعترف إسحاق قائلا: كلا, لقد نظمتهما أنا في الليلة الماضية. -فقال الأصمعي متضايقا: نعم, إن المرء ليلاحظ فيهما التصنع والإجهاد.


إنه الشّك ما يدفع بالمرء إلى الأمام
باولو كويلو


أبرز ما جاء في كتاب "في الشعر الجاهلي" لـ طه حسين

منهج طه حسين وملخص ما توصل إليه:

في مقدمة الكتاب, أوضح طه حسين المنهج الذي سار عليه ولخّص النتائج التي أدى إليها بحثه:


أريد أن اصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه (ديكارت) للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل, وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما.

[...]

طه حسين
أول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك, أو قل ألح عليّ الشك, فأخذت أبحث أفكر وأقرأ وأتدبر, حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقينا فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء, وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام, فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين ميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين, وأكاد لا أشك في أن ما بقى من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على أي شيء, ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النتيجة, ولكني مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها, ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء; وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين.



القرآن يمثل العصر الجاهلي أكثر من الشعر الجاهلي

يرى طه حسين بأن أكثر نص يعكس حياة العرب في الجاهلية هو القرآن وليس الشعر الجاهلي. لأن القرآن غطى أديان العرب قبل الاسلام من نصارى ويهود ووثنيون وونقل مجادلاتهم. كذلك أشار إلى تجارتهم الصيفية إلى الشام والشتوية إلى اليمن وكذلك علاقاتهم مع الأمم الأخرى مثل الروم, أما الشعر الجاهلي فلا يكاد يذكر شيئا من حياتهم الدينية ويصورهم على أنهم بشر معزولون عن العالم.



لغة الشعر الجاهلي

يشير طه حسين إلى انتفاء أي اختلافات بين لغة قريش التي سادت بين العرب بعد الإسلام وبين لغة شعراء الجاهلية الذين كانوا ينتمون لقبائل مختلفة لكل واحدة منها لهجتها الخاصة:

والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع الذي ابتدأنا به منذ حين, وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا. ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن, والتي كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء: إن لغتها مخالفة للغة العرب, والتي أثبت البحث الحديث, أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية.

ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقا قليلا ولا كثيرا بينه وبين شعر العدنانية. نستغفر الله! بل نحن لا نجد فرقا بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن. فكيف يمكن فهم ذلك أو تأويله؟ أمر ذلك يسير, وهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلى القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء, لم يقله شعراؤها وإنما حمل عليهم بعد الإسلام لأسباب مختلفة سنبينها حين نعرض لهذه الأسباب التي دعت إلى انتحال الشعر الجاهلي في الإسلام.


الشعوبية والعداء بين الفرس والعرب

بعد دخول الكثير من الأمم تحت سلطان العرب خلال الفتوحات الإسلامية, نشب صراع فكري ثقافي, حيث كانت تلك الشعوب ترى أنها أكثر حضارة مِن مَن هجموا عليهم من الصحراء, فكانت هذه الشعوبية من هؤلاء الأقوام تجاه العرب وكذلك افتخارهم بأجدادهم أحد الأسباب التي دعت العرب إلى انتحال الشعر على لسان القدماء ليثبتوا فيها مقدار علم السابقين وفهمهم, كما يشير طه حسين:

ولعل أصدق مثال لهذه الخصومة العنيفة بين علماء العرب والموالي: هذا الكتاب الذي كتبه الجاحظ في البيان والتبيين وهو "كتاب العصا". وأصل هذا الكتاب كما تعلم أن الشعوبية كانوا ينكرون على العرب الخطابة, وينكرون على خطباء العرب ما كانوا يصطنعون أثناء خطابتهم من هيئة وشكل وما كانوا يتخذون من أداة, وكانوا يعيبون على العرب إتخاذ العصا والمخصرة وهم يخطبون. فكتب الجاحظ كتاب العصا ليثبت فيه أن العرب أخطب من العجم, وأن اتخاذ الخطيب العربي للعصا لا يغضّ من فنه الخطابي. أليست العصا محمودة في القرآن والسنة وفي التوراة وفي أحاديث القدماء؟ ومن هنا مضى الجاحظ في تعداد فضائل العصا حتى أنفق في ذلك سفرًا ضخما.

