في أحد الأيام الغائمة من ديسمبر، عندما كنت في التاسعة من عمري، خرجت لألعب في الشارع مع أبناء الجيران. واستحوذت على انتباهنا كمية الكنار المتساقط تحت سدرة جارنا، الذي يضع أمام باب منزله قاربًا خشبيًا عتيقًا. التقطتُ واحدة من غصنها وتذوّقتها، فأحببتُ الكنار كثيرًا. الأختُ الصغرى للتفاح. حين يكون بلونٍ أخضر مشوبٍ بصفرة، وصلب إلى حدٍّ ما، أو حين يتغير لونه إلى البرتقالي، ويكتسب مذاقه مزيدًا من الحلاوة. ومنذ ذلك الحين صار طعمها، في فمي، مرادفًا لطعم الطفولة.
رفعنا أثوابنا البيضاء ولففناها عند الخصر، وصرنا نضع داخلها ثمرات الكنار. وبينما نحن منهمكون في اكتشافنا الجديد، خرج من وراء القارب الخشبي رجلٌ سبعيني، بظهر أحدب، يسير باتجاهنا ببطء. فزعنا أول ما شاهدناه، رمينا الكنار وسارعنا بالهرب، كلٌّ إلى منزله. ونحن نسمعه وراءنا يصيح، "تعالوا يا عيال!".
بعد دقائق ليست طويلة، رن جرس البيت. كانت خادمة جارنا تحمل في يدها كيسًا مليئًا بالكنار. أخبرتُ أمي وأخي الكبير بما حدث، فعرفتُ منهما أنه جارنا بوعزوز، الذي أقعده المرض وكِبَر السن عن أي نشاط اجتماعي في السنوات الأخيرة. بنى القارب الخشبي أمام بيته بعد أن تغيّر عليه الزمن ولم تعد لوظيفته حاجة. ولم يكن يفارق بيته إلا لأداء الصلوات الخمس أو الذهاب إلى المستوصف.
"روح اشكره واعتذر منه عن اللي سويتوه"، قالت لي أمي. فخرجت إليه ووجدته جالسًا على كرسي بلاستيكي أبيض، بالقرب من قاربه، يَرْنو إلى الشارع. قبّلتُ رأسه وشكرته على الكنار. "أنت چم عمرك يا وليدي؟". رددت، "تسع سنين عمي". ابتسم وقال، "قول آمين". قلت، "آمين". رفع يديه ناحية السماء، "الله يعطيني عمر وأحضر عرسك وأفرح فيك". ارتبكت. فهو بالكاد يمشي على رجليه، بظهره المتقوّس. لا أدري لماذا يريد أن يحضر حفل زفافي، لكني قلت، "إن شاء الله، عمي".
منذ ذلك الحين، وكلما صادفته، يبتسم لي ويقول، "ها، متى نفرح فيك". أبتسم وأرد، "قريب، إن شاء الله". حتى دخلت الجامعة وأنهيت دراستي الجامعية، وجارنا بوعزوز، الذي كان ظهره يزداد تقوسًا، وأنفاسه تزداد ضيقًا، ونظره يزداد ضعفًا، وخطواته تتباطأ أكثر وأكثر، لا يبدو أن لديه شي يشغله في حياته سوى أمر واحد: موعد زواجي.
***
خرجت في أحد الجُمع، عند الساعة الحادية عشرة ظهرا، أتمشّى إلى الخباز كعادتي كل يوم جمعة، وإذا بي أصادف جارنا بوعزوز يمشي وحده مستندًا على عصاه، في طريقه للحاق بصلاة الجمعة في المسجد. ذهبتُ لأمسك بيده، فالشارع مليئ بأعمال الحفر. سلّمتُ عليه، وفور أن عرفني سألني سؤاله المعتاد عن موعد زواجي. أمسكتُ يده اليسرى وقلت له، "بوصلك إلى المسجد". رد، "بارك الله فيك ياوليدي، عساني أفرح فيك يا رب".
- والله عمي وِدّي، بس مو لاقي بنت الحلال.
- بنات الحلال وايد، بس إنت عَزِّم.
- لو بيدي والله أروح أخطب هالبنت الحلوة اللي تتمشّى هناك.
- أي بنت؟
- هناك عمي، اللي لابسة تنورة قصيرة… انتو تسمونه ميني جب عمي.
وأشرتُ بإصبعي إلى ناحية بعيدة. جاهد بوعزوز لأن يرفع رأسه، "مافي أحد يا وليدي". أشرتُ مرة أخرى إلى نفس المكان، "هذيچ عمي، اللي خدودها وردية". ثم أضفت، "شكلها مضيّعة، وداخلة فريجنا بالغلط. بس الله يهديها ليش سيقانها كلها طالعين". اكتسى وجه بوعزوز بملامح جادة، وتصاعد صوت أزيز من صدره مع كل شهيق، والتوى وجهه ألمًا كلما حاول أن يعتدل بظهره ويرفع رأسه، "ماشوف أي وحدة، يا وليدي". قلت، "مافي غيرها، شوف اللي شعرها طويل، نفس الممثلات اللي بالأفلام الهندية. بس، عمي، أتوقع عمرها تسعتعش.. عشرين.. تسعتعش". ارتفع أزيز صدر بوعزوز، ولأول مرة أرى عليه علامات الانزعاج، "إي، وينها هذي؟ وينها؟". قلت، "قربنا منها. بس عمي هذي الله يهديها، حتى قميصها مو مسكرته عدل". نزع بوعزوز يده من يدي، ووضعها فوق حاجبيه ليمنع تشويش أشعة الشمس وصار يتمايل مع كل خطوة يمينًا ويسارًا وهو يتقدم إلى الأمام، "وينها هالبنت؟ الشارع فاضي!". قلت، "عمي خلاص قربنا، من هني أقدر أشم عطرها.. همممم، أتوقع ياسمين". حمل الثمانيني بوعزوز جسده المتمايل، ومشى بأنفاس لاهثة، متجاوزًا آلام ظهره ورقبته، شاخصا بنظره بعيدًا، يبحث عن طيف للفتاة. تسارعت خطاه: واحدة، اثنتين، ثلاث… وفي الخطوة الرابعة، وقع بوعزوز في فتحة منهول تركه العمال وراحوا يستعدون لصلاة الجمعة. فور سقوطه، سمعتُ عظمتين من عظام جسد بوعزوز تنكسران. نظرت إلى الأسفل وقلت له، "بوعزوز، تسمعني؟". لم يردّ عليّ، سوى بحشرجة. التفتُّ حولى وتأكدت أن لا أحد يرانا. ثم ذهبتُ إلى الخبّاز.
***
لم ينتبه أحد إلى فقدان بوعزوز حتى فجر اليوم التالي، حين عاد العمال إلى عملهم. أخرجوه من المنهول ودفنوه يوم الأحد. في مجلس العزاء، جلست إلى جانب أحد أبنائه، وأخبرته أن آخر مرة رأيته فيها كان يسير إلى المسجد، وعرضتُ عليه أن أنقله بسيارتي، لكنه رفض، واستأنف تسبيحه واستغفاره ومضى في طريقه. لعلّ الله أراد أن يختم حياته بخاتمة حسنة، وهو يسير إلى المسجد حيث تعلّق به قلبه. "الله يرحمه، كان حمامة مسجد"، علّق ابنه.
ومنذ ذلك اليوم، أتذكّر جارنا بوعزوز وأترحّم عليه كلما أتاني نصيبي من كنار سِدرته في شهر ديسمبر، أو عندما أشاهد مسرحية على هامان يا فرعون.
مايو 2025