سياحة في التراث: الغِواية والهُيَام




"وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلۡغَاوُۥنَ * أَلَمۡ تَرَ أَنَّهُمۡ فِي كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ"

سورة الشعراء



نحن في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، في الجزء الغربي من الجزيرة العربية حيث نزل القرآن وانطلقت دعوة النبي محمد من مكة ثم المدينة. تلك الدعوة التي تلقفها الصحابة والتابعين ولم يكد ينتهي هذا القرن إلا وجاوزت حدود بلادهم إلى مصر والشام وإيران. لنتعرف على مصير الشعراء الذين هاموا على وجوههم واشتد بهم القلق في ظل القيم الجديدة.



دين جديد، حياة جديدة


اِشْتَدَّ بِهِ القَلَقُ: الاضْطِرَابُ، الانْزِعَاجُ، عَدَمُ الاسْتِقْرَارِ النَّفْسِيِّ.

المعجم الغني


هناك أحداث كبيرة تركت أثرًا عميقًا على العرب قرون عديدة وأسهمت في تشكيلهم. أبرزها انهيار سد مأرب وما تبعه من فشل نظام الري ما وضع حدا لتطور ونمو الممالك اليمنية، ودفع القبائل للهجرة والتفرق في أرجاء الجزيرة العربية. تبع ذلك تكوين عدة ممالك عربية، تتحارب فيما بينها من جهة  بينما تحافظ على تحالفها مع الفرس والروم. مرت قرون على هذا الشتات حتى وقع حدث كبير آخر غرب الجزيرة العربية، في مكة بالتحديد، حيث ظهر نبي من قريش يدعو العرب إلى عبادة إله واحد. هذا الحدث جمّع شمل القبائل "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ" تحت راية واحدة ودولة واحدة وغاية واحد. الإسلام. عبّر عمر بن الخطاب بوضوح عن هذا المعنى في اللقاء الذي جمعه مع الهرمزان (ملك الأحواز وقائد الفرس في معركة القادسية) بعدما جُلب أسيرا إلى المدينة وفي حوار قصير مع عمر، ينقله مؤلف البداية والنهاية، قال له: "إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا".


بدأ النبي بالدعوة في مكة إلى الدين الجديد بالحكمة والموعظة الحسنة. وبلغت أصداؤها أرجاء الجزيرة العربية حتى سمع به الأعشى، أحد فحول الشعراء وممن أُلحِقت قصيدته البديعة: "وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ" إلى المعلقات. اشتهر بالتكسب من شعره عبر مدح الملوك. ومدح النبي بأبيات ثم هَمَّ في القدوم إليه أثناء صلح الحديبية. مدحه للنبي أقلق قريش. فانطلق إليه أبوسفيان وحاول أن يثنيه بأن عدَّد له ما حرم النبي من زنى وربا وقمار وخمر، لكن الأعشى الكهل لم يكترث ولم يتراجع رغم ولعه في اللهو والشرب كما يذكر بطرس البستاني: "عرف كيف يشربها ويلهو، ويصفها ويطرب، فهو إذا وصف الخمرة وصف معها النديم والساقي، ووصف القَينة وعودها، وصوَّر السكارى تصويرًا جميلًا، في أسلوب لطيف لا يخلو من طرف وفكاهة، وله أقوال كثيرة في الخمر، توكأ عليها الأخطل، وأبو نواس من بعده". أبوسفيان لم يستسلم، وعرض عليه مئة من الإبل على أن يؤجل إسلامه سنة واحدة. وافق. لكن الموت أدركه وهو في الطريق إلى قريته. ومن الأبيات التي مدح فيها النبي:


نَبِيٌّ يَرى ما لا تَرَونَ وَذِكرُهُ أَغارَ لَعَمري في البِلادِ وَأَنجَدا

لَهُ صَدَقاتٌ ما تُغِبُّ وَنائِلٌ وَلَيسَ عَطاءُ اليَومِ مانِعَهُ غَدا

أَجِدَّكَ لَم تَسمَع وَصاةَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الإِلَهِ حينَ أَوصى وَأَشهَدا


بعد مدة ليست بالطويلة، انتصر النبي على خصومه القرشيين وفتح مكة. وأمر بملاحقة وقتل من ناصبوه العداء. كان كعب بن زهير، ابن زهير بن أبي سلمى أحد أصحاب المعلقات والشاعر المفضل عند عمر بن الخطاب، أحد الذين هجو النبي وأعلنوا له العداء. وبعدما انتصر النبي وأتباعه راح كعب يسأل القبائل أن تجيره. لم يقبل بحمايته أحد، حتى ضاقت عليه الجزيرة العربية، ورأى أن من الأسلم له أن ينشد قصيدة يعتذر فيها للنبي ويطلب عفوه. فرحل إلى المدينة وطلب من أبي بكر أن يدخله على النبي. فدخل عليه بعد صلاة الفجر خائفا مستسلما متلثما، وبايع النبي على الإسلام. ثم كشف عن وجهه وألقى قصيدته: بانَت سُعادُ. فما كان من النبي إلا أن عفا عنه وألقى عليه بردته تأمينا له وحفظ له مكانته بين الناس. وبعد وفاة كعب اشترى معاوية البردة من أبنائه وظل الخلفاء يتوارثونها ويلبسونها في العيدين حتى انتقلت إلى العباسيين ثم إلى العثمانيين واليوم هي محفوظة في متحف الباب العالي في اسطنبول. ويمكننا أن نلاحظ أن أول من كتبوا في المديح النبوي لم يكونوا مسلمين. الأعشى مات بعد أن أنشد قصيدته دون أن يسلم، أما كعب فكتب قصيدته قبل اعتناقه للإسلام.


بدأ كعب قصيدته بالحديث عن حبيبته سعاد التي أخذت قلبه ورحلت وتركته بقلب مأسور بحبها. كما لو كان يشير إلى حياته قبل انتشار الإسلام. كم ستكون رائعة تلك الصحبة لو أنها لم تغدر به وترحل عنه، لكن صحبتها كانت مخلوطة بالألم والكذب والخلاف والتقلب:


يا وَيحَها خُلَّةً لَو أَنَّها صَدَقَت ما وَعَدَت أَو لَو أَنَّ النُصحَ مَقبولُ

لَكِنَّها خُلَّةٌ قَد سيطَ مِن دَمِها فَجعٌ وَوَلعٌ وَإِخلافٌ وَتَبديلُ


يأمِّل نفسه في العودة إليها رغم أنه يعلم أن ذلك صعب جدًا، لأن سعاد غدت في أرض بعيدة لا تبلغها إلا النوق القوية والسريعة:


