قصة اللؤلؤ



الفتاة ذات القرط اللؤلؤي


نحن جميعًا، من أعلانا شأنًا إلى أقلنا مرتبة، في خدمة سيّد واحد: اللؤلؤ.
الشيخ محمد بن ثاني، ١٨٦٣م



احتل اللؤلؤ مكانة رفيعة عند شعوب العالم، فازدانت به تيجان الملوك وأجساد النساء وأروقة المعابد. ودفع تقدير البشر الفطري للجمال وشغفهم لامتلاك لآلئ براقة الكثير من الشعوب الفقيرة إلى تحمل مشقة الغوص في سبيله في الخلجان والأنهار أملّا في بيعه بأغلى الأثمان. بداية اكتشاف اللؤلؤ ربما كانت في فترة موغلة في القدم عند قبيلة تعيش على طعام البحر، حيث شكلّت القشريات الطعام اليومي لسكان السواحل والجزر حول العالم، وفي أثناء محاولة أحد أفراد هذه القبيلة لفتح محارة ليتناول ما فيها من طعام، غمرت عيناه بريق لؤلؤة كامنة داخلها واستحوذت على انتباهه. وهنا بدأت رحلة امتدت آلاف السنين في سبيل امتلاك المزيد من تلك اللآلئ الأخاذة. فهي بعكس الجواهر الثمينة الأخرى، تولد في الطبيعة مكتملة الجمال ليس لبشر فضل عليها. لهذا السبب استحقت أن تكون الأغلى ثمنًا من سائر الأحجار الكريمة الأخرى. ولطالما اقترنت اللآلئ في مخيلة الإنسان بالطهارة والنقاء والنعيم السماوي.

عرف اليونانيون اللؤلؤ منذ القدم من طريق التجار الفينيقيين، وزينوا به ثيابهم ومعابدهم حيث كان يُعد ذو قيمة أعلى من كل الأشياء الثمينة الأخرى. وأطلقوا عليه اسم مارگَريتا Margarita من كلمة مرواريد marvarit (لؤلؤ، أو ابن الضوء) الفارسية، وانتقلت هذه التسمية إلى الرومان وصارت تُستعمل بصورة رمزية للدلالة على أعزّ ما يملكه المرء؛ كالطفل المحبب مثلا، فاستُخدمت كلقب للمسيح ومريم العذراء. وربما تكون أصل لكلمة المرجان (اللؤلؤ الصغير) في العربية وانتقلت إليها من طريق كلمة مرجانيتا marganitha السريانية والتي تعني اللؤلؤ. حلَّت كلمة Pearl محل مارگريتا في الإنگليزية القديمة وفي سائر اللغات الأوروبية منذ القرن الرابع عشر. بعض فقهاء اللغة يعيدون أصل المفردة إلى كلمة beere أي ثمرة عنبية مثل التوت، والبعض الآخر يعيدها إلى كلمة پيلولا pilula اللاتينية أي جسم كروي.

بعد أن استخدم اللؤلؤ في العصور الغابرة للزينة، صار يُستخدم أيضا في مجال الطب ابتداءً من القرن الثامن الميلادي. فيُعتقد أن مسحوق اللؤلؤ يساعد على علاج ضعف البصر وعسر الهضم. وقد عولج ملك فرنسا شارل السادس من الجنون بمسحوق اللؤلؤ الممزوج بالماء المقطر. وهناك من يؤمن بارتباطها بالأجرام السماوية. كان الهندوس، بحسب كتاب أتراڤا ڤيدا الديني، يصنعون تمائم من اللؤلؤ لإطالة عمر أطفالهم، وجاء في الكتاب هذه العبارة:

"عظام الآلهة تحولت إلى لآلئ؛ حيّة، تسكن الماء. اربطها حولك من أجل الحياة، والمجد، والقوة، وطول العمر، ومن أجل حياة باقية لمئة خريف. لتحمك تميمة اللؤلؤ".