والذي يعنينا من هذا كله هو أن نلاحظ أن الجاحظ وأمثاله من الذين كانوا يعنون بالردّ على الشعوبية, ومهما يكن علمهم ومهما تكن روايتهم لم يستطيعوا أن يعصموا أنفسهم من هذا الانتحال الذي كانوا يضطرون إليه إضطرارًا ليسكتوا خصومهم من الشعوبية. فليس من اليسير أن نصدق أن كل ما يرويه الجاحظ من الأشعار والأخبار حول العصا والمخصرة ويضيفه إلى الجاهليين صحيح. ونحن نعلم حق العلم أن الخصومة حين تشتدّ بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب. كانت الشعوبية ينتحلون من الشعر ما فيه ذود عن ورفع أقدارهم.

ونوع آخر من الانتحال دعت إليه الشعوبية, تجده بنوع خاص في كتاب الحيوان للجاحظ وما يشبهه من كتب العلم التي ينحو بها أصحابها نحو الأدب. ذلك أن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى أن يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلوا أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة. فإذا عرضوا لشيء مما في هذه العلوم الأجنبية فلا بد أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه أو ألموا به أو كادوا يعرفونه ويلمون به.

ومن هنا لا تكاد تجد شيئا من هذه الأنواع الحيوانية التي عرض لها الجاحظ في كتاب الحيوان إلا وقد قالت العرب شيئا قليلا أو كثيرا طويلا أو قصيرا, واضحا أو غامضا. يجب أن يكون للعرب قول في كل شيء وسابقة في كل شيء, هم مضطرون إلى ذلك اضطرارًا ليثبتوا ما يفقدون من السلطان السياسي, وبمقدار ما ترفع هذه الأمم المغلوبة رؤوسها.



تأثير هذا التشكيك على صحة القرآن

استشعر طه حسين ما يدور في خلد القارئ بعد تمامه من قراءة الكتاب, فحرص في نهاية كتابه أن يوضح تأثير هذه النتائج التي توصل إليها على صحة القرآن الكريم:

طه حسين وزوجته سوزان
أن الذين يقرءون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته وفي نفوسهم شيء من الأثر المؤلم لهذا الشك الأدبي الذي نردّده في كل مكان من الكتاب. وقد يشعرون, مخطئين أو مصيبين, بأننا نتعمد الهدم تعمدا ونقصد إليه في غير رفق ولا لين. وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الذي يتصل به هذا الأدب خاصة.

فلهؤلاء نقول أن هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس به, لا لأن الشك مصدر اليقين ليس غير, بل لأنه قد آن للأدب العربي وعلومه أن تقوم على أساس متين. وخير للأدب العربي أن يزال منه في غير رفق ولا لين ما لا يستطيع الحياة ولا يصلح لها من أن يبقى مثقلا بهذه الأثقال التي تضر أكثرها مما تنفع, وتعوق عن الحركة أكثر مما يمكن منها.

ولسنا نخشى على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسا; فنحن نخالف أشدّ الخلاف أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلي لتصح عربيته وتثبت ألفاظه. نخالفهم في ذلك أشدّ الخلاف لأن أحدا لم ينكر عربية النبي فيما نعرف, ولأن أحدا لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته. وإذا لم ينكر أحد أن النبي عربي وإذا لم ينكر أحد أن العرب فهموا القرآن حين سمعوه, فأي خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الجاهلي أو هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟ وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع في أن المسلمين قد احتاطوا أشدّ الإحتياط في رواية القرآن وكتابته ودرسه وتفسيره حتى أصبح أصدق نص عربي قديم يمكن الإعتماد عليه في تدوين اللغة العربية وفهمها. وهم لم يحفلوا برواية الشعر ولم يحتاطوا فيها, بل انصرفوا عنها في بعض الأوقات طائعين أو كارهين, ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر وبعد أن عبث النسيان والزمان بما كان قد حفظ من شعر العرب في غير كتابة ولا تدوين. فأيهما أشد إكبار للقرآن وإجلالًا له وتقديسًا لنصوصه وإيمانًا بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها, أم ذلك الذي يستدل على عربية القرآن بشعر كان يرويه وينتحله في غير احتياط ولا تحفظ قوم منهم الكذاب ومنهم الفاسق ومنهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث؟


هذه أبرز النقاط التي ذكرها طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" سأكتفي بها للاختصار, وهو قد تطرق لحوادث أخرى مثل قصة مقتل سعد بن عبادة  في سفره والتي لم يكتفي فيها الرواة باتهام الجن بقتله بل رووا شعرا نسبوه إلى قتلة سعد من الجن. وفي فصول الكتاب الأخيرة حلل فيها السيَر والأخبار والقصائد المنسوبة لأكثر من شاعر مثل امرئ القيس والمهلهل وغيرهم.


