قصة أناستاسيوس الفارسي: التوأم التاريخي لسلمان الفارسي



من المؤكد أنه ليس هناك شيء مؤكد.
هيگل


القديس أناستاسيوس الفارسي



التاريخ يرويه بشر. أحيانا لا يعطينا رواة التاريخ إلا جانبا واحدا من الصورة (الحدث)، أو أجزاء مبعثرة منها، أو نسخة مختلقة لم تكن. فيكون لزاما علينا البحث عن الجانب الآخر منها, أو تأليف ما تبعثر, أو التدقيق فيما وجدناه وفحصه.


هذه محاولة للتعرف عن قرب إلى القديس أناستاسيوس الفارسي, الذي رُويت عنه الكثير من المعجزات والخوارق, وتشكلت حوله جماعة دينية Cult في أورشليم مباشرة بعد الانتصار على الفرس إلا أنها سرعان ما توارت وانقطعت أخبارها بشكل تام بعد دخول المسلمين لفلسطين عام 638م لتظهر بعد ذلك في القسطنطينية وروما. وكان له حضور واضح في المجمع المسكوني السابع (المعروف بمجمع نيقية الثاني 787م) بعد أكثر من قرن ونصف من وفاته.


منعطف أول: مَگوندَت يصير أناستاسيوس

ولد مَگوندَت Magundat في أواخر القرن السادس الميلادي في مدينة الري ببلاد فارس لأسرة مجوسية. وفي عهد كسرى الثاني شارك في محاصرة دمشق وأورشليم مع الجيش الساساني سنة 614م, والتي انتهت بالاستيلاء على صليب الصلبوت True Cross (يعتقد المسيحيون أن عيسى صلب عليه) وأخذه إلى العاصمة الساسانية قطيسفون. أثار صليب الصلبوت فضول مَگوندَت, ودفعه إلى التساؤل عن الديانة المسيحية وعن عيسى, ويُقال أنه رأى بعض الكرامات من هذا الصليب.
ثم شارك مع الجيش الساساني في حصار خلقيدونية ليقرر حينها أن يترك الجيش ويتوجه إلى مدينة منبج السورية Heirapolis مع أخيه. وفي منبج ظل يتردد على صائغ فضة فارسي مسيحي ويرافقه لأداء الصلوات.
ثم قرر أن يتعمد.
فذهب إلى أورشليم ليلتقي بالأسقف مودستوس Modestus وتعمد على يديه, واختار اسمه الجديد أناستاسيوس Anastasius في في إشارة إلى أنه سيولد من جديد بعد تعميده.
وفي عام 620م صار أناستاسيوس راهبا في دير مار سابا St Saba في بيت لحم (من أقدم الأديرة المسيحية وأهم دير يوناني, وفيه كان يوحنا الدمشقي آخر حياته, وفي التراث المسيحي اعتقاد أن آخر صلاة قبل رجوع المسيح ستكون في هذا الدير). علمه بيرس القسطنطيني Pyrrhus of Constantinople الحروف اليونانية وسفر المزامير, واستهوته أخبار القديسين والشهداء التي كان يقرأها ويسمعها بتأثر. وبعد سبع سنوات تجلى له الروح القدس في إحدى مناماته طالبا منه الذهاب إلى مدينة قيسارية Caesarea (كانت تحت سلطة الفرس آنذاك) حيث الأماكن التي مر بها المسيح ووالدته العذراء.


دير مار سابا
ذهب هناك لإحدى الكنائس, وفي أحد الأيام رأى مجموعة من العرّافين الفرس يمارسون طقوسهم بالقرب من موقع عسكري. فلم يكن منه إلا أن أنكر عليهم ضلالاتهم واستطرد يروي لهم كيف أنه كان مجوسيًا مثلهم في السابق إلى أن اهتدى لإتّباع المسيح. فما كان منهم إلا أن أوجسوا منه خيفة, وظنوه جاسوسا. فاقتيد إلى الأسر, وظل لثلاثة أيام حبيس زنزانة بلا طعام ولا شراب. إلى أن وصل المزربان (القاضي) الفارسي ليحاكمه. ونُقل إلى مدينة بيشلو Bethsaloe (تقع ضمن كركوك اليوم). وهناك تجرع من العذاب أنواعا شتى; فحملت عليه الأثقال, وكان يعلّق من يد واحدة عدة ساعات في اليوم, وكاد يموت جلدًا ثلاث مرات, وما كانوا يريدون منه إلا أن يكفر بالمسيح ولو بلسانه فقط, إلا أنه رفض وثبت. وصلت أخباره إلى جوستين Abbott Justin رئيس دير مار سابا, فأرسل إليه رفيقين مسيحيين يتفقدان أحواله. ودلّاهما عليه رجل يهودي تعرف عليه بعد أن رأى أناستاسيوس يصلي محاطا بهالة نورانية. أحد هذين المسيحيين دوّن تفاصيل وفاته.
بعد هذا العذاب الطويل قرر كسرى الثاني إعدامه مع سبعين شخص آخر في 22 يناير 628م ورميت جثثهم إلى الكلاب. إلا أن جثة أناستاسيوس وحدها لم تقربها الكلاب. دُفنت رأسه المقطوعة مع جسده في كنيسة القديس سرجيوس St Sergius في العراق القريبة من محل وفاته, وأخذ القس المرافق له رداءه الكهنوتي إلى فلسطين.
رويت الكثير من الكرامات حول القديس أناستاسيوس. فبعد إعدامه بعشر أيام انتصر هرقل على الفرس (ليعيد صليب الصلبوت في العام التالي). ويرى المسيحيون أن أناستاسيوس كان سببا في هلاك كسرى الثاني وانتهاء ملكه بعد أسابيع قليلة من إصداره أمر الإعدام.