ومن تقاليد الزواج القديمة عند الهندوس تقديم لؤلؤة بكر (لم تُثقب بعد) إلى العروس لما في اللؤلؤ من رمزية للطهارة العذرية ما يجعله الأليَق لهذا المناسبة.



مصائد اللؤلؤ في الخليج العربي

أقدم الإشارات إلى ممارسة هذه المهنة نجدها على نقش يعود لأحد ملوك نينوى الذي كتب على مسلة بخطٍ مسماري يتحدث عن مياه الخليج العربي حيث مورس فيها الصيد على اللؤلؤ آلاف السنين، يقول النقش:

في بحر الرياح المتقلبّة (أي الخليج العربي)،
اصطاد تجّارُه اللؤلؤ؛
وفي البحر المجلّل بنجمة الشمال،
اصطادوا الكهرمان الأصفر

كذلك يحدثنا الأدب السومري عن أسطورة گلگامش، وهو الشخص الذي يُعتقد أنه كان ملكا حوالي ٢٦٥٠ قبل الميلاد، وفي اللوح الحادي عشر يصف لنا نزوله إلى الماء بطريقة مشابهة لما يفعله غواصو اللؤلؤ في مياه الخليج حتى القرن العشرين:

ربط بقدميه أحجارًا ثقيلة
ونزل إلى أعماق المياه حيث أبصر النبات
فأخذ النبات الذي يخز يديه
وقطع الأحجار الثقيلة من قدميه
فخرج من أعماق البحر إلى الشاطئ

واحتلت مصائد اللؤلؤ في الخليج العربي، التي تقع حول جزيرة البحرين وأمام القطيف، شهرة واسعة منذ القدم. فقد جاء ذكرها في كتابات ميجاسينس Megasthenes مرافق القائد المقدوني نيكاتور في فتوحاته الآسيوية في سنة ٣٠٧ق.م. وكتب بطليموس Ptolemy، الذي عاش في القرن الثاني للميلاد، عن مصائد اللؤلؤ في تايلوس، وهو الاسم الذي استخدمه لجزيرة البحرين. يقول بلينوس Pliny the Elder في "التاريخ الطبيعي": “لكن (اللآلئ) البالغة حدّ الكمال والأروع من جميع اللآلئ الأخرى هي التي يتم الحصول عليها من المناطق المحيطة بشبه الجزيرة العربية في الخليج العربي”. ويذكر منطقة القطيف، المقابلة لجزيرة البحرين، بكونها مركزًا لصيد اللؤلؤ. وكذلك أشار المسعودي، في القرن العاشر الميلادي، إلى هذه المصائد. وفي الجزء الأخير من القرن الثاني عشر زار هذه المواقع الرحالة الإسباني\اليهودي الحاخام بنيامين التطيلي وكتب عنها. ثم كتب عنها كذلك ابن بطوطة في القرن الرابع عشر. وفي عام ١٥٠٨ كتب لودفيكو بارثيما خلال رحلته الاستكشافية إلى جزيرة هرمز: “في خلال رحلة انطلقت من هذه الجزيرة ودامت ثلاثة أيام اصطادوا أكبر اللآلئ الموجودة في العالم”. وذكر أن عدد القوارب الصغيرة المشتغلة بالغوص تصل إلى ٣٠٠ قارب، أتت من مختلف البلدان.

في نهاية القرن السادس عشر وقعت موانئ الخليج تحت سيطرة البرتغالين، فزارها الرحالة البرتغالي لينخوتِن في ١٥٩٦ وكتب في وصفها: “إن أفضل اللآلئ المشرقية الحقيقية والرئيسة التي تتوافر في بلدان المشرق توجد بين هرمز والبصرة في المضائق، أو الخليج العربي، في الأماكن المسماة البحرين، والقطيف، وجُلفار، وكَمَرون، وغيرها من الأماكن في ما يعرف بالسيناس برسيكاس، ومن هناك تُشحن إلى هرمز”.