مقتطفات من سيرة الروائي هاروكي موراكامي


للحفاظ على الاستمرارية, عليك بالمحافظة على الإيقاع.
هاروكي موراكامي






مقتطفات من كتاب: عمّ أتحدث حين أتحدث عن الجري لـ هاروكي موراكامي
ترجمة: علي الصباح




هاروكي موراكامي ذلك الروائي الذي يستدرج قُرّاءه بانسيابية إلى عوالم بعيدة وساحرة لا يستطيعون الفكاك منها والرجوع إلى عالمهم الواقعي إلا بعد مجاوزة الصفحة الأخيرة, ويظل يتشبث بهم ذلك الشعور بأنهم قد عايشوا واقعا غرائبيا كالأحلام لا ينفكون يريدون الرجوع إليه مع كل عمل يتلقفونه من أعماله.

عندما قرر موراكامي أن يبدأ بكتابة الروايات, قرر حينها أنه يريد أن يعيش حياة صِحيِّة ويحافظ على لياقته ليكون قادرا على إنتاج الأدب حتى آخر يوم في حياته. فتوقف عن التدخين وشرع في ممارسة الجري, وفي هذا الكتاب دوّن بعض اليوميّات المتعلقة بممارسته للجري في ماراثونات عدة حول العالم, وتخلله كذلك بعض آراءه حول الكتابة, فاجتزأت منه بعض الفقرات التي أعجبتني فيما يتعلق بالأدب وكتابة الروايات.



*****






في كل مقابلة أُسأل عن أهم صفة يجب أن يتحلى بها الروائي. إنها بديهية: الموهبة. لا يهم مدى الحماس والجهد الذي تضعه في الكتابة, إن كنت تفتقد إلى الموهبة الأدبية فيمكنك أن تنسى أن تصبح روائيا. هذا يُعَد شرطا مسبقا أكثر من كونه صفة مهمة. فأفضل السيارات لن تتحرك إن لم يكن فيها وقود. مع ذلك, مشكلة الموهبة أن الشخص الموهوب لا يمكنه التحكم بكميتها أو جودتها. قد تجد الكمية غير كافية وتريد زيادتها, أو تقرر أن تقتصد لتدوم لأكثر مدة ممكنة, لكن بكلا الحالتين الأمور لا تسير بهذه السهولة. للموهبة عقلها الخاص وآبارها, وحين تجف تكون النهاية. بالطبع هناك بعض الشعراء ومغني الروك الذين ذهبت عبقريتهم بلمحة بصر -أشخاص مثل شوبرت وموزارت, الذين حولتهم وفاتهم الدرامية المبكرة إلى أساطير- لديهم جاذبية خاصة, لكن ليس لغالبيتنا هذا النموذج الذي نحتذي به. إذا سألتَ عن ثاني أهم صفة للروائي فهذا أيضا سهل: التركيز -القدرة على تركيز كل ما لديك من موهبة محدودة على ما هو مهم في اللحظة الراهنة. بدون هذا لن تتمكن من إنتاج أي شيء ذو قيمة, لكن إذا تمكنت من التركيز بفعالية ستتمكن من التعويض عن عدم الثبات في موهبتك أو حتى عن أي نواقص فيها. بشكل عام أصب تركيزي على العمل لثلاث أو أربع ساعات كل صباح. أجلس إلى مكتبي وأركز تماما فيمَ أكتب. لا أرى شيئا آخر, لا أفكر بشيء آخر. حتى أن الروائي ذو الموهبة العالية والذهن المليء بالأفكار العظيمة والجديدة قد لا يتمكن من كتابة أي شيء إذا ما كان, على سبيل المثال, يعاني آلاما حادة في أسنانه. الألم يحجب التركيز. هذا ما أعنيه حين أقول أنك بلا تركيز لن تتمكن من إنجاز أي شيء.


