عن اليوم الأول بعد انتهاء العلاقة العاطفية، وعن جدوى خوضها من البداية.
"إذا قدر لك أن تعيش وحيدًا لفترة من الزمن، فسوف تعتاد التحديق في أشياء مختلفة. تتحدث إلى نفسك أحيانًا. تتناول الطعام في مناطق مزدحمة. تطور علاقة حميمة مع سيارتك السوبارو المستعملة. إنك ببطء ولكن بثبات سوف تصبح شيئًا من الماضي".
هاروكي موراكامي، رواية رقص رقص رقص
في الأيام الماضية التحقتُ بنادٍ ثقافي لمناقشة كتاب «قصة الفلسفة». وحين سُئلت عن الفلاسفة الذين أستهويهم، قلتُ أنني لا أحب الغارقين بالمناقشات النظرية التي لن أستفيد منها بشكل مباشر في حياتي اليومية، مثل مناقشة نظرية المعرفة أو الحديث عن عالم المثل.
أفضّل أولئك الذين يمكنهم أن يكتبوا لي روشتة تساعدني على اتخاذ قرارات تفيدني في تحديد الحياة التي سأعيشها، من العمل الذي أزاوله إلى العلاقات التي أنخرط فيها.
أفضّل الفلسفة التي تساعدني على مواجهة مخاوفي من الموت والوحدة، التي تقدم لي إجابات لأسئلة الحياة التي لا تنتهي.
وسطع في ذهني فيلسوفان: أبيقور وسارتر.
ومن أسئلة الحياة التي لا تنتهي، أتساءل هذه الأيام عن العلاقات العاطفية التي لطالما جعلت المرء عرضة للألم. فهل من الأفضل، والحالُ كذلك، تجنُّبُها اتقاءً لنارها، وأنا عليمٌ بمعاناة الشعراء مع عشيقاتهم، والأصدقاء مع زوجاتهم؟ أو أن الأفضل هو أن أخوضها كما يخوضُ الغواصَ البحرَ بحثًا عن اللؤلؤ، على أمل أن يجد لؤلؤةً برّاقةً مخبّأةً داخل محارةٍ، لم يكن لينالها لو لم يغامر بحياته إيمانًا بوجودها؟
سأستعين برأي بعض الفلاسفة، في نهاية المقال، للإجابة عن هذا السؤال.
وفي الحديث عن العلاقات العاطفية، يجب ألّا نهمل أن هذه التساؤلات تزداد إلحاحًا مع كل تجربةٍ نخوضها، ومع كل جرحٍ نتجرّعه، ومع كل ما راكمناه من شعورٍ بعدم الأمان أو ضعفٍ في الثقة بأن الأمر يمكن أن ينجح. لأنك حين تخرج من علاقة، أو يخرج منها الطرف الآخر، تجد نفسك وقد وقعتَ في حالةٍ من الصدمة، شعورٍ بالخذلان، وفراغٍ بعد انتهاء العلاقة بشكلٍ يبدو كما لو كان مفاجئًا.
وربما يستحوذ عليك شعورٌ بالندم، أو بالسذاجة، أو بحساسيةٍ وهشاشةٍ مفرطتين. وقد تمتليء بالغضب.
اليوم الأول بعد انتهاء العلاقة
يبدأ اليوم الأول بعد انتهاء العلاقة حين تقرر أنت ذلك: حين تجد نفسك تريد الخروج منها، أو حين يرحل الطرف الآخر. أحيانًا يحدث هذا الأمر بوضوح، وفي أحيانٍ أخرى عليك أن تستنتج ذلك. في الحالتين، لن يكون الأمر سهلًا.
اليوم الأول بعد انتهاء علاقةٍ استمرّت فترةً من الزمن لن يكون سهلًا. ستحتاج إلى الاستعانة بحقيبة الإسعافات الأولية، وسيكون مفيدًا جدًا أن تكون مجهّزة مسبقًا.
افتح حقيبة الإسعافات الأولية، واستخدم أول دواء: الفضفضة مع أصدقاء مقرّبين. شخصٌ أو شخصان كفيلان بامتصاص المشاعر التي تغمرك وتجعلك تحدّق في الماضي. يمكنهما، بالاستماع فقط، أن ينجحوا في ذلك. في مثل هذا الوقت، أنت بحاجة إلى من يسمعك ويتفهّم ما تشعر به، شخصٍ يمكنك أن تتعرّى أمامه دون خوف (بالمعنى المجازي عزيزي القارئ، رجاءً أبقِ عليك ثيابك).
ثم استعن بالدواء الثاني من الحقيبة: التأمل.