هناك مصائد أخرى مهمة كذلك مثل السيلان وأميركا، لكن الخليج العربي كان المصدر الأهم، فقد بلغ عدد القوارب في عام ١٨٣٨ إلى ٤٣٠٠ قارب يعمل عليها ٣٠٠٠٠ رجل. وكان غواصو اللؤلؤ يعيشون في أكواخ من سعف النخيل في البحرين ودبي وأبوظبي ورأس الخيمة. يقول الشاعر الإنگليزي إدوين آرنولد:

عزيزة هي كما الغوّاص المبلّل في عينيّ
زوجته الشاحبة الوجه، التي تنتظر على الشاطئ وتبكي،
تنتظر على رمال البحرين في الخليج العربي؛
في اللجة الزرقاء يغطس طوال النهار، وفي الليل،
دافعًا ضريبة بحثه عن لآلئ نفيسة،
ويعود لينضمّ إليها ثانية في كوخهما على الشاطئ.

عدد العاملين في مهنة الغوص في الخليج العربي ظل مستقرا إلى حد ما لزمن طويل، فهو مصدر دخل مهم للكثير سكان هذه السواحل. في ١٩٠٦ بلغ عدد العاملين على قوارب صيد اللؤلؤ في الخليج العربي ٣٥٠٠٠ شخص وهذا العدد هو الأكثر مقارنة  بمصائد اللؤلؤ الأخرى. وتأتي سيلان في المرتبة الثانية بعدد العاملين في هذه المهنة حيث بلغ عددهم في نفس العام ١٨٥٠٠.



استخراج اللؤلؤ

"المحار حيوان مثالي: تجتذب لؤلؤته الأثرياء، ويأكله الميسورون، ويستخدم الفقراء صَدفته تحفة جميلة لإطفاء سجائرهم".
فيليپ گيلوك

يبدأ الغواص عمله بعد أن يفرغ من صلاة الفجر ليتناول فطورا خفيفا من التمر أو الأرز والقهوة. ثم يتجرد من ثيابه إلا من إزار يستر العورة، ويلبس قفازا من جلد يحمي به أصابعه من نتوءات الصخور والأصداف الحادة، ثم يضع حجرا يشد قدميه إلى الأسفل ليقلل الجهد اللازم لبلوغ القاع. ولكل غواص شخص يعاونه على القارب (السيب) يتولى أمر الحبل الذي يشد به الغواص للأعلى وكذلك السلة (الدن) التي يجمع فيها الأصداف. تتكرر عملية الغطس في اليوم من ثلاثين إلى أربعين مرة وكل غطسة تستغرق ستين ثانية أو أكثر من ذلك أحيانا، ويتوقف من خمس إلى ست دقائق مابين كل غطسة والتي تليها.  يستمر العمل إلى ما قبل الظهيرة حيث يتوقف الغواص لتناول القهوة والصلاة ثم قيلولة تمتد ساعة من الزمن، ثم يعاود الغوص. وفي نهاية اليوم يتناول وجبة من التمر والسمك المشوي.

بعد ذلك يُفرّق ما جمعه من محار، فهو بسبب سرعته قد يجمع مع المحار الصخور كذلك. تُفتح الأصداف بحثًا عن اللؤلؤ الذي يستخرجه بعناية حتى لا يتسبب في جرحه ويلبس قفازا كي لا تنزلق من كفيه المبللتين بالعرق وتُخدش. غالبا ما تكون اللؤلؤة بحالة جيدة، متقنة التكوين، كاملة، وبديعة، وكل ما يلزم عمله مسحها بخرقة رطبة أو بمسحوق اللؤلؤ. وإن وُجِدَت تشوهات فتُزال بالتقشير وهو ما تحتاجه قلة من اللآلئ. ثم تُثقب لتشك في في عقد أو مسبحة. ويحب سكان الخليج العربي تسمية بناتهم بأسماء اللؤلؤ مثل دانة، وحصّة، وقماشة، ودرة، ولولوة.