بعد التركيز, أهم صفة للروائي هي المداومة. إذا ركزت على الكتابة لمدة ثلاث أو أربع ساعات يوميا ثم شعرت بالتعب بعد أسبوع واحد من هذا العمل فلن تتمكن من كتابة عمل طويل. ما يلزم كاتب الخيال -على الأقل الذي يأمل بكتابة رواية-- هو الطاقة اللازمة للتركيز يوميا لنصف سنة, أو سنة, أو سنتين. يمكنك أن تقارن ذلك بالتنفس. إذا كان التركيز هو عملية حبس الهواء فحسب, فالمداومة هي فن التنفس بهدوء وبطء في نفس الوقت الذي تحبس فيه الهواء في رئتيك. إذا لم تجد التوازن بينهما ستصبح كتابة الروايات باحترافية خلال مدة طويلة صعبة. الاستمرار بالتنفس في نفس الوقت الذي تحبس فيه نَفَسَك. لحسن الحظ, هاتين الصفتين --التركيز والمداومة-- يختلفان عن الموهبة, حيث يمكن اكتسابهما وشحذهما بالتدريب. ستكتسب بشكل طبيعي صفتي التركيز والمداومة حين تجلس كل يوم إلى مكتبك وتدرب نفسك على التركيز على نقطة واحدة. هذا يشابه كثيرا تدريب العضلات الذي ذكرته سابقا. يجب عليك باستمرار نقل موضوع تركيزك إلى سائر جسدك والتأكد من أنه سيمدك بالمعلومات الضرورية لتكتب كل يوم وتركز على العمل الذي بين يديك. وتدريجيا ستوسع حدود قدراتك. وبشكل لا يُلحظ سترفع مستواك. هذا يحتوي على نفس عملية الجري يوميا لتقوية العضلات وللحصول على بنية جسم عداء. أضف بعض المحفزات واستمر. وكرر ذلك. الصبر أمر لازم لهذه العملية, لكنني أضمن النتائج التي ستتحقق. أقر كاتب الغموض ريموند تشاندلر مرة, في مراسلاته الخاصة, بأنه حتى لو لم يكتب شيئا فإنه يجلس إلى مكتبه كل يوم ويركز. أُدرك السبب وراء هذا الفعل. بهذه الطريقة يعطي تشاندلر نفسه القوة الجسدية اللازمة التي يحتاجها الكاتب المحترف, بهدوء يعزز قوة إرادته. هذا النوع من التدريب اليومي كان لا مفر منه عنده.


*****

حين قررت أن أصير كاتبا محترفا برزت لي مشكلة: مسألة الحفاظ على اللياقة البدنية. فأنا أميل إلى اكتساب الوزن حين لا أفعل شيئا. تشغيل الحانة تطلب جهدا بدنيا صارما كل يوم, مما مكنني من الحفاظ على عدم زيادة وزني, لكن حالما بدأت بالجلوس يوميا إلى مكتبي صارت طاقتي تنخفض تدريجيا وبدأت باكتساب الكيلوغرامات. وكذلك كنت أدخن بشراهة كلما زاد تركيزي في عملي. في تلك الأيام كنت أدخن ستون سيجارة في اليوم. أظافري كلها صفراء وتفوح من بدني رائحة الدخان. اتخذت قراري أن هذا لا يمكن أن يكون مناسبا لي. إذا أردت حياة طويلة كروائي, يلزمني إيجاد وسيلة أحافظ بها على لياقتي وعلى وزن مناسب. للجري عدة مزايا; أولا, لا تحتاج إلي شخص آخر لتجري, ولا تحتاج إلى معدات خاصة. لا تحتاج إلى الذهاب لمكان خاص لتمارسه. طالما لديك أحذية جري وطريق جيدة يمكنك أن تجري قدر ما تشاء. التنس ليست كذلك. يلزمك أن تذهب إلى ملعب تنس وتحتاج شخصا آخر لتعلبان معا. يمكنك أن تمارس السباحة بمفردك لكنك تظل تحتاج أن تذهب إلى المسبح.

*****

القيلولة هي إحدى العادات التي أداوم عليها للمحافظة على صحتي. أنا حقا آخذ الكثير من القُيّل. غالبا ما يغلبني النوم مباشرة بعد الغداء, أسقط على الكنبة وأغفو. بعد ثلاثين دقيقة أكون يقظًا جدا. وحالما استيقظ لا يعود جسمي خاملا ويصير ذهني صافيا تماما. هذا ما يسمى siesta في جنوب أوروبا. أظن أنني تعلمت هذه العادة عندما عشت في إيطاليا, لكن ربما تخونني الذاكرة لأنني كنت دائما أحب أخذ القُيّل. على أية حال, أنا من الأشخاص الذين من طبيعتهم إذا نعسوا لا يجدون صعوبة في النوم أينما كانوا. مؤكد أنها موهبة جيدة إذا أردت أن تحافظ على صحتك لكن المشكلة أنني أحيانا أنام في مواقف لا يجب أن أكون فيها نائما.

*****

لا يهم أي مجال تتحدث عنه -لا تتحقق رغبتي في التغلب على شخص آخر. ما يهمني أكثر هو مدى تحقيقي للأهداف التي وضعتها لنفسي, لذا بهذا الإعتبار, الجري لمسافات طويلة هو الأنسب لنمط تفكيري.