أرْجو وآمُلُ أنْ تَدْنو مَوَدَّتُها وما إِخالُ لَدَيْنا مِنْكِ تَنْويلُ

أمْسَتْ سُعادُ بِأرْضٍ لا يُبَلِّغُها إلاَّ العِتاقُ النَّجيباتُ المَراسِيلُ


يرى حاتم الزهراني أن قصيدة البردة تؤسس لما عرَّفه بـ قصيدة الاندماج بين الشعر العربي القديم والقرآن من خلال: "تطعيم النص الشعري بمفردات ذات دلالة مركزية من المعجم القرآني [تضليل، أباطيل]، تقديم تعريفات تمييزية للقرآن مختلفة عن الشعر لتأكيد وعي الشاعر بالدور الثقافي لكل منهما وبإمكانية تجاور هذه الأدوار، وأخيراً عبر صب مجموعة من الأبيات الشعرية في قالب أسلوبي نثري/قرآني يمثل تطبيقاً للتعريف الذي قدمته القصيدة للقرآن، كل ذلك في قصيدة ذات بناء ثلاثي جاهلي. وبأداء قصيدة جاهلية الولادة والمنشأ في مركز المؤسسة الإسلامية، وباحتضان النبي للشاعر من خلال رمزية البردة، تقوم القصيدة بدور مزدوج يؤدي إلى إدماج النبي في مؤسسة القصيدة الجاهلية وإدماج الشاعر في مؤسسة النص القرآني، ويصبح الفرق بين الشعر والنثر أساساً للاندماج ولتتحول لامية كعب في عرف الأجيال الثقافية اللاحقة إلى نص في التقبل الفني كما كانت في الأصل نصاً في التقبل الاجتماعي".


بينما القبائل تتوافد على النبي تبايعه على الإسلام، جاء وفد من بني عامر وعلى رأسهم عامر بن الطفيل وأرْبَد بن قيس، أخو لبيد صاحب المعلقة من أمه، وكانا قد عزما على الغدر بالنبي. أدرك النبي سوء نيتهما ودعا عليهما. لم يلبث عامر أن مرض ومات غريبا عن أهله. أما أربد عندما وصل إلى قومه أصابته صاعقة صرعته في الحال، ويقال أنه صار رمادا ولم يُعثَر على جثته. تأثر لبيد بوفاة أخوه تأثرا شديدا. رثاه بأبيات عبّر فيها عن عظيم ألمه وحزنه. ثم وفد على النبي وأسلم، ولم يقل بعدها بيتا واحدا. كانت عائشة ممن يحفظ شعره ويرويه، وكانت تردد في أواخر حياتها هذا البيت من شعره: 


ذَهَبَ الَّذينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم وَبَقيتُ في خَلفٍ كَجِلدِ الأَجرَبِ


استقر الإسلام في مكة والمدينة عندما توفي النبي سنة 632م. وعندها بدأت حقبة جديدة تمتد ثلاثين سنة تعاقب خلالها أربعة خلفاء وكانت حقبة عصيبة. بدايتها حرب أهلية ضد القبائل العربية في كل أنحاء الجزيرة العربية عُرفت بحروب الرِّدة، ونهايتها حروب داخلية بين نخبة قريش عُرفت بالفتنة الكبرى.


واجه الخليفة الأول، أبوبكر، سلسلة من الحروب ضد القبائل التي امتنعت عن دفع الزكاة بعد وفاة النبي. سرعان ما تغلب عليهم بفضل قائد شديد مثل خالد بن الوليد. نتيجة لهذه الحروب دخل بعض العرب في الدين دون قناعة تامة. ومن هؤلاء الحُطَيئة. الشاعر المخضرم الذي كانت روحه تتوق للزمن الأول حين كان يختلف إلى زهير بن أبي سلمى وابنه كعب ويسمع منهما الأشعار. يصفه طه حسين في حديث الأربعاء بأنه "كان بائسًا شقيًا، غريبًا في هذا الطور الجديد من أطوار الحياة العربية، كأنما ارتحل العصر الجاهلي ونسيه وحيدًا في العصر الإسلامي؛ فهو ضائع الرشد، ضائع الصواب، قد فقد محوره، إن صح هذا التعبير. ولي على هذا دليلان؛ أحدهما: أنَّ أكثر ما يروى عن الحطيئة من النوادر وغريب الأحاديث إنما يروى في الإسلام لا في العصر الجاهلي، فما بقي لنا من أخباره في العصر الجاهلي لا يُصَوِّره شاذًا ولا غريبًا ولا مضطرب النفس، إنما اضطربت نفسه في الإسلام؛ لأنَّ سماحة الدين لم تمس قلبه الجاهلي العريق في جاهليته

والآخر: أن أكثر ما يروى من النوادر عن الحطيئة، لو حاولنا تأريخه، يكاد يرجع إلى أيام عمر وأوائل أيام عثمان؛ أي إلى هذا العصر الإسلامي الخالص، الذي سَيْطرَ النظام الإسلامي الدقيق فيه على حياة العرب من جميع وجوهها". لم يعجبه تغيّر حال العرب عما كانوا عليه، ولم يسعد ويبتهج إلا حين يتصل ببعض الرجال الذين يُذكرونه بالعهد القديم مثل الوليد بن عقبة والي الكوفة وسعيد بن العاص والي المدينة، وكلاهما من سادات قريش. وهناك أمر آخر سبب له التعاسة ألا وهو قبحه ونسبه المغموز. فقد كان قصير القامة قريب من الأرض ودميم الوجه ولا يعرف والده. لا نشك أن نظرات الناس إليه كانت تؤذيه. لكنه عرف كيف يجعل الناس يخشونه بسبب لسانه. وعوضا عن أن يجد له عملا يجني منه المال، وخلافا للأعشى الذي يكسب المال بمدح الملوك، صار الحطيئة يتكسب بهجاء من لا يكرمه بالعطايا. حتى جاء زمن عمر بن الخطاب، فهجى الحطيئة أحد سادات بني تميم بهذا البيت:


دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي


حبسه عمر وحين أفرج عنه أمره بالتوقف عن هجاء المسلمين. فسأله كيف يطعم أبناءه إن هو توقف عن الهجاء، فما كان من عمر إلا أن اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم. هذه القيم الإسلامية الجديدة وضعت قيودا على الشعراء وعلى شعرهم الذي بدأ يخبو في تلك الفترة.



الفتوحات

بعد انتهاء حروب الردة وتوحيد القبائل، انطلقت في عام 634م سلسلة من الفتوحات إلى الشعوب المحيطة بالجزيرة العربية. شعرت تلك الشعوب أنها تتعرض لعقاب إلهي بسبب تنازعها الديني. اتحدت القبائل العربية بعدما انتشر طاعون جستنيان، مما أدى إلى ضعف الروم وتعطيل تجارتهم. استغل الفرس هذه الأوضاع واحتلوا إيلياء (القدس) وأجزاء من مصر:"غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون". الصراع بين الكنيستين اليعقوبية والملكانية ساعد العرب الفاتحين حيث وجد اليعاقبة في العرب عونا ضد الإمبراطور البيزنطي.


في نفس الوقت نشبت سلسلة من المعارك ضد الفرس. الشاعر أبو محجن الثقفي كان من ضمن الذين شاركوا في معارك فتح فارس. في البداية قاتل ضد المسلمين في غزوة الطائف وعندما انهزمت قبيلته دخل في الإسلام. قبل إسلامه كان يحب شرب الخمر ولم يقدر على تركها. هذه المشكلة لم يكن يواجهها أبو محجن وحده، بل هو ومجموعة ممن دخلت الإسلام لم يستطيعوا تبديل نمط الحياة الذي اعتادوا. عددهم لم يكن قليلا، ما اضطر عمر بن الخطاب إلى تغليظ عقوبة شارب الخمر عما كانت عليه أيام النبي.