منعطف ثان: رحلة الرفات من العراق إلى روما


بعد دفن أناستاسيوس أخذ أحد القساوسة ذخيرته Relics (رفاته وبقاياه) إلى فلسطين في عام 631م وظلت هناك حتى دخلها المسلمون فنقلها مجموعة من الرهبان المهاجرون إلى القسطنطينية عام 638م وظلت هناك إلى عام 645م إلى أن انتقلت مجددا إلى دير الينابيع الثلاثة في روما وصار يعرف لاحقا باسم دير القديسين فينسينت وأناستاسيوس Abbey of Saints Vincent And Anastasius, وحفظ جزء آخر من ذخيرته في كنيسة سكالا سانكتا Scala Sancta في روما أيضا.
وبين العامين 631م و 638م كتب جورج البيسيدي George Pisidia, شماس كنيسة آيا صوفيا, قصيدة ثنا فيها على أناستاسيوس وتلاها أمام أستاذه بيرس القسطنطيني والبطريرك سرجيوس. وبسبب ما روي عن كرامات حول ذخيرة القديس أناستاسيوس غدت مزارا للحجاج في طريقهم إلى روما. ومما يدل على شهرة أناستاسيوس العثور على فانوس منقوش عليه اسمه يعود لنهاية القرن السابع في طريق الحج في روما.
وفي عام 713م حدث ما سميّ بـ"معجزة روما", حيث كان لأحد الأساقفة السوريين ابنة ممسوسة بالأرواح, وعبر لبسها لعباءة أناستاسيوس تشافت تماما مما كان فيها. وفي عام 729م زاره ليوتبراند ملك اللومبارد وقبّل رفاته.
وفي المجمع المسكوني السابع (مجمع نيقية الثاني) عام 787م الذي كان يهدف إلى محاربة بدعة تحطيم الأيقونات, أُستشهد بأناستاسيوس لتعزيز مذهب تبجيل الأيقونات ثلاث مرات; الأول كان من قبل گرگوريوس شماس كنيسة الرسل والذي استشهد ببعض الفقرات من أعمال القديس أناستاسيوس التي تعزو تأثره بالتحول إلى المسيحية إلى أيقونات مرسومة على حوائط الكنائس في منبج. الاستشهاد الثاني كان من خلال قراءة بعض ما كتب عن المعجزات التي أحدثتها أيقونة أناستاسيوس في هداية سيدة شكاكة. والثالث كان من قبل قمص كنيسة پيتر والذي كان ممثلا للبابا في المجمع, فقد أخبر الحضور عن العثور على الأيقونة المعجزة لأناستاسيوس في روما ووُجِد معها رأس القديس.



منعطف أخير: هل صار أناستاسيوس سلمان؟


ينظر د. نادر الحمّامي في كتابه "صورة الصحابي في كتب الحديث" ص236 إلى قصة سلمان الفارسي على "أنها قصة مندرجة ضمن مشغل التبشير بمحمد من ناحية, وتجعل سلمان أحد الباحثين عن الحقيقة الدينية من ناحية ثانية, وكانت قصته العجيبة تعبيرا عن تتابع الرسالات وصولا إلى الدّين الحقّ". ويقول في ص241 : "كانت رحلة سلمان طويلة, فقد 'تداوله بضعة عشر, من رب إلى رب'. وكان من الضروري أن يضفي المسلمون على قصته قدرًا من 'المعقوليّة' فأطالوا عمره, فكان 'أهل العلم يقولون: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة, فأمّا مائتين وخمسين فلا يشكون فيه'. وقيل: 'أدرك وصيّ عيسى بن مريم, وأعطي العلم الأوّل والآخر, وقرأ الكتابين', وقيل: 'كان سلمان من المعمّرين, يقال أنه أدرك عيسى بن مريم, وقرأ الكتابين'. لقد كان التركيز كبيرًا في الأخبار على طول عمر سلمان حتّى ينسجم الأمر مع قصته.
[...]
إن الوظيفة الأساسية من وراء قصة سلمان ومسيرة بحثه عن الحقيقة هي تأكيد نبوة محمد, وربط الإسلام بدين إبراهيم, ولمّا أسندت الأخبار إلى سلمان مثل هذه الوظيفة الخطيرة كان لزامًا أن ترسم له صورة متعالية تليق بمقامه, فلم تشأ أن تنتهي قصته العجيبة إلا نهاية سعيدة."


