** في هذه المراجعة كشف لبعض أحداث الرواية **
رواية «ثرثرة فوق النيل» (1966) هي ثمرة تساؤل نجيب محفوظ حول «أخلاقية الرجل المعاصر» كما ذكر في مقابلة معه في مجلة الكتاب العربي: "ثمة أناس بلا دين فكيف يمكن التعامل معهم وكيف يمكن أن يتعاملوا هم مع الحياة بل حتى بعض المتدينين لا تساير أخلاقهم دينهم. وما هى الأسس التى يمكن ان تقام عليها أخلاق اجتماعية وإنسانية فاضلة؟".
تدور الرواية حول مجموعة من المثقفين الذين يلتقون في عوامة على النيل، ليدخنوا الحشيش ويدخلوا في سلسلة من الحوارات العبثية، كما هي الحياة التي اختاروها. غلبت الحوارات على الأحداث حتى غدت الرواية أشبه بمسرحية. وقد ذكّرتني الانتقالات غير المترابطة لأفكار الشخصيات، نتيجة وقوعهم تحت تأثير المخدر، بحوارات مسرحية «في انتظار جودو».
وفي هذه الرواية، يعرض لنا نجيب محفوظ إجابته عن سؤال: كيف تكون أخلاق الإنسان حين يغيب الإله عن حياته؟
أول ما يشغل ذهن الإنسان الخالي من الإله هو موته الحتمي، الذي يضع، بحضوره، نهايةً لهذه الحياة العبثية المنغمسة باللعب واللهو والجنس والشراب والحشيش. يصوّر لنا شيئًا من حياتهم:
"وذكر رجب بأن لديهم ويسكي أيضًا، فرحّبت بكأس، فقام بنفسه وأعدّها لها، ثم تساءلت عن سر تعلْقهم بالجوزة، فلم يتطوع أحد بجواب، حتى قال علي السيد: إنها محور جلستنا، ولا سعادة حقيقية لنا إلا في هذه الجلسة".
ويذكر في موضع آخر:
"ولمَّا همَّ الرجل بالذهاب قال له: عليك أن تبحث لي عن فتاة مناسبة في الظلام".
ينتهي كل هذا بالموت، الذي يجعل كل هذه الحياة العبثية مبرّرة، كما قال طَرَفة من قبل:
ألا أيُّهذا اللّائمي أحضُرَ الوغى وأن أشهدَ اللذّات، هل أنتَ مُخلِدي
فإنْ كُنْتَ لا تَسطِيع دَفْعَ مَنيَّتي فَدعْني أبادْرها بما مَلَكَتْ يدي
وتتساءل إحدى الشخصيات الرواية:
"هل حقًا سنموت يومًا ما؟".
ويتلقى جوابًا عبثيًا:
"انتظر حتى تُذاع نشرة الأخبار".
ثم يعاد طرح الموضوع مرة ثانية:
"هل أخبرتَها بأن الذي يجمعنا ها هنا هو الموت؟".
ويعود مرة ثالثة إلى الموت:
"وإذا به يضحك ضحكة جديدةً منقطعةً بجوِّها الطائر عمَّا سبقها، فنظرت إليه متسائلة، فكرر الضحك، ثم أشار إلى رأسه قائلًا:
- بدأت الرحلة، وعيناك جميلتان!
- ولكن ما العلاقة بين هذا وذاك؟
فقال بتقرير يقيني: لا علاقة بين شيء وشيء.
- ولا حتى بين طلقة رصاصة وموت إنسان؟!
- ولا هذا؛ فالرصاصة اختراع معقول، أما الموت؟"
ثم تدخل بين هذه المجموعة امرأة جادة، تسعى إلى تحويلهم من عبثهم إلى الجدية. وتُعرّف العبث، كما لاحظته عليهم، بأنه:
"فقدان المعنى؛ معنى أي شيء.
انهيار الإيمان، الإيمان بأي شيء. والسير في الحياة بدافع من الضرورة وحدها، ودون اقتناع، وبلا أمل حقيقي. وينعكس ذلك على الشخصية في صورة انحلال وسلبية، وثُمسي البطولة خرافةً وسخرية، ويستوي الخير والشر، ويُقدَّم أحدهما - إذا قُدّم - بدافعٍ من الأنانية أو الجبن أو الانتهازية. وتموت القيم جميعًا وتنتهي الحضارة."
يبلغ الصدام بينهم ذروته في نهاية الرواية، حين يؤدي طيشهم إلى مقتل شخص في حادث سيارة، فتطالبهم المرأة الجادة بيتحمل مسؤولية تصرفهم والاعتراف به، بينما يحاولون إقناعها بأنه ليس من المنطقي التضحية بحياتهم وسعادتهم مقابل خطأ لا يمكن إصلاحه، فهذا التصرف لن يعيد الميت إلى الحياة.