طُبق الحد على أبو محجن سبع مرات. حتى وجد عمر نفسه مضطرًا إلى نفيه. لكن عندما خرج جيش المسلمين ليقاتلوا في معركة القادسية، هرب أبو محجن ولحق بهم. قرر سعد بن أبي وقاص، قائد الجيش، أن يحبسه. إلا أنه تمكن أن يحتال ويتخلص من أسره وينضم إلى صفوف المقاتلين. أبلى بلاءً حسنا، حتى لفتت بسالته أنظار سعد بن أبي وقاص، فأثنى عليه وقرر أن لا يعاقبه على شرب الخمر مرة أخرى: "وَاللَّهِ مَا أَبْلَى أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَبْلَى فِي هَذَا الْيَوْمِ، لا أَضْرِبُ رَجُلا أَبْلَى فِي الْمُسْلِمِينَ مَا أَبْلَى… فَخَلَّى سَبِيلَهُ". واصل أبو محجن جهاده حتى آخر يوم في حياته، وتمنى أن يُدفن بعد وفاته إلى جانب كرمة، يقول:


 إذا مُتُّ فادفِنِّي إِلى جَنبِ كَرمَةٍ تُرَوّي عظامي بعد موتي عُروقُها

ولا تَدفِنَنّي بالفلاةِ فإنّني أخافُ إذا ما مُتُّ أن لا أذوقُها


يروي هيثم بن عدي عن رجل أخبره أنه شاهد ثلاث كروم طويلة ومثمرة تلقي بظلالها فوق قبره بأذربيجان. 


لم يكن فتح بلاد فارس سهلاً، إذ وجد الإيرانيون صعوبة في قبول الاحتلال من جماعات يرونها متخلفة. فر الملك الفارسي يزدجرد إلى أن قتله أحد رعاياه، بينما طلب ابنه فيروز المساعدة من حكام الصين دون جدوى. رغم الفوائد التي جناها العرب من بلاد فارس، إلا أن الفتح كلف عمر بن الخطاب حياته، حيث قتله أبو لؤلؤة المجوسي انتقامًا وهو يصلي الفجر. رغم انتحاره في المدينة، إلا أن له ضريح في مدينة كاشان. وتشير بعض الروايات إلى أن الحسين تزوج ابنة يزدجرد وأنجب منها علي زين العابدين، ليجتمع له نبل النسب القرشي العربي والساساني الإيراني. كذلك الوليد بن عبدالملك أنجب من ابنة فيروز الخليفة الأموي يزيد بن الوليد.



عثمان الذي جمع القرآن


"وإذا صح لنا بكثير من التبسيط أن نختزل الحضارة في بعد واحد من أبعادها لصح لنا أن نقول إن الحضارة المصرية القديمة هي حضارة ’ما بعد الموت‘، وأن الحضارة اليونانية هي حضارة ’العقل‘، أما الحضارة العربية الإسلامية فهي حضارة ’النص‘".

نصر حامد أبوزيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن


برزت جماعة في الكوفة زمن عثمان بن عفان عُرفَت بالقراء. يصفهم هشام جعيّط في الفتنة بأنهم "قارئو القرآن أو مرتلوه، بشكل أدق، لأن القرآن يُتلى بصوتٍ مرتفع، تلاوةً جماعية غالباً، وغالباً من الذاكرة أيضاً". حلّ القرآن محل الشعر عند عدد غير قليل من العرب. وصار شغلهم الشاغل تلاوة وتفسيرا وتدبرا. دوّن الصحابة ما جمعوه من القرآن وصار في كل مدينة مصحف لأحد الصحابة. في تلك المصاحف بعض الفروقات التي تتبعها السجستاني في كتاب المصاحف، وهي تعود لاختلاف قراءة الصحابي وتلقيه للقرآن. انتقلت هذه الاختلافات إلى المسلمين الجدد الذين تعلموا من تلك المصاحف. فزع حذيفة بن اليمان عندما شهد بنفسه خلافا بين مجموعة من المقاتلين في أذربيجان حول قراءة كل مجموعة للقرآن. حتى صاروا يتبادلون اللعن والتكفير. فسارع إلى والي الكوفة يخبره بما شهد، فرفع الأمر إلى الخليفة حتى يضع حدًا لهذه الاختلافات التي قد يكون لها أثر سيء إن هي تركت دون حسم.

وحَّد عثمان المصاحف في نسخة واحدة وأرسل لكل مدينة نسخة رسمية ونهائية وأمر بحرق المصاحف التي تخالفها. واجه هذا العمل مقاومة من بعض القراء، وبالأخص من ابن مسعود، مسؤول الخزينة المالية في الكوفة، الذي رفض حرق مصحفه ما دفع الخليفة إلى جلده وفرض الإقامة الجبرية عليه في المدينة. يقول محمد أركون في دراسات في الفكر الإسلامي "لا شك في أنّ بعض من امتلأت قلوبهم إيمانا (آنذاك) يرون في تثبيت القول الإلهي بقيود التدوين مساسا بالحقيقة الأليّة، لا يمكن أن يقوَّم. لكنّه سرعان ما آلت الغلبة في الجدل الناتج عن ذلك الحدث إلى اعتبارات تقرّر شرعية ما أُنجِز".

أما القراء الذين استمروا على قراءة القرآن بما يخالف مصحف عثمان فإما أُهملت قراءتهم أو تعرضوا لعقوبة السلطان. فيُنسَب للإمام مالك قوله "من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يصلّ وراءه". كذلك القراءة التي كان الحسن البصري، أحد التابعين ومن الطبقة الثانية من القراء، يقرأ بها غدت من ضمن القراءات الشاذة التي لا يجوز قراءتها لما فيها من مخالفات لرسم المصحف العثماني. أما ابن محيصن المكي من الطبقة الثالثة من القراء، فقد شاعت قراءة ابن كثير، أحد مجايليه، بدلا عن قراءته لما فيها من مخالفة للمصحف بسبب تمسكه بالاختيارات الشاذة. وأخيرا ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بما يخالف المصحف في صلاته إلى أن استتابه الوزير ابن مقلة وضربه حتى رجع.

تطورت احتجاجات القراء ضد عثمان لعدة أسباب، منها حرق المصاحف وتوحيدها في واحد. وتصاعدت الاحتجاجات حتى حاصروا بيته وانتهت بدخولهم عليه وقتله. لم يكن في حسبان عثمان أن أحدا سوف يغتاله في بيته، فهو حين شهد اغتيال عمر أثناء الصلاة بنى مقصورة من الطوب يصلي داخلها إماما في المسجد. أما الأمر الذي لم يكن في حسبان القراء أن تؤدي احتجاجاتهم إلى حكم أبناء من حاربوا النبي والإسلام حتى الرمق الأخير للدعوة: أبوسفيان ومروان.