*****


كما ذكرت سابقا, منافسة الآخرين سواء في الحياة العامة أو في مجال عملي, ليس هو نمط الحياة الذي أسعى إليه. اعذرني على توضيحي للبدهيات, لكن العالم مليء بشتى أنواع البشر. الآخرون لديهم قيمهم التي يحييون خلالها, نفس الشيء ينطبق عليّ. هذه الفروقات تفتح مجالا للخلاف, والمزج بين هذه الخلافات يفتح مجالا لسوء فهم أكبر. نتيجة لذلك, بعض الناس يُنتَقدون بظلم. غني عن القول بأن سوء التفاهم أو الانتقاد ليس ممتعا, بل هو تجربة مؤلمة تؤذي الناس بعمق. مع ذلك, كلما كبرت كلما أدركت تدريجيا أن هذا النوع من الألم والأذى جزء ضروري من الحياة. إذا فكرت في الأمر, الناس مختلفون عن بعضهم البعض لذلك يمكنهم أن يخلقوا ذواتهم المستقلة. خذني أنا على سبيل المثال, قدرتي على اقتناص جوانب لا يستطيع الآخرون رؤيتها من مشهد ما, أن اشعر بمشاعر مغايرة عن الآخرين وأنتقي مفردات تختلف عن مفرداتهم, هذا يتيح لي أن أكتب قصصا تنتمي إليّ وحدي. ولهذا السبب لديّ هذه الحالة الرائعة حيث يقرأ عدد كبير من الناس مؤلفاتي. لذلك, حقيقة أني أنا نفسي ولست شخصا آخر هي واحدة من أعظم ممتلكاتي. الأذى العاطفي هو الثمن الذي يجب أن يدفعه الإنسان ليحقق إستقلاليته.

*****


بالنسبة لي, كتابة الرويات في الأساس عمل يدوي. الكتابة ذاتها عمل ذهني, لكن إنهاء كتاب كامل أقرب إلى العمل اليدوي. إنها لا تتضمن حمل أشياء ثقيلة أو الجري سريعا ولا القفز عاليا. مع ذلك, ينظر أغلب الناس إلى الجانب الخارجي للكتابة فقط, ويظنون أن الكتّاب منطوون في بيئات عمل هادئة ليزاولون عملا فكريا متعلق بأبحاثهم. فيعتقدون إذا ما كانت عندك القوة البدنية الكافية لحمل كوب قهوة فستتمكن من كتابة رواية. لكن حالما تضع يديك فيها ستكتشف سريعا بأنها ليست وظيفة هادئة كما تُصَوّر. العملية بأكملها --الجلوس إلى مكتبك, شحذ انتباه ذهنك كشعاع ليزر, تخيل أشياء تأتي من عند الأفق الخالي, إنشاء قصة, انتقاء المفردات المناسبة, واحدة واحدة, المحافظة على استمرار تدفق القصة-- يتطلب, على مدار فترات طويلة, طاقات أكبر مما يتخيله أغلب الناس. قد لا يتحرك جسدك, لكن يعتمل داخلك جهد متحرك مرهق. كل إنسان يستخدم عقله حين يفكر. لكن الكاتب يرتدي ثيابا تُسمى السرد ويفكر بكامل كيانه. بالنسبة للروائي, هذه العملية تتطلب اللعب بكل ما يدخره جسدك, وغالبا حتى الانهاك. الكتاب الموهوبون يخوضون هذه العملية بشكل لا واعي, وفي بعض الحالات يكونون في غفلة عنها. , طالما يمتلكون قدرا من الموهبة, خاصة حين يكونون حدثاء, ستغدو كتابة الرواية بالنسبة إليهم أمرا ليس بتلك الصعوبة. يستطيعون بسهولة إزالة كل العقبات. أن تكون صغيرا في السن يعني أن يكون جسدك ممتلئا بالحيوية. القدرة على التركيز والمداومة سيتوفران عند الحاجة, ولن يكون ضروريا السعي ورائهما. إذا ما كنت صغيرا وموهوبا ستكون أشبه بمن يمتلك أجنحة.


