(تنوخ، من القرن الثالث إلى الرابع الميلادي)
كانت مملكة الأنباط، وحمص، وتدمُر، والرُها، بمثابة الإمارات التابعة للإمبراطورية الرومانية. وهي أشبه ما تكون بدولٍ وطنية، يعيش في كنفها جماعات لها انتماءات وثقافات متنوعة. انتهى هذا النظام، وبدأ الروم يعقدون تحالفاتهم مع قبائل عربية لحماية حدود الإمبراطورية من غزوات البدو، أو مساعدتها في صد تغلغل الفرس عن أراضيها. وبالمقابل تقدم الإمبراطورية مساعدات مالية لشيخ القبيلة وتطلق عليه لقب فيلارخ (ملك).
تشكّل حلف تنوخ خلال القرن الثالث الميلادي، من بقايا الأنباط مع مجموعات من بدو الجزيرة العربية. ابتدأ الحلف بتجمع للقبائل في منطقة القطيف، ثم هاجر شمالاً إلى مدينة الحيرة، التي تحمل في السريانية معنى المعسكر أو المخيّم. قد يكون السبب الرئيس لتأسيسه هو مواجهة تدمُر، التي برزت بشكل كبير بقيادة أُذينة، الذي حقق انتصارات عظيمة ضد الفرس. ولكن بعد وفاته شنّت أرملته، زنوبيا، سلسلة من المعارك أفقدت الرومان الجزء الشرقي من الإمبراطورية. ومن تنوخ، خرج امرؤ القيس الذي أسس السلالة اللخمية التي حكمت الحيرة، وتحالف مع الفرس ثم الروم. ومنها أيضاً أتت ماوية، التي حاربت الروم خلال القرن الرابع.
خفَت ذكر تنوخ في التاريخ بعدما حلّت سليح محلهم، في تحالفها مع الروم في القرن الخامس. ثم عاد ذكرهم حين ظهر الإسلام، فشاركوا في القتال إلى جانب هرقل ضد العرب المسلمين عام 639م، وانتهت علاقتهم بالروم بعدما باءت تلك المحاولات بالفشل.
اعتمد الأمويون -الذين حكموا المسلمين تلك الفترة- بشكل كبير على نظام الأجناد. وكان جزءٌ منهم مقاتلين في صفوف جيش الروم سابقاً، وأغلبهم مسيحيون، فكانت تنوخ واحدة منهم. أقاموا في شمال سوريا، وأُتيحت لهم الحرية لبناء كنائسهم وممارسة دينهم كما يشاؤون. قاتلوا إلى جانب معاوية بن أبي سفيان في معركة صفين عام 657م، وقاتلوا إلى جانب مروان بن الحكم، مؤسس السلالة الأموية المروانية، في معركة مرج راهط عام 684م.
انتهى نهج بني أمية العروبي بسقوط دولتهم، وحلت محله الأيديولوجيا الإسلامية للعباسيين. فخلال عام 780م زار الخليفة المهدي شمال سوريا وخرج في استقباله جماعة من التنوخيين على خيولهم، معتمرين عمائم ملونة وحاملين للخليفة هدايا، ومذكرينه بقرابتهم به من جانب أمه. تسبب هذا المنظر بالإحراج للخليفة الذي يلقب نفسه أمير المؤمنين. فهم ما زالوا على مسيحيتهم وخروجهم بهذا الشكل جعلهم يبدون وكأنهم جيش مسيحي فرح بعلاقته مع خليفة المسلمين. فطلب منهم الخليفة الدخول في الإسلام، وعندما رفضوا أمر بقطع رأس زعيمهم، وأجبر رجالهم على الدخول في الإسلام، فآمنت به جماعة منهم.
ذكرت بعض المصادر أنهم قرروا الهجرة إلى أرمينيا بعد فترة قصيرة من وفاة هارون الرشيد، حيث المجتمع المسيحي أكثر حضوراً فيها من سوريا. وفي القرن الحادي عشر الميلادي استقر من أسلم من قبيلة تنوخ على المذهب الدرزي.