أجِدِّي أَرَى هذَا الزَّمَانَ تَغَيَّرا؟


هذه لغتي ومعجزتي.

عصا سحري.

حدائق بابلي ومسلتي، وهويتي الأولى، ومعدني الصقيل

ومقدس العربي في الصحراء،

يعبد ما يسيل من القوافي

كالنجوم على عباءته،

ويعبد ما يقول

لا بد من نثر إذًا،

لا بد من نثرٍ إلهي لينتصر الرسول...

محمود درويش، قافية من أجل المعلقات



تميم بن مقبل شاعر لم ينل حظًا وافرا من الشهرة. عاش قبل الإسلام وبعده في البادية. وكان رقيق الإسلام، من تلك الفئة من الشعراء الذين عجزوا عن التكيف مع القيم الجديدة. اشتهرت عنه هذه الأمنية:


ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ تنبو الحوادث عنه وهو ملموم


تزوج قبل الإسلام أرملة والده الدهماء، على عادة كانت لدى بعض العرب، ممن اعتنق المجوسية، في تزويج أرملة الأب لأكبر أبنائه. وتعلق فؤاده بها. عندما جاء الإسلام فرق بينهما "وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً". فكان كثيرا ما يذكرها بشعره ويبكي أيامه الغابرة التي طواها الإسلام. ويتحسر على انصراف أبناء قبيلته بعيدا عن موطنهم في سبيل الفتوحات، ويصف الدين الجديد بطيور القطا التي تحف بئرًا رحل أهله عنه وتنقر في مبارك إبلهم ثم تطير:


أجِدِّيٌ أرى هذا الزمان تَغَيَّرا وبطن الرِّكاء من مَوالِيَّ أَقْفَرا

وكائنْ ترى من منهلٍ باد أهله وعِيْدَ على معروفه، فتَنَكَّرا

أتَاهُ قَطَا الأَجْبَابِ من كُلِّ جانبٍ فَنَقَّرَ في أعْطَانِهِ، ثُمَّ طَيَّرا


كان عثماني الهوى وحين اغتيل عثمان بن عفان مجّده أيما تمجيد بأن وصفه بخير البرية، ثم شهد صفين ووقف فيها مع الأمويين:


ليبكِ بنو عثمان، ما دام جِذْمُهم عليه بأصلالٍ، تُعَرَّى وتُخْشَبُ

ليبكوا على خير البَرِيَّةِ كلها تَخَوَّنَهُ رَيْبٌ من الدهر مُعْطِبُ


لطالما أُتهم النبي أثناء حياته بأنه شاعر، في محاولة، من الشعراء، لجره إلى ساحتهم التي لا ينافسهم فيها أحد. تلك التهمة نفاها القرآن مرارًا: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ. نجد ابن مقبل يردد ذات التهمة في معرض حديثه عن الزمن القديم حين كان يتمتع بشبابه ومتزوجا من الدهماء. يوضّح تميم البرغوثي أنه: يذكر نهاية عالمه القديم ويُعرِّضُ أن الناس أصبحوا معجبين بشعر مختلف في عهد الإسلام، وهو هنا يُلمّح ولا يصرّح لاعتقاد الجاهليين بأن النبي شاعر، وإن كان الناس يفهمون تلميحه لذا أسموا قصائده بالمشوبات، أي التي شابها الكفر فقال:


 وشَاعِرِ قَوْمٍ مُعْجَبِينَ بِشِعْرِهِ مَدَدْتُ لَهُ طُولَ العِنَانِ فَقَصَّرَا


على عكس قصيدة البردة لكعب بن زهير، التي عدها الزهراني  قصيدة اندماج بين ثقافتين، يرى أن رائية ابن مقبل التي غُيِّب فيها النبي بمثابة قصيدة صراع "هذا الغياب هو، في حد ذاته، كتابة للفرْضية الأساسية لقصيدة الصراع وهي أن النبي والشاعر، أو قل الشعر والنثر، لا يمكن أن يتعايشا في حقل نصي أو ثقافي واحد". وتكون قصيدة قافية من أجل المعلقات هي جواب محمود درويش على محاولة كعب دمج ثقافتي الشعر العربي والقرآن الإلهي. أي بمثابة رد الشعراء بعد مرور أكثر من ألف عام، ورغم اعترافه في ختامها بانتصار النثر على الشعر لأن "الرسول، قام بنقل المعركة إلى حقل جديد تماماً على الذائقة الفنية العربية لأن نجاح ثورته كان سيكون مستحيلاً ضمن الحقل الأدبي القديم (أي داخل مؤسسة القصيدة الجاهلية)؛ إذ لا يمكن تحدي الشاعر الجاهلي في حقله الخاص" حسب تعبير الزهراني.



أترك القارئ مع التساؤل الذي طرحه يوسف الصديق في ختام كتابه هل قرأنا القرآن؟ : ما السر في أن يُقال في لغة العرب، القدامى منهم والمعاصرين، عن الوحدة الشعرية «بيت»، يُقام ويُرفع أينما حل صاحبه وارتحل في عراء الصحراء؟ فإن كانت هذه الأمّة المولعة بالمرادفات - كما يُفترض بكل ناطق بهذا اللسان أن يُدرك ذلك - قد أطلقت على المنظوم في جملته لفظا وحيدا هو «قصيدة»، أو قصيد، أي غاية يراد بلوغها، فإن للبيت معنى المسكن أيضا. تُمعن هذه اللغة في التهذيب الدلالي، ولا تكتفي بذلك التفريق في المعنى، بل تُفرد لتلك الوحدة الشعرية كلمة «أبيات» كصيغة جمع لا يصح إطلاقها على ما يُراد به «المساكن» إلا تجّوزا لا اصطلاحا. ويُقال عن الوحدة العروضية وتدٌ (نسبة لوتد الخيمة)، وعن حرف القافية رَويٌّ (وفيه معنى السقاية بالماء).


لكن لماذا حُرمت ظاهرة النثر الأدبي العربي من هذا الثراء الدلالي، ليُخصص لها لفظ هزيل يفيد التناثر والتشتت والتبعثر؟





مواضيع متصلة:

سياحة في التراث: طَرفة بن العبد

سياحة في التراث: طرفة بن العبد

 

By Saatchi Art

 

 

أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض،

انتظرني في بلادِكَ، ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي
قرب خيمتكَ، انتظِرْني ريثما أُنهي
قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد.
محمود درويش



أريد أن أتجول في تراثنا العربي القديم للنظر والتأمل في ما يحتويه من أفكار وقصص وتجارب. الشخصية التي اخترت أن أتحدث عنها هي طَرفة بن العبد. شاعر عربي قديم. عاش في زمنٍ أحب أن أسميه زمن المعلقات. أي القرن السادس الميلادي الذي عاش فيه بقية شعراء المعلقات. تلك القصائد التي انتقاها حماد الراوية في زمن الدولة الأموية، وتُعَد أعلى ما بلغته قصائد الشعراء لغةً وجمالَا.