*****


بشكل طبيعي, هناك أناس في العالم (عددهم محدود بالطبع) يتمتعون بموهبة هائلة بحيث تظل متوقدة منذ بدايتهم إلى نهايتهم وأعمالهم دائما تكون بأعلى جودة. هؤلاء المحظوظون يمتلكون بئر مياه لا تنضب مهما استقوا منها. بالنسبة للأدب, هذا شيء يستحق الامتنان. يصعب تخيل تاريخ الأدب بدون هؤلاء القامات مثل شكسبير, بلزاك, وديكنز. لكن العمالقة في النهاية عمالقة --قامات أسطورية استثنائية. بقية الكتاب الذين لا يستطيعون الوصول لهذا العلو (بما فيهم أنا بالطبع) يلزمهم تعزيز نواقص موهبتهم بشتى الوسائل التي يمتلكونها. بغير هذه الطريقة لن يتمكنوا من كتابة روايات ذات معنى. الطرق والاتجاهات التي يمكن للكاتب أن يسلكها تصير جزءً من فردانية ذلك الكاتب, أو ما يجعله مميزا. معظم ما أعرفه عن الكتابة تعلمته خلال الجري كل يوم. هذه دروس عملية وبدنية. إلى أي حد يمكنني دفع نفسي؟ ما هو القدر الكافي للراحة --وما هو القدر الزائد عن الحاجة؟ إلى أي حد يمكنني الاحتفاظ بشيء ما ويظل بصورة لائقة ومتماسكة؟ متى يصير الأمر ضيق الأفق وغير مرن؟ إلى أي مدى يجب علي أن أكون واعيا بالعالم الخارجي, وإلى أي مدى يجب علي أن أركز على عالمي الداخلي؟ إلى أي مدى يمكنني أن أكون واثقا من قدراتي, ومتى يجب أن أشكك بقدراتي؟ لو لم أمارس الجري لمسافات طويلة حين بدأت في كتابة الروايات, لأخذت كتاباتي منحى مختلف تماما. كيف؟ صعب علي أن أقول كيف. لكن شيئا ما سيكون مختلفا بكل تأكيد.


*****


على أية حال, أنا سعيد لأني لم أتوقف عن الجري طوال هذه السنوات. والسبب هو أني أحب الروايات التي كتبتها. وأنا حقا أتطلع لأرى نوع الرواية التي سأكتبها لاحقا. بما أنني كاتب له حدود --شخص غير كامل يعيش حياة غير كاملة ومحدودة-- فكوني لا أزال أشعر بهذه الطريقة هو انجاز حقيقي. وإذا كان الجري يوميا يساعدني على تحقيق هذا, فأنا ممتن جدا للجري. الناس أحيانا يسخرون ممن يجرون كل يوم بدعوى أنهم قد يفعلون أي شيء في سبيل العيش لفترة أطول. لكنني لا أظن أن هذا هو السبب الذي يدفع أغلب الناس إلى الجري. أغلب العدائين لا يجرون لأنهم يريدون حياة أطول, لكن لأنهم يريدون أن يحيوا الحياة لأقصى مدى. إذا كنت ستُعَمَّر لسنوات طويلة فمن الأولى أن تعيش بأهداف واضحة وبحياة مفعمة عوضا عن العيش بحياة ضبابية, وأرى أن الجري يحقق ذلك. أن تبذل قصارى جهدك حسب ما تتيحه إمكانياتك على أكمل وجه: هذا هو جوهر الجري, وهو أيضا كناية عن الحياة --وبالنسبة لي, للكتابة أيضا. أعتقد أن الكثير من العدائين سيوافقوني.


*****


بينما كنت أجري أتتني بعض الأفكار حول كتابة الروايات. أحيانا يسألني الناس: "أنت تعيش كل يوم حياة صحية يا سيد موراكامي, لكن ألا تعتقد بأنك يوما ما ستجد نفسك غير قادر على الكتابة." الناس لا يتطرقون كثيرا إلى هذا حينما أكون مسافرا, لكن يبدو أن الكثير من اليابانيين ينظرون إلى كتابة الروايات باعتبارها نشاطا غير صحي, بأن الروائيون بشكل أو آخر يجب أن يفسدوا ويعيشوا حياة ضارة ليتمكنوا من الكتابة. هناك نظرة شائعة بأن على الكاتب أن يعيش بنمط حياة غير صحي ليتمكن من نزع نفسه من دنس العالم وليتملك نوع من النقاء الذي يعطيه قيمة فنية. هذه الفكرة تتشكل عبر الزمن. الأفلام والمسلسلات التلفزيونية تعزز هذا التصور --أو هذه الأسطورة-- لشخصية الفنان. أوافق مبدئيا على أن كتابة الروايات هي عمل ضار بالصحة. حينما نبدأ بكتابة رواية, حينما نستخدم الرواية لنحكي قصة, سواء أعجبك أو لم يعجبك هناك صنف من السموم المختبئ عميقا داخل جميع البشر يطفو على السطح. كل الكتاب يجب عليهم أن يواجهوا هذه السموم وجها لوجه ويكونون واعين بها ويكتشفون طريقة للتعامل معها, لأن بغير هذه الطريقة لا يمكن لأي نشاط ابداعي أن يأخذ مجراه. (أرجو أن تعذر غرابة هذا التشبيه: أشهى قطعة من سمك الينفوخ تلك التي تكون قريبة من السم --قد يكون هذا قريبا لما أرمي إليه.). لذا فمن البداية, الأنشطة الفنية تتضمن عناصر ضارة بالصحة ولا اجتماعية. أعترف بهذا. لهذا السبب يكون من بين الكتاب والفنانين الآخرين مجموعة ممن قد تكون حياتهم فاسدة أو ممن يتظاهرون بأنهم لا اجتماعيين. يمكنني تفهم ذلك. أو بالأحرى, لا أنكر بالضرور هذه الظاهرة.

