صورة - قصة قصيرة

 



"انتهت الحرب"، أعلن مقدِّم الأخبار. كأنني فتحت عينيّ بعد كابوس قاتم. سارعت إلى لملمة أغراضي داخل حقائب السفر، وكنت على متن أول طائرة أعادتني إلى مسقط رأسي.


كان المنزل من الخارج، بنوافذه المهشّمة، أشبه بأسنان رجلٍ طعن في السن وعاين الموت مرارًا. سرقوا كل شيء. قلتُ في نفسي. ثم مشيت باتجاه الباب الرئيسي، أعبر بين نخلات بيتنا الثلاث الراكعات من هول ما حدث. ترافقني خيوط الشمس الذهبية إلى داخل البيت، حيث لا كهرباء، وأكوامٌ فوقها أكوام في كل مكان، كأن البيت تقيأ أحشاءه، وكل شيء يسبح في الغبار.


صعدت إلى غرفتي. فتّشتها شبرًا بشبر، وكل ما عثرت عليه سيكون مصيره سلة المهملات، حتى انتبهت إلى ألبوم صوَر لم يكترث له أحد.


حين تصفحته، تداعت إليّ لحظاتٌ خلتُني نسيتها. تظهر في أول صورة أمي منيرة، وقد علا محياها أمارات الإرهاق، تضمّني إلى صدرها على سرير المستشفى، خالعةً نظارتها الطبية، وعيناها تحدّقان في عدسة الكاميرا. كانت ترتدي قميصًا أبيض واسعًا ومفتوحًا من الأمام، وتظهر على طرف الصورة الأيسر اختي الكبيرة حصة، حين كانت في التاسعة، بضحكتها الواسعة، تشدّ جديلتين من شعرها خلف رأسها المائل قليلًا.


وفي الصورة الثانية، يبدو عمري ثلاث سنوات، وهي أيضًا في المستشفى، لكن هذه المرة يظهر أبي جاسم بغترته البيضاء وثوبه القريب من الأزرق الداكن، وابتسامة رضا على وجهه وهو ينظر في عينيّ، بينما تتابع يدَيّ مسباحه الأصفر الذي يرفعه عاليًا، وعلى رأسي شاشٌ أبيض بسبب سقوطي من السلم الرخامي، كما أخبروني.


وفي صورة أخرى، أقف أمام كعكة عليها ست شمعات. ياه كم تغيّر شكلي خلال ثلاث سنوات فقط. كنت واقفًا أمام طاولة الطعام، يحيط بي أصدقائي وأبناء وبنات عمومتي، ويظهر حمد، ابن عمي الذي يكبرني بأربعة أعوام، نافخًا في صفّارة عيد الميلاد، وهي تتمدد أمام فمه مثل أفعى تندفع من جحرها. كنت أضع قبعة ورقية تشبه بالجبل، أضم كفّيّ أمام وجهي وأنا أردد في داخلي أمنية عيد الميلاد. ربما كانت دراجة هوائية أو لباس سبايدر مان، لا أتذكّر. لكنني لا أنسى أنني بكيت تلك الليلة، بكيت كثيرًا عندما رحل كل أصدقائي وأقاربي، وظللت وحدي مع حمد.


"تدري يا فهد إنك طفل بالتبني؟". قال لي. أفزعني كلامه، وقلت، "غير صحيح هذا الكلام". اقترب مني أكثر وهمس، "والله العظيم، أنت لست ابن ماما منيرة وبابا جاسم. كان عندهم ولد بعمري اسمه يوسف، مات وهو صغير، ولأن الطبيب قال لماما منيرة أنها لن تقدر على أن تنجب أطفال، أخذوك من المستشفى".


رميت باللعبة التي كانت في حضني وبكيت بأعلى صوتي، وأنا أركض إلى أمي منيرة وأتشبث بثيابها، وأسألها عن الكلام الذي أخبرني به حمد. أكدت لي زيف كلامه، وطمأنتني، إذ قبضت على كفّي وقادتني إلى غرفتي، وفتحت ألبوم الصور، وقالت، "انظر، هذا أنت، وهذه أنا عندما ولدتك". وتلاشت كل مخاوفي عندما أمسكت الصورة بين يديّ.


نزعت الصورة من الألبوم، وطبعت قبلة على وجه أمي منيرة. ثم قلبتها قبل أعيدها، فوجدت مكتوبًا على ظهرها:

يوسف وماما منيرة.