ولد شاعرنا في هَجَر (الإحساء)، وقيل في جزيرة أوال (مملكة البحرين) في إقليم البحرين الذي يمتد من عمان جنوبا إلى البصرة شمالا. وكان هذا الإقليم تابعا لمملكة الحيرة في العراق. وتعد الحيرة مركزا أدبيا ومقصدا لكثير من العرب أوانذاك لتعلم الكتابة. سادت في إقليم البحرين المسيحية على المذهب النسطوري منذ القرن الخامس الميلادي. إلا أننا سنلحظ حين نقرأ معلقة طَرفة أن له فلسفته الخاصة في الحياة والموت بعيدة عن الأفكار الدينية السائدة حوله.

يذكر سلام الكندي في كتابه الراحل على غير هدى ثلاث ثيمات نجدها في المعلقات، وهي بالترتيب: الأولى، ذكر الشاعر للمضارب التي ترك عندها حبيبته. الثانية، الرحلة ووصف لحيوانات مرتبطة به أو برحلته. الثالثة، التغني بأمجاد قبيلته. واعتاد الشعراء العرب القدامى على استحضار الغياب والموت حين يتأملون الأطلال: "وتفتت الزمن يعود في شكل شعور بانعدام الحماية الذي يؤكده احتمال الموت المتربص على الدوام".

من كل شعراء المعلقات السبع، يعد طَرفة الأصغر بينهم، حيث توفي بعمر ٢٦. مات أبوه وهو صغير واستولى أعمامه على ورثه وورث أمه وردة بنت عبدالمسيح. القبيلة أوانذاك هي الملجأ والظهر والوطن. وهذا الغدر من أقرب الناس إليه أثقل من أن يُحتمل. سنراه في قصيدته يُكثر التشكي من أقاربه حتى غدت بعض أبياته مثلا يُضرب حتى اليوم.

ثلث المعلقة يتعلق بوصف تفصيلي للناقة. ليس لهذا الوصف مثيل في أي قصيدة أخرى. وفيه تتحول لغة القصيدة إلى لغة صعبة مليئة بالمفردات الدقيقة ما دفع بعض النقاد إلى عدّ هذا الجزء من القصيدة منحولا. لكن الشاعر البحريني قاسم حداد له رأي آخر. يقول في كتابه طرفة بن الوردة: "قبل طرفة لم يصف شاعرٌ ناقةً مثله، ولم يفعل ذلك شاعرٌ بعده… فإذا بي أصادف ما منحني شُرفةً تتيح لي الإطلال على ما كانت القبائل تذهب إليه في باب (العبادات قبل الإسلام) حيث تبين أن قبيلة طرفة، بكر بن وائل، قد اتخذت الإبل آلهة لها، فإذا صح هذا الخبر، كما نتخيل، نستطيع أن نرى تأثير هذا السلوك الديني على طفل ينشأ وهو يرى الناقة مقدسة بالشكل الذي تصبح فيه حاضرة في حياته من كل جانب، مما ربى لدى الشاعر منذ طفولته حساسية خاصة تجاه الحيوان الذي سيشكل لديه في ما بعد مكونًا حيويا ويرتقي إلى مرتبة بالغة الخصوصية".

كذلك يُكثر طَرفة من ذكر الخمر والموت في معلقته. الخمر مرتبط بفلسفته في الحياة والتي تتلخص في أننا كلنا مآلنا إلى الموت حيث تتساوى وتتشابه قبورنا فلماذا لا نتلذذ الآن بالخمر والنساء وننفق عليها أموالنا؟ لكنه مع ذلك يبحث عن متعة موزونة. فانغماسه في الملذات يصاحبه نصرة لمن يطلب المساعدة وهو معروف بين قومه بأنه أهل للمهمات الصعبة. أما حديثه المتكرر عن الموت فهو حديث من يشعر، أو يعلم، أنه على وشك أن يموت أو يُقتل.

أخوه وابن عمه (معبد ومالك) استأمناه على قطيع من الإبل ليرعاها. إلا أنها ضاعت في الصحراء أو سُرقت وصار لزاما عليه تعويضها. وبسبب هذا الموقف تعرض لكثير من الأذى من أقاربه، فسنجده قبيل نهاية المعلقة يشتكي أقاربه في عدة أبيات ويذكّر ابن عمه مالك أن كل ما يفعله من أذى في حقه لا يستحق طالما أننا سنموت في أي وقت.

يُقال أن طَرفة قتله شعره ولمّا يتعدى السادسة والعشرون بسبب هجائه عمرو بن هند في أبيات عندما وصلت مسامع ملك الحيرة قرر أن ينتقم من قائلها. لكن الرواة ينسجون حكايات تُظهر طَرفة شخصا موغل في الحمق. في كتابه عنادل حجرية يعدد عدي الحربش المظالم التي وقعت على طَرفة واستمرت حتى بعد وفاته حين اختلق الرواة قصة لموته لا تستقيم يظهرونه فيها بموقف متناقض: "كان طرفة يكره الظلم. لم يدرِ أن حياته ستكون سلسلة من المظالم. فمن أعمامٍ يأكلون حقه، إلى ملكٍ يسعى في هلاكه، إلى قبيلةٍ تتخلى عنه، أما أشنع المظالم كافة فتصوير الرواة إياه أعرابيًا ساذجًا يسير إلى حتفه برجليه طمعًا في الحِباء. لقد آن أن تُمزَّق هذه الرواية وتُرمى في النهر مع الصحيفة".

أول ما شرعت في قراءة المعلقة راودني شعور بالبعد؛ زمن موغل في القدم، ومفردات كثيرة تدفعني للتوقف عن القراءة بعد كل بيت لأكشف عن معانيها كما لو أنني أقرأ نصا من لغة أجنبية. هذا النوع من الأدب يتطلب أن تبذل جهدًا. لكني بعدما استمعت إلى شرح للمعلقة وجدتني أطرب لها وأستمتع بمعانيها، أو دعني أقول صرت أتذوقها.

المعلقة تتعدى ١٠٠ بيت بقليل لذلك سأكتفي بالمرور على بعض أبياتها. إذا أردت شرحا كاملا فيمكنك الاستماع إلى شرح علي السند في اليوتيوب. وإذا أردت نسخة صوتية من المعلقة فاستمع إلى إلقاء أسامة النهاري لها.