امرؤ القيس: ملك العرب جميعا
(تنوخ، 328م)
"هذا قبر امرؤ القيس بن عمرو، ملك العرب كلهم. الذي تقلد التاج، وأخضَع قبيلتي أسد ونزار وملوكهم، وهزم مذحج، وقاد الظفر إلى أسوار نجران مدينة شمر، وأخضع معداً، واستعمل بنيه على القبائل ووكلهم فرساناً للروم، فلم يبلغ ملك مبلَغه إلى اليوم. توفى سنة 223م في 7 من أيلول، وفِّق بنيه للسعادة"
نقش (النمارة) على قبر امرؤ القيس
ظهرت تنوخ كقوة صاعدة من بعد سقوط تدمُر، تملؤ فراغ الفضاء السياسي العربي. تأسست بتحالف من بين مجموعة من بقايا مملكة الأنباط، وجزء من قبيلتي طيء والأزد. اتفقوا على تنصيب مالك بن فهم الأزدي زعيماً عليهم عام 193م، والذي استطاع أن يسيطر على الأردن وأجزاء من العراق. ثم خلفه ابنه جُذيمة بن مالك، الذي يُعتقد أن زنوبيا قتلته في طريقها لفتح مصر. ولم يكن لجُذيمة أبناء فخلفه ابن اخته عمرو بن عدي. ويعرف اللخميون بعدة مسميات، مثل آل نصر، نسبة إلى ربيعة بن نصر، الذي هاجر من اليمن بعد انهيار سد مأرب. ويعرفون باسم آل محرق، نسبة إلى صنم تعبده بكر وربيعة. والمناذرة، لكثرة ورود هذا الاسم بين أمرائها.
أخذ عمرو بن عدي بثأره لمقتل جُذيمة عبر تعاونه مع الإمبراطور أورليان للإطاحة بزنوبيا. ثم أسس السلالة اللخمية التي حكمت الحيرة من عام 268م حتى 602م. وجاء امرؤ القيس بن عمرو خلفاً لوالده، وكان أول من تنصر من اللخميين. وقد يكون للملك أبجر الثامن (حاكم الرُها) علاقة باعتناقه للمسيحية لما بينهما من صلة قرابة. أميران فقط من أمراء الحيرة أعلنا تنصّرهما؛ وهما امرؤ القيس وآخر أمرائها، النعمان في 593م، أما الأمراء الأربعة عشر الذين كانوا بينهما فقد ظلوا على الوثنية، إما ولاءً لآلهتهم أو خوفاً من إغضاب الفرس باعتناق دين الإمبراطورية المعادية. واحتلت اللات والعزى المكانة الأرفع بين وثنيّي الحيرة. ستجد كذلك إلى جانب المسيحيين النساطرة والوثنيين، بعض المجوس (الزردشتيين) واليهود.
كانت مصادر دخل مملكة الحيرة تعتمد على تحصيل الضرائب من ملاك الأراضي والقبائل. ومن القوافل التجارية التي تنطلق منها، محملة بالبضائع لتُباع في الحجاز ثم تعود ببضائع من الحجاز لتُباع في الحيرة. أما مصدر الدخل الأكبر، فقد كان مما يُغتنم من المدن السورية الثرية، أو القبائل البدوية المتمردة.
ماوية
(تنوخ، 378م)
بعد قرن من زوال حكم زنوبيا في تدمُر، تخرج على المسرح السياسي العربي زعيمة عربية أخرى. ومثل زنوبيا، تولَّت هذه الزعيمة القيادة بعد وفاة زوجها عام 375م. فقد تزَعَّم ثلاثة من التنوخيين النعمان بن عمر، ثم ابنه عمرو بن النعمان، ثم ابنه الحواري، والذي بعد وفاته انتهى تحالف قبيلته مع الرومان، وبدأت زوجته، ماوية، بالثورة ضد الإمبراطورية.