*****

في الجري لمسافات طويلة المنافس الوحيد الذي عليك أن تتغلب عليه هو نفسك, ما كنتَ عليه.


*****


لكن هؤلاء أمثالنا الذين يأملون بمزاولة مهنة الكاتب المحترف لأمد طويل علينا أن نطور نظامنا المناعي الخاص بنا بحيث يقاوم أخطار السموم (بعض الأحيان القاتلة) القابعة فينا. قم بهذا, وستتمكن حتى من التخلص من سموم أقوى بكفاءة أكثر. بعبارة أخرى, يمكننا خلق حكايات أفضل لتتعامل مع هذا. لكن يلزمك طاقة أكبر لتخلق نظام مناعة وتتحكم به على مدار فترات طويلة. يجب عليك أن تنقب عن تلك الطاقة من مكان ما, وأين يمكنك أن تجدها بأفضل من وجودك المادي؟ أرجوك لا تسيء فهمي, أنا لا أزعم أن هذه هي السبيل الوحيدة التي يمكن للكتاب أن يسلكوها. كما أن هناك أنواع مختلفة من الأدب, هناك أنواع مختلفة من الكتاب, كل يملك نظرته الخاصة تحاه العالم. ما يتعاملون معه يختلف, كما تختلف أهدافهم. لذا لا يوجد ثمة طريق صحيحة للروائيين. لا داعي لذكر ذلك. لكن بصراحة, إذا أردت كتابة عمل واسع النطاق, زيادة قوتي وقدرتي أمر لا بد منه, وأرى أن هذا شيء يستحق, أو على الأقل فعله أفضل بكثير من تركه. هذه ملاحظة تافهة, لكن كما يقال: إذا كان يستحق أن تفعله, فيستحق أن تعطيه أفضل ما لديك --أو في بعض الحالات أفضل مما لديك. للتعامل مع شيء غير صحي, يحتاج المرء أن يكون صحيا قدر الإمكان. هذا شعاري. بعبارة أخرى, الروح السقيمة تحتاج إلى جسد صحيحا. قد يبدو هذا متناقضا, لكنه أمر شعرت به تماما منذ أن صرت كاتبا محترفا. الصحي والسقيم ليس بالضرورة أن يكونا على طرفي نقيض. لا يعارضان بعضهما البعض بل يكملان بعضهما وفي بعض الحالات يتحدان معا. بالطبع بعض الأشخاص الذين يسلكون مسارا صحيا في حياتهم لا يرون إلا الجانب الصحي, بينما الآخرون الذين تتدهور صحتهم يفكرون بهذا التدهور فقط. لكن إذا اتبعت هذا النظرة الأحادية للصحة الجيدة لن تكون حياتك مثمرة.