 
"أهم ما يلفت النظر في معلقته، نظره إلى الحياة ويأسه منها، ومعرفته أنه فانٍ، فلماذا لا يتلذذ في حياته ويقابل منيَّته بكل ما يملك. ثم يعلن رغبته في الحياة لثلاثة أسباب هي لذّاته الثلاث: الحب والشرب والحرب".
مارون عبود، أدب العرب



في بداية القصيدة يستحضر ذكرى حبيبته خولة المالكية في مكان يسمى ثهمد حيث تتجلى له ذكراها كوشم قديم بقي منه رسم باهت يدل عليه. يواسيه أصحابه وهو يتذكر رحيلها صباحا في قافلة أشبه ما تكون بسفينة تقطع واديا اسمه دَدِ. تسير مسرعة مثل سفن الملاح ابن يامن، فهي من سرعتها تتمايل في مسيرها تارة وتستقيم تارة أخرى وتشق رمال الصحراء كما يشق مقدم السفينة (الحيزوم) الموج:


لِخَـوْلَةَ أطْـلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَـدِ        تلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ
وُقُـوْفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُـمْ    يَقُـوْلُوْنَ لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَلَّـدِ
كَـأنَّ حُـدُوجَ المَالِكِيَّةِ غُـدْوَةً        خَلاَيَا سَفِيْنٍ بِالنَّوَاصِـفِ مِنْ دَدِ


عَدَوْلِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِيْنِ ابْنَ يَامِـنٍ    يَجُوْرُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَـدِي
يَشُـقُّ حَبَابَ المَاءِ حَيْزُومُهَا بِهَـا    كَمَـا قَسَمَ التُّرْبَ المُفَايِلَ بِاليَـدِ


يستحضر عظم خسارته في رحيل محبوبته فيعدد محاسنها. هي سمراء مثل الظبي الصغير (شادن) وتتزين بعقدين من لؤلؤ وزبرجد. ويشبّه رحيلها عنه بالغزال (الخذول) التي تترك صغارها وتذهب لترعى في أرض منبتة، وحين تتناول الثمار تغطيها أغصان وأوراق الشجرة كما لو أنها ثوبا ترتديه. ولها لثة سمراء (ألمى) وحين تبتسم تظهر أسنانها البيضاء مثل نبتة الأقحوان (منورا) التي تكون بارزة في الأرض الرملية الندية:

​​
وفِي الحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ المَرْدَ شَادِنٌ    مُظَـاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَـدِ


خَـذُولٌ تُرَاعِـي رَبْرَباً بِخَمِيْلَـةٍ        تَنَـاوَلُ أطْرَافَ البَرِيْرِ وتَرْتَـدِي
وتَبْسِـمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَـوَّراً        تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٍ لَهُ نَـدِ
سَقَتْـهُ إيَاةُ الشَّمْـسِ إلاّ لِثَاتِـهِ        أُسِـفَّ وَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بِإثْمِـدِ
ووَجْهٍ كَأَنَّ الشَّمْسَ ألْقتْ رِدَاءهَا    عَلَيْـهِ نَقِيِّ اللَّـوْنِ لَمْ يَتَخَـدَّدِ



يصرف همه بالسير على ناقته والرحيل عن الأرض التي خلت من الحبيبة. ويصف ناقته بأنها مفرطة النشاط (عوجاء) وسريعة المشي (مرقال). وأنه يأمنها في أسفاره فظهرها ثابت كألواح التابوت الخشبي (الإران). ولها قوة الجمل. وتنافس بقوتها الإبل الكريمة المسرعة بالسير (العتاق الناجيات):


وَإِنِّي لأُمْضِي الهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ      بِعَوْجَاءَ مِرْقَالٍ تَرُوحُ وتَغْتَدِي
أَمُونٍ كَأَلْوَاحِ الإِرَانِ نَسَأْتُهَا        عَلَى لاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ
جَمَالِيَّةٍ وَجْنَاءَ تَرْدِي كَأَنَّهَا        سَفَنَّجَةٌ تَبْرِي لأزْعَرَ أَرْبَدِ
تُبَارِي عِتَاقَاً نَاجِيَاتٍ وأَتْبَعَتْ        وَظِيْفَاً وَظِيْفَاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعْبَّدِ



ويكمل في وصفها زهاء ٢٨ بيتا وبعدما ينتهي من ناقته يلتفت إلى نفسه ويفتخر بنفسه، فقومه إذا بحثوا عن فتى يقوم بالمهمات يبادر هو لأنه يظن أنهم يقصدونه. فهو رجل المهمات الصعبة. وستجده إذا بحثت عنه في مجالس القوم حيث تناقش أمور القبيلة المهمة وستجده أيضا إذا بحثت عنه في الحانات حيث اللهو والعبث. يشير هنا إلى الموازنة في حياته بين اللهو والجد، وهذه الإشارة تتكرر في القصيدة. ويفتخر مرة ثانية بنفسه ونسبه فحين يجتمع جميع أهل الحي فإنك تلقاه في قمة البيت رفيع الشأن الذي يقصده الجميع:


إِذَا القَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتَىً خِلْتُ أنَّنِـي    عُنِيْـتُ فَلَمْ أَكْسَـلْ وَلَمْ أَتَبَلَّـدِ

فَإن تَبغِنـي فِي حَلْقَةِ القَوْمِ تَلْقِنِـي    وَإِنْ تَلْتَمِسْنِـي فِي الحَوَانِيْتِ تَصْطَدِ


 وَإِنْ يَلْتَـقِ الحَيُّ الجَمِيْـعُ تُلاَقِنِـي    إِلَى ذِرْوَةِ البَيْتِ الشَّرِيْفِ المُصَمَّـدِ


يصف جلساءه بأنهم معروفون بين الناس. وتجالسهم جارية (قينة) بثياب تكشف الكثير من جسدها وإذا غنّت أطرقت برأسها وغنّت بهدوء دون صخب. ويذكر أن أسلوب حياته حيث الانغماس في الشرب واللذة وكثرة إنفاقه على تلك الأمور تسبب بابتعاد عشيرته عنه كما لو كان بعيرا أجربًا. ويلومهم على تصرفهم هذا بأن يقول لهم أن الفقراء (بني غبراء) والأغنياء أيضا لا ينكرونه ولا يتجنبونه، فلم يفعل أقاربه ذلك دونا عن سائر الناس:


نَـدَامَايَ بِيْضٌ كَالنُّجُـومِ وَقَيْنَـةٌ        تَرُوحُ عَلَينَـا بَيْـنَ بُرْدٍ وَمُجْسَـدِ


رَحِيْبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيْقَـةٌ    بِجَـسِّ النُّـدامَى بَضَّةُ المُتَجَـرَّدِ


إِذَا نَحْـنُ قُلْنَا أَسْمِعِيْنَا انْبَرَتْ لَنَـا         عَلَـى رِسْلِهَا مَطْرُوقَةً لَمْ تَشَـدَّدِ
إِذَا رَجَّعَتْ فِي صَوْتِهَا خِلْتَ صَوْتَهَا    تَجَـاوُبَ أَظْـآرٍ عَلَى رُبَـعٍ رَدِ
وَمَـا زَالَ تَشْرَابِي الخُمُورَ وَلَذَّتِـي    وبَيْعِـي وإِنْفَاقِي طَرِيْفِي ومُتْلَـدِي
إِلَـى أنْ تَحَامَتْنِي العَشِيْرَةُ كُلُّهَـا        وأُفْـرِدْتُ إِفْـرَادَ البَعِيْـرِ المُعَبَّـدِ
رَأَيْـتُ بَنِـي غَبْرَاءَ لاَ يُنْكِرُونَنِـي        وَلاَ أَهْـلُ هَذَاكَ الطِّرَافِ المُمَــدَّدِ