الروحانية في مثل هذه الأيام ليست أمرًا اختياريًا، وجلسات التأمّل الخاصة بالتشافي من العلاقات لا تُعدّ ولا تُحصى. من الأفضل أن يكون لديك واحدة تعتمد عليها. وإن لم تكن لديك، فأقترح عليك جلسة RAIN لتارا براك على يوتيوب. كرّر الاستماع إليها كلّ يوم، مرةً تلو الأخرى، حتى تجد نفسك عرفت ما الذي عليك أن تفتّش عنه، وكيف يمكنك أن تستعيد نفسك.
ربما عليك أن تعود إلى صورٍ ورسائل قديمة تُذكّرك بأشياء كنت قد نسيتها، أو أن تُعيد الاتصال بشخصٍ ما، أو أن تخصّص وقتًا أكبر لنفسك. شيءٌ ما سيضيء في عقلك، وستتمكّن من النظر بوضوحٍ عبر العتمة التي كانت تحيط بك.
الدواء الثالث: لا تنعزل. خالط الناس. تردّد على ديوانية أصدقائك، زُر أقاربك، اخرج مع صديقٍ لم تقابله منذ زمن، مارس رياضةً جماعيةً، أو عملًا تطوّعيًا، وشارك الآخرين هواية ما.
مهما كان شعورك الآن، لا تنعزل.
الدواء الرابع: الانغماس في عالم تهواه.
تذكّر، عزيزي القارئ، أنني أتحدث هنا عن حقيبة الإسعافات الأولية الخاصة بي، فمحتويات حقيبتك ستختلف بالتأكيد. لذا عليك أن تجد البديل الذي يناسبك.
بالنسبة إليّ، كلما شعرتُ بأي اضطرابٍ في المشاعر، لأي سبب كان، أجد في نفسي رغبةً في الانغماس في إحدى روايات موراكامي. في نهاية علاقةٍ سابقة، عدتُ إلى رواية «رقص رقص رقص»، ووجدتُها مناسبةً، إذ إنّ بطلها، الذي يبلغ من العمر 34 عاما، يخوض عدّة نهاياتٍ على مستوى العمل والعلاقة الزوجية، ويمكننا أن نتابع في الرواية كيف يحاول أن يستعيد اتزانه ويندمجَ مرةً أخرى في المجتمع. "لم أكن أشعر بالرغبة في عمل أي شيء. وخلال الخريف الماضي، أَلَمّت بي كافة أنواع الخطوب. طُلِّقت من زوجتي. ومات أحد أصدقائي بطريقة غامضة للغاية. كما هجرتني امرأة عشت معها من دون كلمة منها. التقيت شخصاً غريباً ووجدت نفسي عالقاً في بعض التطورات الغريبة. وحينما كان كل شيء قد زال، إذا بحالة جمود أعمق من أي شيء خبرته في حياتي، تغمرني. وخيَّمت على شقتي حالة من العدم المدمِّر. على مدى ستة أشهر ظللت حبيس الشقة. لم أكن أغادرها طوال اليوم إلا لشراء بعض احتياجاتي الضرورية اللازمة لبقائي على قيد الحياة. كنت أخرج إلى المدينة مع ظهور أول خيوط الفجر وأسير في شوارعها المهجورة، لكن ما إن تبدأ الشوارع في الامتلاء بالناس، حتى أرتدّ عائداً إلى الشقة للخلود إلى النوم".
في الفترة التي سعى فيها بطلُ الرواية إلى الاندماج في المجتمع، قام بعدّة أمور، منها الدخولُ في علاقاتٍ عابرة. يقول:"أعمق علاقة دخلت فيها كانت مع امرأة تعمل لدى شركة الهاتف. التقيتها في حفل رأس السنة. كلانا كان ثملاً، تبادلنا النكات وأحبّ كل منا الآخر، وانتهى بنا الأمر في شقتي". كان كلاهما يعلم أن علاقتهما لن تستمر، واتفقا ضمنيًا على تجاهل ذلك. شعر البطل، لأول مرة، بسلامٍ لم يذقه منذ زمن.
رغم الانسجام والتوافق اللذين كانا بينهما، إلا أن كل شيء انتهى فجأة، مما أدى إلى استدعاء المشاعر السلبية مرّةً أخرى. "ترك رحيلها لديّ فراغاً أكثر مما تصورت. بل إنني لزمت مرة ثانية شقتي لفترة من الزمن.