جارنا بوعزوز - قصة قصيرة

 



في أحد الأيام الغائمة من ديسمبر، عندما كنت في التاسعة من عمري، خرجت لألعب في الشارع مع أبناء الجيران. واستحوذت على انتباهنا كمية الكنار المتساقط تحت سدرة جارنا، الذي يضع أمام باب منزله قاربًا خشبيًا عتيقًا. التقطتُ واحدة من غصنها وتذوّقتها، فأحببتُ الكنار كثيرًا. الأختُ الصغرى للتفاح. حين يكون بلونٍ أخضر مشوبٍ بصفرة، وصلب إلى حدٍّ ما، أو حين يتغير لونه إلى البرتقالي، ويكتسب مذاقه مزيدًا من الحلاوة. ومنذ ذلك الحين صار طعمها، في فمي، مرادفًا لطعم الطفولة. 


رفعنا أثوابنا البيضاء ولففناها عند الخصر، وصرنا نضع داخلها ثمرات الكنار. وبينما نحن منهمكون في اكتشافنا الجديد، خرج من وراء القارب الخشبي رجلٌ سبعيني، بظهر أحدب، يسير باتجاهنا ببطء. فزعنا أول ما شاهدناه، رمينا الكنار وسارعنا بالهرب، كلٌّ إلى منزله. ونحن نسمعه وراءنا يصيح، "تعالوا يا عيال!".


بعد دقائق ليست طويلة، رن جرس البيت. كانت خادمة جارنا تحمل في يدها كيسًا مليئًا بالكنار. أخبرتُ أمي وأخي الكبير بما حدث، فعرفتُ منهما أنه جارنا بوعزوز، الذي أقعده المرض وكِبَر السن عن أي نشاط اجتماعي في السنوات الأخيرة. بنى القارب الخشبي أمام بيته بعد أن تغيّر عليه الزمن ولم تعد لوظيفته حاجة. ولم يكن يفارق بيته إلا لأداء الصلوات الخمس أو الذهاب إلى المستوصف.


"روح اشكره واعتذر منه عن اللي سويتوه"، قالت لي أمي. فخرجت إليه ووجدته جالسًا على كرسي بلاستيكي أبيض، بالقرب من قاربه، يَرْنو إلى الشارع. قبّلتُ رأسه وشكرته على الكنار. "أنت چم عمرك يا وليدي؟". رددت، "تسع سنين عمي". ابتسم وقال، "قول آمين". قلت، "آمين". رفع يديه ناحية السماء، "الله يعطيني عمر وأحضر عرسك وأفرح فيك". ارتبكت. فهو بالكاد يمشي على رجليه، بظهره المتقوّس. لا أدري لماذا يريد أن يحضر حفل زفافي، لكني قلت، "إن شاء الله، عمي".


منذ ذلك الحين، وكلما صادفته، يبتسم لي ويقول، "ها، متى نفرح فيك". أبتسم وأرد، "قريب، إن شاء الله". حتى دخلت الجامعة وأنهيت دراستي الجامعية، وجارنا بوعزوز، الذي كان ظهره يزداد تقوسًا، وأنفاسه تزداد ضيقًا، ونظره يزداد ضعفًا، وخطواته تتباطأ أكثر وأكثر، لا يبدو أن لديه شي يشغله في حياته سوى أمر واحد: موعد زواجي.


***


خرجت في أحد الجُمع، عند الساعة الحادية عشرة ظهرا، أتمشّى إلى الخباز كعادتي كل يوم جمعة، وإذا بي أصادف جارنا بوعزوز يمشي وحده مستندًا على عصاه، في طريقه للحاق بصلاة الجمعة في المسجد. ذهبتُ لأمسك بيده، فالشارع مليئ بأعمال الحفر. سلّمتُ عليه، وفور أن عرفني سألني سؤاله المعتاد عن موعد زواجي. أمسكتُ يده اليسرى وقلت له، "بوصلك إلى المسجد". رد، "بارك الله فيك ياوليدي، عساني أفرح فيك يا رب". 

  • والله عمي وِدّي، بس مو لاقي بنت الحلال.
  • بنات الحلال وايد، بس إنت عَزِّم.
  • لو بيدي والله أروح أخطب هالبنت الحلوة اللي تتمشّى هناك.
  • أي بنت؟
  • هناك عمي، اللي لابسة تنورة قصيرة… انتو تسمونه ميني جب عمي. 