ثم يسأل أقاربه الذين يلومونه على كثرة مشاركته في الحروب وانغماسه في اللذات، هل يضمنون له عدم الموت؟ فطالما أن الموت لا بد منه فلا معنى من المسك عن الإنفاق والامتناع عن اللذات. ثم يذكر ثلاثة أشياء من أجلها يعيش. شربة خمر أحمر (كُمَيت) إذا أضيف له الماء علته رغوة. والثاني هو هجومه الشديد للدفاع عمن يستغيث به. والثالث قضاء الأيام المطيرة (الدجن) مع فتاة ناعمة (بهكنة) متزينة بخلاخيل ودماليج تحت الخيمة:


أَلاَ أَيُّها اللائِمي أَشهَـدُ الوَغَـى        وَأَنْ أَنْهَل اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِـدِي


فـإنْ كُنْتَ لاَ تَسْطِيْـعُ دَفْعَ مَنِيَّتِـي        فَدَعْنِـي أُبَادِرُهَا بِمَا مَلَكَتْ يَـدِي


وَلَـوْلاَ ثَلاثٌ هُنَّ مِنْ عَيْشَةِ الفَتَـى    وَجَـدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُـوَّدِي


فَمِنْهُـنَّ سَبْقِـي العَاذِلاتِ بِشَرْبَـةٍ        كُمَيْـتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالمَاءِ تُزْبِــدِ
وَكَرِّي إِذَا نَادَى المُضَافُ مُجَنَّبــاً    كَسِيـدِ الغَضَـا نَبَّهْتَـهُ المُتَـورِّدِ


وتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ    بِبَهْكَنَـةٍ تَحْـتَ الخِبَـاءِ المُعَمَّـدِ


كَـأَنَّ البُـرِيْنَ والدَّمَالِيْجَ عُلِّقَـتْ        عَلَى عُشَـرٍ أَوْ خِرْوَعٍ لَمْ يُخَضَّـدِ


يقول أنه كريم النفس والنسب ولهذا ينفق الكثير على ملذاته، فهي علامة على شرف الأسياد والأغنياء. ويقول لمن يلومه أنهما عند الموت سيكون هو مرتوٍ ومتمتع بحياته أما الآخر فسيكون عطشان. فهو ينظر إلى قبر البخيل وإلى قبر المسرف البطال، فلا يرى إلا كومتين من تراب عند القبرين. متساويان. ولا أحد ينجو من الموت، كما لو أن أرواحنا مربوطة بحبل (الطِّوَل) نهايته في يد بعيدة عنا، وحين يأتي أواننا تسحب تلك اليد الحبل:


 


كَـرِيْمٌ يُرَوِّي نَفْسَـهُ فِي حَيَاتِـهِ        سَتَعْلَـمُ إِنْ مُتْنَا غَداً أَيُّنَا الصَّـدِي
أَرَى قَبْـرَ نَحَّـامٍ بَخِيْـلٍ بِمَالِـهِ        كَقَبْـرِ غَوِيٍّ فِي البَطَالَـةِ مُفْسِـدِ


تَـرَى جُثْوَنَيْنِ مِن تُرَابٍ عَلَيْهِمَـا        صَفَـائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيْحٍ مُنَضَّــدِ
أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطَفِـي    عَقِيْلَـةَ مَالِ الفَاحِـشِ المُتَشَـدِّدِ


أَرَى العَيْشَ كَنْزاً نَاقِصاً كُلَّ لَيْلَـةٍ    وَمَا تَنْقُـصِ الأيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَـدِ


لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَـى    لَكَالطِّـوَلِ المُرْخَى وثِنْيَاهُ بِاليَـدِ


بعد كلامه عن الموت الذي سننتهي إليه جميعنا يستغرب تصرف ابن عمه الذي يبتعد عنه كلما حاول أن يتقرب إليه. انشغل عن قطيع من الإبل فضاعت في الصحراء أو سرقت. وابن عمه يلومه حتى يأس من أي خير يمكن يأتي منه. رغم أنه ذهب يبحث عنها بعد أن ضاعت منه دون قصد:


فَمَا لِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّي مَالِكـاً        مَتَـى أَدْنُ مِنْهُ يَنْـأَ عَنِّي ويَبْعُـدِ


يَلُـوْمُ وَمَا أَدْرِي عَلامَ يَلُوْمُنِـي        كَمَا لامَنِي فِي الحَيِّ قُرْطُ بْنُ مَعْبَدِ


وأَيْأَسَنِـي مِنْ كُـلِّ خَيْرٍ طَلَبْتُـهُ        كَـأَنَّا وَضَعْنَاهُ إِلَى رَمْسِ مُلْحَـدِ


عَلَى غَيْـرِ شَيْءٍ قُلْتُهُ غَيْرَ أَنَّنِـي        نَشَدْتُ فَلَمْ أَغْفِلْ حَمَوْلَةَ مَعْبَـدِ


يدافع عن نفسه ويشتكي من أقاربه. فقد بذل ما في وسعه للتقرب إليهم، ويقسم أنه كلما احتاجته القبيلة في مسألة ذات جهد فإنه يشهدها. ويذكرهم بأنه متى ما دعي للأمور الجليلة فإنه يلبي. وإن تعرض أحد بالكلام البذيء على ابن عمه فإنه يدافع عنه باستماتة. ويشتكي من معاملتهم له بسوء بلا خطأ ارتكبه عن عمد ومع ذلك يهجونه ويشكونه ويريدون طرده. تمنى لو كان ولي أمره شخص غير ابن عمه لصارت حاله أفضل. ثم يقرر، في بيت جرى مجرى الأمثال، أن الظلم الذي يأتي من الأقارب أشد من طعنات السيوف:


وَقَـرَّبْتُ بِالقُرْبَـى وجَدِّكَ إِنَّنِـي        مَتَـى يَكُ أمْرٌ للنَّكِيْثـَةِ أَشْهَـدِ


وإِنْ أُدْعَ للْجُلَّى أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهَـا        وإِنْ يِأْتِكَ الأَعْدَاءُ بِالجَهْدِ أَجْهَـدِ


وَإِنْ يِقْذِفُوا بِالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهِمْ    بِكَأسِ حِيَاضِ المَوْتِ قَبْلَ التَّهَـدُّدِ


بِلاَ حَـدَثٍ أَحْدَثْتُهُ وكَمُحْـدَثٍ        هِجَائِي وقَذْفِي بِالشَّكَاةِ ومُطْرَدِي


فَلَوْ كَانَ مَوْلايَ إِمْرَأً هُوَ غَيْـرَهُ        لَفَـرَّجَ كَرْبِي أَوْ لأَنْظَرَنِي غَـدِي
ولَكِـنَّ مَوْلايَ اِمْرُؤٌ هُوَ خَانِقِـي        عَلَى الشُّكْرِ والتَّسْآلِ أَوْ أَنَا مُفْتَـدِ


وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً    عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ


سأكتفي بهذا الحد من أبيات القصيدة. إن أردت الاستزادة في الأدب العربي القديم فأرشح لك كتاب حديث الأربعاء لـ طه حسين الذي يعد مدخلا جيدا للأدب العربي ابتداء من شعراء المعلقات. كذلك رواية النبطي لـ يوسف زيدان التي تعرض حياة العرب الأنباط في بداية القرن السابع الميلادي، وفيها نرى كيف تغيرت حياتهم على المستوى الديني والاقتصادي لحظة ظهور الإسلام.