يتعرض الغواص إلى مخاطر كثيرة أثناء مزاولة الغوص، وهو معرض بعدها إلى الأمراض مثل فقدان السمع أو البصر. يقول عبدالعزيز الرشيد في "تاريخ الكويت":
"في البحر هوام كثيرة وأسماك مؤذية فمنها (الجرجور) و (اللخمة) و (الدجاجة) و (الرماي) و (الدول) أما الرماي فله شوك غليظ ومن الغريب أنه إذا أصاب أحدًا بشوكه فحك المضروب الموضع بشعر رأسه سكن الألم وأما الدجاجة فما هي إلا سمكة لها شوك مسموم سميت بذلك لأن صوتها يشبه صوت الدجاجة. وإذا شوهدت سابحة في البحر ناشرة جناحيها يخالها الرائي كالدجاجة البرية وليست هي دجاجة حقيقية كما يتبادر  إلى ذهن البعض. وأما الدول فهو أبيض لا يعرف رأسه من ذنبه كأنه قطعة شحم غير أنه أصفى منه وهو لين جدًا إلا أنه يحرق بلسعه فكأنه المعني بقول الشاعر:
لا  يغرنك  لين  من  فتى إن  للحية  لينا  يعتزل
يستعمل الغواصون لذلك حيلًا عديدة فمنهم من إذا أبصر (الجرجور) التصق بالأرض فإن لم يره وذهب خرج مسرعًا وإلا بقي في مكانه إلى أن يبتعد عنه، فإن خشي انقطاع نفسه قبل ابتعاده خرج مضطرًا وأخذ معه عدة أحجار فإذا ما تبعه رمى له حجرًا ليشغله به حيث يظنه فريسة وهكذا إلى أن ينجو منه إن قدِّر له ذلك، ومنهم من يثير تراب الأرض ليختفي فيه ومنهم من إذا نجا صاح صياحًا عاليًا ليعلم من في البحر من أصحابه بوجود ما يخشى منه وهم قد علموا أن ذلك لا يكون إلا لوجود خطر".

بالحديث عن الغاصة لا يفوتني أن أُشير، بإيجاز، إلى التأثير الاجتماعي لحرفة اللؤلؤ على سكان سواحل الخليج. ففي الكويت مثلا تُقسِّم العائلات نفسها إلى أصيلة وأخرى بيسرية، ويترتب على هذه القسمة الزيجات التي تلتزم بعض العائلات بالتزاوج منها دون غيرها. ويسود الاعتقاد أن هذا التقسيم يعود إلى عادات عربية غابرة مرتبطة بأهمية النسب عند أبناء تلك المجتمعات العربية. إلا أن الدكتور محمد الرميحي، في كتابه "البترول والتغير الاجتماعي"، يخبرنا عن سبب آخر لنشوء هذا التقسيم، وهو سبب مرتبط بطبيعة اقتصاد إمارات الساحل الخليجي المعتمدة على تجارة اللؤلؤ أكثر من أي سبب آخر.
يقول الرميحي: "ونحن نعتقد أنّ موضوع <الأصيل> و<البيسري> هو في الحقيقية فرق اقتصادي أكثر منه معيارًا اجتماعيًا.
ودليلنا على ذلك أنّ هناك أُسرًا وعائلات كانت تُعتبر في مجتمعها الأصلي عائلات أصيلة وعندما غادرت مجتمعها الخليجي إلى مجتمع خليجي آخر بالطبع فقدت الثروة أو الجاه، وبالتالي أُدرجت في مجمل العائلات أو الأسر غير الأصيلة، (البيسرية)، في المجتمع الجديد. وكذلك العكس فإنّ هناك أسرًا كان يُنظر إليها في مجتمعها على أنها بيسريّة تبوّأت في المجتمع الجديد شيئًا من الجاه بعد أن أصابت شيئًا من الثروة فتحوّلت إلى <أصيلة> عن طريق تناسبها مع عائلات تُعرف بأنها كذلك في المجتمع".