وأشرتُ بإصبعي إلى ناحية بعيدة. جاهد بوعزوز لأن يرفع رأسه، "مافي أحد يا وليدي". أشرتُ مرة أخرى إلى نفس المكان، "هذيچ عمي، اللي خدودها وردية". ثم أضفت، "شكلها مضيّعة، وداخلة فريجنا بالغلط. بس الله يهديها ليش سيقانها كلها طالعين". اكتسى وجه بوعزوز بملامح جادة، وتصاعد صوت أزيز من صدره مع كل شهيق، والتوى وجهه ألمًا كلما حاول أن يعتدل بظهره ويرفع رأسه، "ماشوف أي وحدة، يا وليدي". قلت، "مافي غيرها، شوف اللي شعرها طويل، نفس الممثلات اللي بالأفلام الهندية. بس، عمي، أتوقع عمرها تسعتعش.. عشرين.. تسعتعش". ارتفع أزيز صدر بوعزوز، ولأول مرة أرى عليه علامات الانزعاج، "إي، وينها هذي؟ وينها؟". قلت، "قربنا منها. بس عمي هذي الله يهديها، حتى قميصها مو مسكرته عدل". نزع بوعزوز يده من يدي، ووضعها فوق حاجبيه ليمنع تشويش أشعة الشمس وصار يتمايل مع كل خطوة يمينًا ويسارًا وهو يتقدم إلى الأمام، "وينها هالبنت؟ الشارع فاضي!". قلت، "عمي خلاص قربنا، من هني أقدر أشم عطرها.. همممم، أتوقع ياسمين". حمل الثمانيني بوعزوز جسده المتمايل، ومشى بأنفاس لاهثة، متجاوزًا آلام ظهره ورقبته، شاخصا بنظره بعيدًا، يبحث عن طيف للفتاة. تسارعت خطاه: واحدة، اثنتين، ثلاث… وفي الخطوة الرابعة، وقع بوعزوز في فتحة منهول تركه العمال وراحوا يستعدون لصلاة الجمعة. فور سقوطه، سمعتُ عظمتين من عظام جسد بوعزوز تنكسران. نظرت إلى الأسفل وقلت له، "بوعزوز، تسمعني؟". لم يردّ عليّ، سوى بحشرجة. التفتُّ حولى وتأكدت أن لا أحد يرانا. ثم ذهبتُ إلى الخبّاز.


***


لم ينتبه أحد إلى فقدان بوعزوز حتى فجر اليوم التالي، حين عاد العمال إلى عملهم. أخرجوه من المنهول ودفنوه يوم الأحد. في مجلس العزاء، جلست إلى جانب أحد أبنائه، وأخبرته أن آخر مرة رأيته فيها كان يسير إلى المسجد، وعرضتُ عليه أن أنقله بسيارتي، لكنه رفض، واستأنف تسبيحه واستغفاره ومضى في طريقه. لعلّ الله أراد أن يختم حياته بخاتمة حسنة، وهو يسير إلى المسجد حيث تعلّق به قلبه. "الله يرحمه، كان حمامة مسجد"، علّق ابنه.


ومنذ ذلك اليوم، أتذكّر جارنا بوعزوز وأترحّم عليه كلما أتاني نصيبي من كنار سِدرته في شهر ديسمبر، أو عندما أشاهد مسرحية على هامان يا فرعون.



مايو 2025


كوكب عبدالله - قصة قصيرة

 





حين أنظر في حياة من حولي، أرى أننا نسير في حياتنا كما تدور الكواكب في مسارات محددة؛ ندور، ونلتقي، وقد نتصادم، لكن نستمر في السير إلى الأمام، دائرةً تلو أخرى.


كل هذه المسارات محددة مسبقًا: يحددها العيب، والحرام، وإرادة أي فرد في العائلة أكبر منك بيوم واحد.


في المرحلة المتوسطة، بينما كنت أتبع المسار المحدد لي، التحقتُ بحلقة تحفيظ القرآن في مسجد حيّنا، وهناك التقيتُ بعبدالله.


توقفت الحلقة عندما رُفع أذان العشاء. "انطرني لا تدخل المسجد". قال لي عبدالله ونحن في غرفة الوضوء، فانتظرته هناك حتى سمعنا إقامة الصلاة. "تعال معاي"، قال عبدالله وهو ينتقل إلى ناحية قريبة من المسجد. 


وقفنا تحت سدرة وارفة، يتناهى إلى مسامعنا صوت الإمام وهو يتلو القرآن. أخرج عبدالله من جيبه سيجارةً، ثم أشعلها ومدها إليّ. لم أكن قد دخنتُ من قبل، وكانت لديَّ رغبةٌ كامنةٌ بتجربة المحرمات التي يُستثنى من فعلها الكبار: التدخين، القهوة السوداء، والعودة إلى المنزل في وقت متأخر من الليل. 