والمشكلة هي أنني لم أكن أريدها، لم أكن أريدها حقاً. أحببتها وأحببت أن أكون معها. لقد أعادتني إلى المشاعر السامية . ولكن المهم في الأمر هو أنني لم أشعر أبداً بالحاجة إليها . ولم تكد تمرّ ثلاثة أيام على خروجها من حياتي حتى أدركت تلك الحقيقة".
وهذا يدفعني إلى طرح هذا السؤال، الذي من المؤكّد أنه يراودك في هذه المرحلة: هل الحلّ في علاقةٍ جديدة تكون بديلًا عن العلاقة السابقة؟
علاقة جديدة لنسيان القديمة
في عدد سبتمبر 2025 من مجلة البيان الكويتية، نُشرت لي قصة قصيرة بعنوان «زنجبيل». وفي اليوم نفسه الذي صدر فيه العدد، كنتُ على متن الطائرة، واخترتُ في تلك الرحلة مشاهدة فيلم «عن العشق والهوى». أعجبني الفيلم، ولفت انتباهي أنه يناقش الفكرة نفسها التي تناولتُها في القصة: الدخول في علاقةٍ جديدة بهدف نسيان القديمة.
يحكي الفيلم قصةَ حبٍّ بين عمر وعلياء، اللذين لم يتمكّنا من الزواج. فتزوج كلٌّ منهما شخصًا آخر. صارت لعمر عائلة، لكنّهما بعد مرور السنوات لم يجدا في علاقاتهما التالية خلاصًا من حبهما القديم. أي إنّ العلاقة البديلة لم تنجح في تخطي السابقة.
أمّا في قصّتي، التي كنتُ قد كتبتُها قبل سنوات، فكانت تنتهي ببطلها فهد، الذي يحاول نسيان حبيبته داليا، وهو يجد نفسه في أحضان امرأةٍ أجنبيةٍ في بلاد بعيدة. ورغم أنه في هذا الموقف الحميمي مع امرأةٍ أخرى، إلا أنه لم يستطع التخلّص من التفكير في حبيبته السابقة.
لا أتذكّر، حين كتبتُ القصة، لماذا جعلتُ نهايتها هكذا. لكنّ ما أصبو إليه الآن هو أن أُشير إلى أنّ هذه الفكرة قد لا تكون سديدة: أن نستخدم الآخر وسيلةً للنسيان، رغم كلّ ما يمكنك أن تجنيه من هذه العلاقة، من استعادة الشعور بأنك مازلتَ محبوبًا، ورفع ثقتك بنفسك، وجعلك تتلهى عن الألم.
ستقول لي: لكن ثمّة فراغًا يجب أن يُملأ.
صحيح، لكن هناك أمرًا عليك أن تُنجزه أولًا قبل الدخول في علاقةٍ جديدة، حتى لا تظلم الطرف الآخر، وهو أن تتعافى مما مضى.
وإلى أن يتحقّق التعافي، بأيّ طريقةٍ تجدها مناسبة، اقضِ وقتك في ممارسة شيءٍ تستمتع به إلى درجة غياب الشعور بالزمن.
لكلٍّ منّا هذا الشيء الذي يجعله يحلِّق بعيدًا عن الواقع.
بالنسبة إليّ، هذا الشيء هو الكتابة.
وإن كنت لا تعرف بعد ما هو هذا الشيء لديك، فقد يكون ممارسةَ عملٍ إبداعيٍّ: رسم، نحت، عزف، تصوير. وربما يكون أمرًا يتعلّق بالتقنية: البرمجة مثلًا، أو تعلّم اختراق الحواسيب، فهذه كفيلةٌ بعزلك عن العالم من حولك. أو ربما الأعمالُ اليدوية، كالحياكة والنجارة، أو الطهي باحترافية، أو حتى الاعتناء بالنباتات.
إذا أردتَ الدخول في علاقةٍ جديدة لتنسى القديمة، فادخل أولًا في علاقةٍ جديدة مع نفسك.
***
قبل إكمال المقال، أريد أن أُسدي لك نصيحة سريعة:
شاهد فيلم Chungking Express.
هل سيفيدك في شيء إن شاهدته؟ في الحقيقة، لا.
لكنك ستقع في انجذابٍ عاطفي خفيف Crush مع فاي وونغ Faye Wong.
وستقضي الأيام الثلاثة التالية في الاستماع إلى أغنية California Dreamin حين تكون وحدك.
هذا لن يحلّ شيئًا، لكنه سيجعل روحك أخفَّ قليلًا،
وهو بمثابة تذكيرٍ بألّا تأخذ ما تمرّ به الآن على محمل الجدّ أكثر من اللازم،
وأن علاقتنا بأنفسنا لا تقلّ أهميّةً عن علاقتنا بالآخرين.