فهناك طريقتين لتمويل رحلات الغوص. الأولى تُعرف بالخماميس، والتي لا يستلم الغاصة، وكل من يعمل في السفينة، على الأجر إلا في نهاية الرحلة. يأخذ النوخذا (القبطان) خُمس الأرباح وتتوزع البقية على العاملين في السفينة. وفي حال كان المردود من اللؤلؤ قليلا يخرج الغواص بعد تعب الشهور الطويلة بأقل القليل، بما لا يتناسب مع المشقة ولا يكاد يقيم أوده.
النوع الأخر من التمويل، وهو الأسوأ اجتماعيًا، يُعرف بالسَلْفيَة. فقبل بدء موسم الغوص يحصل الغواص على سلفية (دَين) من النوخذا أو الطواش (تاجر اللؤلؤ) ويستخدمها في الحصول على احتياجاته هو وعائلته، ثم يدخل الغوص. وإن لم يكن المردود من اللؤلؤ كافيا، يترحل الدين إلى العام الذي يليه، ثم الذي بعده وهكذا حتى يتراكم عليه بحيث لا يستطيع سداده. فقد يضطر إلى بيع منزله للنوخذا أو يصير خادما له، وفي حال وفاته قد يشترط النوخذا على زوجة الغواص الزواج منه لسد الدين فينتهي بها المطاف خادمة له ولأهل بيته.

يقول الرميحي: "ونظرًا لطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في مجتمع الغوص القديم في الخليج فقد وجدنا أنَّ الروابط العائلية، خاصة في العائلة الممتدة، تزداد ترابطًا لتحقيق وضع اقتصادي أفضل. فترى العائلات تدخل في هذه الصناعة بشكل جماعي. فرب العائلة يملك السفينة أو عدّة سفن يستخدمها للغوص على اللؤلؤ والأخوة والأبناء وأبناء العمومة والأخوال يعملون جماعيًا على ظهر هذه السفينة أو السفن التي تمتلكها العائلة، وقد يقوم بمساعدتهم  بعض الأجراء من الخارج أو بعض العبيد الذين يتبعون العائلة. وهذا النظام الاقتصادي من حيث أنه يقوي الارتباط العائلي من جهة، حيث يعتمد بعضهم على بعض اقتصاديًا، إلا أنه في نفس الوقت يدعم السلطة المطلقة؛ فربُّ العائلة أو كبيرها يستحوذ على كل أو معظم المردود الاقتصادي من عمل مجموع هؤلاء الأفراد، ويترك للباقي، (الأخوة وأبناء الأخوة والأقارب والعاملين معه)، ما يقيم أودهم وأسرهم فقط، ويبقى هو وأبناؤه في الغالب مالكين لوسائل الإنتاج، (السّفن)، أو يستخدم الفائض لصالحه وأبنائه. بالتالي إننا نرى شبكة العلاقات متنافرة ومرتبطة في آنٍ واحد. تنفر من سلوك رب الأسرة، إلا أنها مضطرة للخضوع وقبول هذا السلوك نتيجة لعدم القدرة على إيجاد وسيلة عمل أخرى، أو التّخوف من الوقوع في مشكلة اقتصادية أسوأ.
هذا الوضع هو الذي أفرز في مجتمع الخليج العائلات الممتدة مثل الرومي والمضف في الكويت، ومثل الزياني في البحرين والمناعي في قطرإلخ، ومئات العائلات البحرية والممتدة من أمثالهم في الخليج بشكل عام".