في النفس الأول، ملأتُ رئتي حتى سعلتُ بشدة. ضحك عبدالله، وأخذ نفسًا بمهارة عالية، ثم ردها إليّ. سعلتُ بدرجة أقل في النفس الثاني، ثم وضعت السيجارة بين السبابة والإبهام وأخذت نفسًا ثالثًا انتشت منه كل خلايا دماغي.


ظللنا نتناقل السيجارة كأنها كرة تنس، إلى أن رماها عبدالله على جذع السدرة، ثم قال، "بسرعة خل نلحق على الصلاة ". التحقنا بالركعة الرابعة، وتأثير النيكوتين ما زال يداعب خلايا دماغي، التي أدركت لأول مرة إمكانية الخروج من المسار الذي حُدِّد لي، ثم العودة إليه متى ما شئتُ، مثلما يفعل عبدالله ابن إمام المسجد، الذي كان يتقن فن التنقل بين مسارات الحياة.


مراجعة رواية ثرثرة فوق النيل

 




** في هذه المراجعة كشف لبعض أحداث الرواية **


رواية «ثرثرة فوق النيل» (1966) هي ثمرة تساؤل نجيب محفوظ حول «أخلاقية الرجل المعاصر» كما ذكر في مقابلة معه في مجلة الكتاب العربي: "ثمة أناس بلا دين فكيف يمكن التعامل معهم وكيف يمكن أن يتعاملوا هم مع الحياة بل حتى بعض المتدينين لا تساير أخلاقهم دينهم. وما هى الأسس التى يمكن ان تقام عليها أخلاق اجتماعية وإنسانية فاضلة؟".


تدور الرواية حول مجموعة من المثقفين الذين يلتقون في عوامة على النيل، ليدخنوا الحشيش ويدخلوا في سلسلة من الحوارات العبثية، كما هي الحياة التي اختاروها. غلبت الحوارات على الأحداث حتى غدت الرواية أشبه بمسرحية. وقد ذكّرتني الانتقالات غير المترابطة لأفكار الشخصيات، نتيجة وقوعهم تحت تأثير المخدر، بحوارات مسرحية «في انتظار جودو».


وفي هذه الرواية، يعرض لنا نجيب محفوظ إجابته عن سؤال: كيف تكون أخلاق الإنسان حين يغيب الإله عن حياته؟


أول ما يشغل ذهن الإنسان الخالي من الإله هو موته الحتمي، الذي يضع، بحضوره، نهايةً لهذه الحياة العبثية المنغمسة باللعب واللهو والجنس والشراب والحشيش.  يصوّر لنا شيئًا من حياتهم: 

"وذكر رجب بأن لديهم ويسكي أيضًا، فرحّبت بكأس، فقام بنفسه وأعدّها لها، ثم تساءلت عن سر تعلْقهم بالجوزة، فلم يتطوع أحد بجواب، حتى قال علي السيد: إنها محور جلستنا، ولا سعادة حقيقية لنا إلا في هذه الجلسة".


ويذكر في موضع آخر: 

"ولمَّا همَّ الرجل بالذهاب قال له: عليك أن تبحث لي عن فتاة مناسبة في الظلام".


ينتهي كل هذا بالموت، الذي يجعل كل هذه الحياة العبثية مبرّرة، كما قال طَرَفة من قبل:


ألا أيُّهذا اللّائمي أحضُرَ الوغى وأن أشهدَ اللذّات، هل أنتَ مُخلِدي

فإنْ كُنْتَ لا تَسطِيع دَفْعَ مَنيَّتي فَدعْني أبادْرها بما مَلَكَتْ يدي


وتتساءل إحدى الشخصيات الرواية:

"هل حقًا سنموت يومًا ما؟".


ويتلقى جوابًا عبثيًا:

"انتظر حتى تُذاع نشرة الأخبار".


ثم يعاد طرح الموضوع مرة ثانية:

"هل أخبرتَها بأن الذي يجمعنا ها هنا هو الموت؟".


ويعود مرة ثالثة إلى الموت:

"وإذا به يضحك ضحكة جديدةً منقطعةً بجوِّها الطائر عمَّا سبقها، فنظرت إليه متسائلة، فكرر الضحك، ثم أشار إلى رأسه قائلًا:

  • بدأت الرحلة، وعيناك جميلتان!
  • ولكن ما العلاقة بين هذا وذاك؟

فقال بتقرير يقيني: لا علاقة بين شيء وشيء.