***
الطرف الآخر
لعلك لاحظت في تناولي لهذا الموضوع عدم التطرق للطرف الآخر في العلاقة، وذلك لأنني لا أجد له أهمية بعدما انتهت علاقتنا معه. لا يهم. حتى لو نظرت إليه بكونه شخص غير ناضج، متلاعب، خائن، سام، مخطئ، أو ضحية. بعدما خرجت من الغرفة التي كانت تجمعكما، لم يعد هناك شيء أهم، في هذا الوقت، منك أنت. كل ما عليك فعله وأنت تسير خارج الغرفة هو أن تتأكد من إغلاق الباب وراءك.
رأي الفلاسفة في العلاقات العاطفية
"لذلك، لعلنا إذا رأينا القنفذ يعبر الطريق، لا نخشى شوكه ونمد له يدنا، ربما يمدّ لنا بدوره يده. الطريق تتطلّب الرفقة أحيانًا، وهذه الرفقة لا تأتي بمعزل عن حكمة المسافة، ولا تعبد طريقها إلا لمن يملك جرأة الاعتراف بأن الحب واللقاء والتقارب خطر محتمل، لكنه خطر لا بد أن يُجرّب".
إيمان العزوزي، مقال أناقة القنفذ
آراء الفلاسفة في العلاقات العاطفية ومدى أهمية خوضها كثيرة، لكنّي سأقتصر على ثلاثة: أبيقور، شوبنهاور، وتجربة سارتر مع سيمون.
سأعرض الفكرة العامة باختصار، ولك حريةُ البحث والاستزادة فيما تجده مناسبًا لك.
فلنبدأ مع أبيقور، الذي يُعلي من مكانة الصداقة، حتى أنه قضى حياته مع أصدقائه في بيتٍ كبيرٍ يتشاركون العيشَ فيه. هل سمعت عن مسلسل فريندز؟ شيءٌ ليس بعيدًا عن ذلك.
"عندما بلغ أبيقور الخامسة والثلاثين، قرر الشروع في تنفيذ فكرة "العيش محاطا بالأصدقاء"، فأخذ منزلا كبيرا على بُعد عدّة أميال من أثينا وانتقل إلى السكن فيه مع مجموعة من الأصدقاء". نأتي إلى فكرته الأساسية في العلاقات، "وقد ميّز أبيقور بين الصداقة والعلاقات العاطفية والرومانسية، الصداقة عنده داعمة وإيجابية وممتعة، لكن الحب الرومانسي يسبب الكثير من الألم والمعاناة، وهو بهذا يكون واحدا من الأشياء التي تسبب الاضطراب في النفس وتحرمها من السكينة والطمأنينة. فالحكيم الأبيقوري يفضل أن لا يقع في الحب العاطفي ولا يربط مصيره بالزواج، لكنه لا يقصد بهذا الوحدة، بل يفضل نوعا من الحب المنتج للمتعة والمفرز للسعادة الذي يقوم على الصداقة الحقيقية". ستجد المزيد عن أفكار أبيقور حول الصداقة والعلاقات العاطفية في هذا المقال.
لننتقل إلى شوبنهاور، ومعه يجب أن نذكر القنفذ، ذلك الحيوان المليء بالأشواك، والذي حين يقترب من القنافذ الأخرى طلبًا للدفء في الليالي الباردة، يشعر بوخزٍ لا يُحتمل من أشواكها. فيتباعدون عن بعضهم. ثم يدفعهم البرد مرةً أخرى إلى التقارب، ويدفعهم الألم إلى الابتعاد مجددًا، وهكذا حتى يصلوا إلى مسافةٍ مقبولةٍ ينالون فيها الدفء ويخفّفون من ألم الأشواك. يستخدم شوبنهاور مفارقة القنفذ هذه ليوضح صعوبة العلاقات العاطفية.
وقد كتبت إيمان العزوزي مقالًا عن روايةٍ تناولت هذه المفارقة، يمكن من خلاله الحصول على مزيدٍ من التفاصيل عن فكرة شوبنهاور حول العلاقات: وهي رواية «أناقة القنفذ».
نصل الآن إلى سارتر وسيمون. اللذين عاشا نوعًا فريدًا من العلاقات، وهي العلاقة المفتوحة. واستمرّا معًا حتى نهاية حياتهما.
في هذه المحاضرة، استطاعت بشاير العربيد عرض تفاصيل هذا النوع العلاقات بشكلٍ جيّد، بالاستناد إلى كتاب «الفلاسفة والحب».
انضم إلى القائمة البريدية لتصلك المقالات القادمة.