*****


بعض الكتاب اللذين كتبوا أعمالا باهرة, جميلة, قوية في شبابهم يجدون أنهم حين يكبرون يتملكهم الإرهاق فجأة. كلمة "انطفأ" تكون مناسبة جدا هنا. أعمالهم اللاحقة قد لا تزال جميلة, وإرهاقهم قد ينقل معاني معينة, لكن الأمر واضح بأن طاقتهم قد بدأت تنضب. أعتقد, أن هذا نتيجة لعدم قدرة أجسادهم على احتمال دفق السموم التي يتعاملون معها. الحيوية الجسدية التي ظلت مستمرة لفترة قد تجاوزت قمتها, وفعاليتها كنظام مناعة قد بدأ يتلاشى. حينما يحدث ذلك سيصعب على الكاتب أن يظل مبدعا بشكل حدسي. التوازن بين القوة الخيالية والقدرات الجسدية التي تسمح باستدامتها قد تفتت. ويظل الكاتب يطبق الأدوات والطرائق التي اكتسبها ويسخر الحرارة المتبقية لصهر شيء ما إلى ما يشبه العمل الأدبي --طريقة مقيدة لا يمكنها أن تكون رحلة ممتعة. بعض الكتاب ينهون حياتهم عند هذه اللحظة, بينما آخرون يقررون التوقف عن الكتابة وسلك مسار آخر. إذا كان ممكنا, أود أن أتجنب هذا الانطفاء الكتابي. فكرتي عن الأدب أنه شيء أكثر عفوية, أكثر تماسكا, شيء ذو طبيعة حيوية إيجابية. بالنسبة إلي, كتابة رواية كتسلق جبل شديد الانحدار, مكافحة للصعود إلى أعلى الجرف, بلوغ القمة بعد عناء شديد. قد تتخطى حدودك وقد لا تتخطاها, كلاهما ممكن. دائما أحتفظ بهذه الصورة الذهنية حين أكتب. لا أحتاج لأن أذكرك أنك يوما ما ستخسر. مع مرور الوقت حتما سيتدهور الجسد. آجلا أم عاجلا, سيُهزم ويتلاشى. حين يتفتت الجسد, الروح كذلك (على الأرجح) ستذهب أيضا. أنا واعٍ لذلك بشدة. على الرغم من ذلك, أحاول قدر الإمكان تأخير حلول النقطة التي عندها ستُهزم حيويتي وستنتصر عليها السموم. هذا مسعاي كروائي. مع هذا, في هذه المرحلة لا أملك رفاهية أن أنطفئ. لهذا السبب بالتحديد حتى وإن كان الناس يقولون "هو ليس ماهرا" فأنا مستمر بالجري.


*****


مشروع آخر أعمل عليه الآن هو ترجمة رواية غاتسبي العظيم لسكوت فيتزجيرالد والأمور تسير على ما يرام. انتهيت من المسودة الأولى وأراجع الثانية. آخذ وقتي على مهل, أمر على كل سطر بعناية, بينما أقوم بذلك تصير الترجمة مصقولة أكثر وأصير أكثر قدرة على تقديم نثر فيتزجيرالد ليكون أقرب إلى الطبيعة اليابانية. قد يبدو غريبا إعلان هذه الدعوى بهذا الوقت المتأخر, لكن رواية غاتسبي مرموقة جدا. لم أسأم منها قط, بغض النظر عن المرات التي أعيد قراءتها. هي من ذلك النوع من الأدب الذي ينعشك عند قراءته, وكلما أفعل ذلك أفاجأ بشيء جديد, وأستشعر ردة فعل جديدة تجاهه. أجده أمرا مميزا كيف أن كاتبا شابا, يبلغ من العمر ٢٩ عاما فقط آنذاك, يمكنه إدراك --ببصيرة وإنصاف وبحرارة-- حقائق الحياة. كيف كان ذلك ممكنا؟ كلما فكرت في هذا أكثر, كلما كررت قرائتي للرواية, كلما زاد الأمر إلغازا.


*****

ما أعنيه هو أنني لم أشرع بالجري لأن شخصا ما أراد مني أن أكون عداءً. بالضبط مثلما أنني لم أصبح روائيا لأن شخصا ما أراد مني ذلك. يوما ما, وبلا سابق مقدمات أردت أن أكتب رواية. وكذلك يوما ما, بلا سابق مقدمات شرعت في الجري --ببساطة لأني أردت ذلك. كنت دائما أفعل ما أشعر أني أحب القيام به في الحياة. قد يحاول الناس إيقافي وإقناعي بأني مخطيء, لكني لا أتغير. أنظر لأعلى باتجاه السماء متسائلا ما إذا كنت سأحظى بنظرة خاطفة من اللطف, لكني لا أجد ذلك. كل ما أراه هو غيوم صيفية لا مبالية تتنقل فوق المحيط الهادئ. وليس لديها أي شيء لتقوله لي. الغيوم دائما كتومة. ربما لا يجب أن أنظر إلى الأعلى تجاهها. الذي يجب أن أوجه نظري إليه هو داخلي. كالنظر في بئر عميقة. هل يمكنني أن أرى لطفا هناك؟ لا, كل ما أجده هو طبيعتي. شخصيتي, عنادي, عدم تعاوني, غالبا طبيعة أنانية لا تزال في ريب من أمرها --من ذلك, حين تحدث المتاعب, أحاول أن أبحث عن شيء مرح أو قريبا للمرح متعلق بذلك الموقف. حملت هذه الشخصية كحقيبة يد عتيقة, خلال طريق طويلة ومغبرة. لا أحملها لأني أحبها. المحتويات جدا ثقيلة, وتبدو قذرة ومبقعة. حملتها معي لأني لا أملك شيئا آخر لأحمله. مع ذلك, أعتقد أنه نما فيّ تعلق تجاهها. كما يمكنك أن تتوقع ذلك.