أما المفكر يوسف الصديق فيعلّق على قصة سلمان الفارسي في كتابه "هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها" ص47 كما وردت في كتب التراث بملاحظته كيف "بدا سلمان شخصية غير واقعية ورجلا غير محدد بملامح ولا يملك اسما غير ذلك الذي ينتسب به إلى أرض فارس. إذ تشير الروايات, كل تلك الروايات ذات الصلة الوثيقة بالمؤسسة التفسيرية, ومنها ما ورد عن العسقلاني, صاحب أكثر الفهارس الموثوق بها في ذكر صحابة رسول الله, وأحد أهم شارحي المحدّث الأوّل البخاري, تشير إلى أنّ سلمان قد عاش عدّة قرون حتّى أنه قد يكون عاصر المسيح بحسب المصنّف".
ويتساءل الصدّيق عن "من تراه يكون سلمان الفارسي؟" ويجيب: "لم نعثر في كتب الأخبار والروايات التي أوردناها ما قد يقنعنا بوجود شخصية واقعية, متأصلة في تاريخ المجتمع المديني المنضوي تحت راية الإسلام والمحيط بالنبي محمد. فبقدر ما كان لسائر الصحابة حضور, وغالبا وجود حيّ, حتى عندما تقوم كتب التفسير والأخبار بتضخيم أدوارهم وسيرهم ومآثرهم في دعم الدولة الناشئة, بل وتعمد إلى إضفاء القدسية عليها, كان سلمان يبدو في نظر هذا الموروث نفسه طيفا غامضا وهلاميا".
وبعد أن بحث الصدّيق في الأرشيف البيزنطي مما نقلته الروايات المسيحية عن شخصية مطابقة تماما لما ترويه الأخبار التي تحدثت عن سلمان, وعثر على شخصية أناستاسيوس الفارسي, إلا أن الذي أثار دهشته في خاتمة بحثه: "لا يتمثل في ذلك الشبه العجيب بين مصيري هذين الرجلين رغم تباعدهما, وإنما في مجرّد هذه الجزئية اللغوية التي يتطابق فيها لفظا أناستازيوس اليوناني مع نظيره العربي سلمان. كلا الاسمين يحملان الدلالة نفسها, أي 'من خرج سالما بعد سقوطه!'".


لن أقفز إلى نتيجة حول علاقة القديس أناستاسيوس بسلمان الفارسي, سأكتفي فقط بالمقارنة بين منبع القصتين:


حياة أناستاسيوس: نقلت عن طريق الكتابة. أول من دوّن سيرة حياته هو البطريرك مودستوس (ت. 634م) Modestus of Jerusalem وكتبها عام 630م باليونانية في فلسطين بعد عامين من وفاة أناستاسيوس, وهي معنونة في أرشيف سير القديسين البيزنطي Byzantine Hagiography بعنوان BHG 84. ثم ترجمها إلى اللاتينية ونقلها إلى كانتربري في إنگلترا المطران ثيودور الطرسوسي (ت. 690م) Theodore of Tarsus تحت عنوان BHL 410b ووصلت هذه النسخة إلى المؤرخ الأنگلو-ساكسوني بيد (ت. 735م) Bede والذي قام بدوره "بتطوير" الترجمة تحت العنوانين BHL 410 و BHL 411.


حياة سلمان: نقلت مشافهة. القصة تقع في حوالي 1400  كلمة حكاها سلمان لابن عباس والذي نقلها لمحمود بن لبيد والذي نقلها لعاصم بن عمر الأنصاري والذي نقلها لابن اسحق (ت. 768م) وكان هو أول من دوّنها في كتابه "المبتدأ والمبعث والمغازي" الشهير بسيرة ابن اسحق, الذي كتبه أثناء حكم الخليفة العباسي المنصور بين العامين 754-768م.


مراجع:


  • The Latin Dossier of Anastasius the Persian: Hagiographic Translations and Transformations by Carmela Vircillo Franklin.
  • Theodore and the Passio S. Anastasii by Carmela Vircillo Franklin.
  • Has Bede’s version of the “Passio S. Anastasii” Come Down to Us in BHL 408? By Carmela Franklin & Paul Mayvaert.