  • ولا حتى بين طلقة رصاصة وموت إنسان؟!
  • ولا هذا؛ فالرصاصة اختراع معقول، أما الموت؟"



ثم تدخل بين هذه المجموعة امرأة جادة، تسعى إلى تحويلهم من عبثهم إلى الجدية. وتُعرّف العبث، كما لاحظته عليهم، بأنه:

"فقدان المعنى؛ معنى أي شيء.

انهيار الإيمان، الإيمان بأي شيء. والسير في الحياة بدافع من الضرورة وحدها، ودون اقتناع، وبلا أمل حقيقي. وينعكس ذلك على الشخصية في صورة انحلال وسلبية، وثُمسي البطولة خرافةً وسخرية، ويستوي الخير والشر، ويُقدَّم أحدهما  - إذا قُدّم - بدافعٍ من الأنانية أو الجبن أو الانتهازية. وتموت القيم جميعًا وتنتهي الحضارة."



يبلغ الصدام بينهم ذروته في نهاية الرواية، حين يؤدي طيشهم إلى مقتل شخص في حادث سيارة، فتطالبهم المرأة الجادة بيتحمل مسؤولية تصرفهم والاعتراف به، بينما يحاولون إقناعها بأنه ليس من المنطقي التضحية بحياتهم وسعادتهم مقابل خطأ لا يمكن إصلاحه، فهذا التصرف لن يعيد الميت إلى الحياة.






في انتظار جودو

 





يقول المتفلسف الوجودي إن الإنسان مسؤول عن تحديد معنى وجوده بأفعاله واختياراته، ويؤكد لنا العدمي أنه ليس ثمة معنى لوجوده، لذا لا أهمية لأن يسعى وراء أي شيء. أما العبثي، فيحاول جاهدًا أن يعثر على معنى لوجوده، لكنه في النهاية يجد نفسه قد وصل إلى نفس الضفة التي يستلقي عليها العدمي، وهو مُرهَق من طول السباحة.


مسرحية «في انتظار جودو» لصمويل بيكيت، الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، عبارة عن حوارات مبعثرة لا تفضي إلى أي مكان، بين شخصين ينتظران جودو، الذي مهما طال انتظارهما له، لا يصل. من الحوارات العبثية فيها:



استرجون: «الفم مليء وبشرود» ألسنا مقيّدين؟

فلاديمير: لا أسمع شيئاً.

استرجون: «يلوك، يبتلع» أسأل إذا ما كنّا مقيّدين.

فلاديمير: مقيّدين!

استرجون: مقيّدين!

فلاديمير: كيف مقيّدين؟

استرجون: بأرجلنا وأقدامنا.

فلاديمير: بمن! وممن؟

استرجون: بصاحبك.

فلاديمير: بجودو! مقيّدان بجودو! يا لها من فكرة! لا أبداً «صمت». ليس بعد.

استرجون: اسمه جودو!

فلاديمير: أعتقد ذلك.

استرجون: غريب! «يرفع ما تبقى من الجزرة من طرف ورقتها الذابلة ويلوح بها أمام عينيه» غريب، كلما استزدنا منها فقدت لذتها.



يستمر الحوار هكذا طوال فصليّ المسرحية، دون أن يؤدي إلى أي تطور في الأحداث، حيث تستمر الشخصيات بالمراوحة في مكانها من بداية المسرحية حتى نهايتها، وهم على أمل بأن يصل جودو.


جودو الذي ينتظرانه يمكن أن يكون شمسًا تنتظرها أرض غطتها الثلوج شهورًا عديدة، أو مبلغًا ماليًا لشخص عاطل عن العمل حتى تمكن منه اليأس، أو إجابة على سؤال مُلِحّ من تلك الأسئلة التي تجلب الأرق، أو هو القدر الذي يحلّ بالإنسان (أو يتخلى عنه) رغم كل احتياطاته. وقد يكون بيكيت استوحى اسم "جودو" من كلمة God:



فلاديمير: هل له لحية، السيد جودو؟

الصبي: نعم يا سيدي.

فلاديمير : شقراء ... أم «يتردّد» أم سوداء.

الصبي: أعتقد أنها بيضاء يا سيدي.

«صمت»



الشيء الوحيد الثابت في هذه المسرحية هو محاولات الشخصيات العبثية انتظارها لمقابلة جودو، الذي لا يأتي رغم أنهم انتظروه في المكان والوقت المحددين، إلا أن محاولاتهم لم تؤدِّ إلى نتيجة. المسرحية بمثابة القطعة المجتزأة من حياة الأشخاص الغارقين في العبثية المثقلة بانتظار أشياء تخلّت عنهم.


يتساءل وديع سعادة في إحدى قصائده: كيف للسابح أن يصل والبحر يغرق؟