لن نتمكن من فهم ثورة ماوية دون الرجوع إلى طبيعة الخلافات المسيحية في تلك الحقبة. قرر الإمبراطور ڤالنس، وهو يدين بالمذهب الآريوسي، أن ينصب أسقفاً آريوسيا على العرب. وتبع ذلك اضطهاداً لأساقفة المذهب الأورثوذكسي، الذي تنتمي إليه ماوية وأتباعها. قررت تِبعاً لذلك أن تتراجع إلى الصحراء لتعقد تحالفات مع القبائل بهدف مواجهة قرار الإمبراطور، وتنصيب أسقفاً أورثوذكسياً عربياً عليهم بديلاً عن الآريوسي. وهذا ما جعل الصراع بينهم بشكل من الأشكال صراعاً دينياً. لم يكن في مقدرة الروم أن يحاصروا ماوية كما فعلوا بزنوبيا التي احتمت بمدينتها، تدمر. تخلت ماوية عن معقل التنوخيين في حلب، واحتمت بكل ما في الصحراء من سعة وشتات ولامركزية. وعليه؛ لم يكن أمام الرومان أي هدف ثابت يمكنهم مهاجمته.
اكتسبت ماوية شعبية واسعة بعد هذه الانتصارات، وبدى كما لو أن الجانب الشرقي من الإمبراطورية الرومانية على وشك الانهيار، ليحل محله حكم ماوية ومن معها من العرب. وبسبب الطبيعة الدينية لهذا الصراع وأهميته في التبشير بالمسيحية في منطقة الهلال الخصيب، كان مؤرخو الكنيسة من أكثر مَن اعتنى به. وفي حديث المؤرخ سوزومين عن ماوية ومن معها، وصفهم بأنهم إسماعليون، أبناء هاجر.
قتال القبائل العربية إلى جانب الرومان طوال عقود كثيرة أكسبهم معرفة جيدة في خططهم العسكرية ومواطن ضعفهم. فانتهجت قوات ماوية أسلوب حرب العصابات في قتالها، وتمتعت بقدرة عالية على التنقل والقيام بغزوات سريعة ثم الفرار، مما أنهك محاولات الرومان لإحباط تمردهم.
أرسل ڤالنس جيشاً آخر بقيادة القائد العسكري الشرقي للإمبراطورية ليواجه ماوية. إلا أنه في هذه المواجهة لم يستطع أن يجذب إليه أي من قوات من القبائل العربية، كما فعل الرومان من قبل مع زنوبيا. والسبب في ذلك أن القبائل تحلّقت حول ماوية في سبيل الدفاع عن موقفهم الديني. كان العرب كلهم يقاتلون إلى جانب ماوية وقبيلة تنوخ. فانتهت المواجهة بهزيمة أخرى مهينة لجيش الإمبراطورية، مما أجبرهم على الموافقة على هدنة، والنزول عند شروط ماوية. ليصير بذلك موسى الراهب، أول أسقف عربي يُعيّن على العرب. وقد أُعجِبوا فيه بسبب زهده عن حياة المدن، واختياره للعيش في المناطق الصعبة التي يعيشون فيها، بالإضافة إلى ما يتمتع به من قوى خارقة ومعجزات. ثم زوّجت ماوية ابنتها للقائد الروماني العام، ڤيكتور، لتوطيد التحالف بينهما.
بعد توثيق التحالف بين الإمبراطورية الرومانية وقبيلة تنوخ، استعانت الإمبراطورية بجيوش عربية لمواجهة الغوط. إلا أن القوات العربية لم تظهر بما كانت عليه في تفوقها خارج أراضيها. غلَبهم جيش الغوط، وأجبروا جيش الإمبراطورية على التراجع حتى القسطنطينية، بل وقتلوا الإمبراطور ڤالنس في تلك الأثناء. فضّل الإمبراطور اللاحق، ثيودوسيوس الأول، التحالف مع الغوط على العرب، وهو ما تسبب بثورة عربية أخرى سرعان ما أُخمدت. وانتهى تحالف الإمبراطورية الرومانية مع تنوخ، ليُعقد تحالف جديد مع قبيلة سَليح.