لماذا أكتب؟



كتابة طويلة الأمد

أكتب في هذه المدونة منذ ٢٠١١ لكنني كنت أكتب في مدونة أسبق منذ ٢٠٠٥ حين كانت المدونات أكثر رواجا. يغلب على كتاباتي في البداية التشتت. ثم اخترت عدة مسارات في الكتابة. منها الكتابة عن التقنية. لكني لاحظت عندما أزور المكتبة أن الكتب التقنية تصير المعلومات فيها قديمة بسرعة. يا له من جهد يضيع في كتاب عن لغة برمجة لا تعود رائجة بعد سنوات قليلة، أو نظام تشغيل يصدر ما أهو أحدث منه بعد سنتين أو ثلاث. حين أدخل إلى الجمعية تلفتني رفوف الخضروات الطازجة التي تستمر بالذبول كل ٢٤ ساعة ولا يكون ثمة حاجة إليها بعد أيام قليلة، عكس رف المعلبات الذي يمتد تاريخ صلاحيتها سنوات مديدة. أردت لكتابتي أن تكون مثل المعلبات.


كيف يمكنني أن أجمع ما الكتابة طويلة الأمد مع المواضيع التقنية؟ جاءتني عدة أفكار. منها الكتابة في التاريخ التقني. مثل تاريخ الحاسوب والانترنت وغيرها من المواضيع التقنية. كذلك الكتابة في السير الذاتية للشخصيات التي ساهمت في تطوير العديد من التقنيات. الكثير منهم كانوا علماء رياضيات وحاسوب مثل تورينغ وبابيج.


اسم جديد، مسار جديد

في نفس الوقت الذي كنت أكتب فيه هذه المواضيع لم أرد أن أحصر نفسي في مجال الكتابة التقنية. في داخلي قصص قصيرة أتفاجأ بخروجها من حين لآخر. وأريد خوض تجربة الترجمة لمواضيع أجدها مفيدة ولم أجد الكثير ممن يكتب عنها بشكل عملي وواضح بالعربية، مثل الحرية المالية، والعلاقات، والتعامل مع الذات، وعن الكتابة بشكل أفضل. الكثير من القراء استفادوا من مقال: كيف تعالج القلق. لهذه الأسباب رأيت من الأفضل تغيير اسم المدونة (هل هناك من لا يزال يتذكر الاسم القديم؟) إلى اسم عام مثل: قهوة سوداء. مع الاحتفاظ بدومين ينتهي باسم tech في محاولة للجمع بين المواضيع العامة التي تندرج تحت اسم قهوة وسوداء وبين المواضيع التقنية.


أكتب لنفسي

رغم أن الترجمة أرتني أثر كتابتي على الآخرين، وهو شعور مبهج، لكن الكثير من المواضيع التي كتبتها لاحظت لاحقا كيف استفدت أنا من كتابتها بعد توثيق الكثير من المعلومات التي كانت نتيجة بحث طويل كان سيضيع لولا هذه المواضيع التي كتبتها، مثل قصة اللؤلؤ وسلسلة حلم الدولة العربية والأفلاطونية المحدثة. فقررت أن أولي اهتماما أكبر للكتابة لنفسي. بأن تكون أولوية. فالكتابة تساعدني على ترتيب أفكاري وتجعلني أفكر بوضوح.


نعم عزيري القارئ، بعد ما يقارب ٢٠ سنة كتابة، أريد أن أكتب لنفسي. بما في ذلك هذا السؤال الذي طرحته على نفسي في أحد المقاهي: لماذا أكتب؟ ففتحت الآيباد وكتبت الإجابة، لنفسي.  

نظرية المؤامرة بين توباك ودان براون







الجماعات السرية ونظريات المؤامرة تشكلان مادة خصبة للروايات والأفلام لما تتضمناه من عناصر تشويق. الطبقة المستنيرة Illuminati هي جماعة نشأت في القرن الثامن عشر في بافاريا الألمانية بين مجموعة من العلماء والمفكرين. استهدفت استبدال تعاليم الكنيسة بتعاليم عقلانية. انتشر أتباعها في أوروبا ووصل عددهم إلى ٢٠٠٠ شخص من ضمنهم الأديب الألماني غوته. لكن لم يمضي على تأسيسها عقد من الزمن حتى أصدرت السلطات البافارية مرسوما بحلها. سُجن بعض أعضاؤها وفر مؤسسها خارج بافاريا. بعدها خيّم الصمت على أنشطة الجماعة وتوارت عن الظهور علنًا وليس لدينا دليل على وجودها اليوم. هذا الفراغ الذي خلفه اختفاء أثرها حفّز مخيلة العديدين ليتهمونها بالوقوف وراء أحداث كبرى من الثورة الفرنسية إلى اغتيال كينيدي.

وظّف دان براون معرفته العميقة عن تاريخ الكنيسة والجماعات السرية والفنانين والعلماء في روايته <ملائكة وشياطين> التي تأخذنا في رحلة مشوقة مع بطلها إلى روما والفاتيكان حيث تخطط الطبقة المستنيرة لهجوم ضد الكنيسة يوم تنصيب البابا الجديد. استطاع دان بروان بكمية المعلومات التفصيلية التي يذكرها في روايته أن يقنع القارئ باستمرارية وجود هذه الجماعة حتى اليوم وامتلاكها لسلطات واسعة وقدرات خارقة. ونتج عن ذلك قصة مليئة بالإثارة والتشويق.

بالمقابل نجد مغني الهيب هوب الشهير، توباك، يقول في مقابلة له قبيل وفاته أنه اختار أن يضع حرف k قبل اسم الجماعة لتكون Killuminati في عنوان ألبومه الأخير لأنه يريد أن يقتل فكرة وجودها وسطلتها وتأثيرها على حياة الناس. فتوباك المنغمس في هموم وقضايا الأمريكان من أصول إفريقية حين دخل السجن وسمع ترديد المساجين لحكايات عن الطبقة المستنيرة وتحكمها في العالم، أدرك أن تصديق هذا النوع من الحكايات عن نظريات المؤامرة يلهي الناس عن المشاكل الحقيقية التي يعيشونها مثل العنصرية والفقر وتفشي المخدرات. وتزعزع ثقتهم بأنفسهم وتقلل من تقديرهم لذواتهم، حسب تعبيره.


أحسن دان براون استغلال نظريات المؤامرة بكونها مادة للترفيه والمتعة والإبداع الأدبي. هي مساحة يمكننا أن نترك مخيلتنا تبحر فيها وتكون قالبا لقصة أدبية. أما توباك فأراد أن يضع حدًا لهذه الخيالات حين تتجاوز حدها وتصرف الناس عن معاناتهم الحقيقية. ثبّت قدميه في الواقع الراهن ليتحمل كل منا مسؤولية حياته ومصيره. وقبل أن نخلق مشاكل متخيلة لنصارعها يجب علينا ألا نغفل عن المشاكل الحقيقية التي تملأ عالمنا ويعاني منها الناس.