كيف تتكون اللؤلؤة؟

jewelmer.com
ساد الاعتقاد لفترة طويلة من الزمن بأن اللؤلؤ يتشكل من قطرات الندى أو المطر التي تلج إلى المحارة حين ترتفع إلى السطح لتتنفس، فتتحول القطرة إلى لؤلؤة. استمرت هذه النظرية منذ القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن الخامس عشر ـ بل واستمرت لما بعد ذلك، فقد نُقشت صورة محارة مفتوحة الصدفتين تتلقى قطرات من الندى على ميدالية إيطالية ضُربت في ١٦٨٤ على شرف إلينا بيسكوبيا وكُتب أسفل الميدالية “بحقّ الندى المقدس”. ووجِدَت آراء أخرى عند بعض الشعوب؛ فالصينيين اعتقدوا أنها تنشأ في دماغ التنين، وبعض الحاخامات اليهود اعتقدوا أنها تتشكل داخل بطون الأسماك.


اليوم نملك فهما أفضل لكيفية تشكل اللؤلؤ داخل المحارة؛ اللؤلؤة هي جسم صلب لامع، يتولد داخل نسيج ناعم في صدفة حيوان رخوي. حين يدخل جسيم صغير داخل المحارة، أثناء فتح الصدفتين للتنفس أو الغذاء، يفرز الحيوان الرخوي مادة تحيط بهذا الجسم وتعزله. يفرز هذه المادة بشكل طبقات دائرية، وهي نفس المادة المكونة للصدفة (كربونات الكالسيوم، مكوّن الأساسي للرخام) لهذا السبب يتغير لون اللؤلؤة حسب لون الصدفة فهناك لآلئ بيضاء وصفراء وخضراء وسوداء وأرجوانية. وكلما كانت هذه الطبقات، من كربونات الكالسيوم، أرق صار بريق اللؤلؤة أجمل. وبسبب تكونها من هذه المادة فهي قابلة للذوبان في الخل. ويكون شكلها المثالي كروي وأملس، لكنها تتخذ أشكال عديدة غير كروية تسمى لؤلؤ باروكي ويطلق عليها أهل الخليج اسم بدلة.


كساد تجارة اللؤلؤ في الخليج العربي

القيمة المرتفعة للّؤلؤ أغرت كثيرا في محاولة استزراعه منذ أمد بعيد جدّا. فقد روى فيلوستراتوس قصة شاعت في القرن الثالث الميلادي عن سكان سواحل البحر الأحمر ومعرفتهم كيفية استزراع اللؤلؤ. ذكر أن زُرَّاع اللؤلؤ يصبون الزيت الحار على سطح البحر، في سبيل تهدئة أمواجه، ثم يغوصون إلى المحار ويفتحون أصدافها ويوخزون اللحم بداخلها بآلة حادة حتى يخرج منها سائل يجمعونه في قوالب كروية وبعد حين يتصلب ويصير لؤلؤة. في القصة شيء من المبالغة، إلا أنها تثبت لنا أن محاولة استزراع اللؤلؤ وجِدَت منذ زمن بعيد.
الصينيون لهم سبق المحاولة في الكثير من الاكتشافات العلمية. ففي مجال استزراع اللؤلؤ بدأت المحاولات الصينية من القرن الرابع عشر. وهناك محاولات أخرى في أوروبا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر حظيت ببعض النجاحات.

ملكة جمال الكون ترتدي تاج ميكيموتو

أما في اليابان فيعود الفضل إلى ازدهار زراعة اللؤلؤ التجاري إلى كوكيشي ميكيموتو، الذي ابتدأ شغفه باللؤلؤ حينما كان في سن الثالثة عشر، يبيع الخضروات عند شاطئ مدينة إيسه ويرقب صيادي اللؤلؤ وهم يحملون غنائمهم من البحر. حين بلغ العشرين من عمره صار حَكَمًا في معرض للّؤلؤ، ولاحظ حينها أن الكثير من اللآلئ تتخذ أشكالًا غير متقنة. ومنذ ذلك الحين حمل على عاتقه مهمة إيجاد وسيلة لإنتاج لآلئ متقنة. كان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر حين كان الطلب على اللؤلؤ يفوق كثيرا ما هو معروض. استأجر ميكيموتو نحو ألف فدان في خليج آغو. في البداية لم تكن جودة اللؤلؤ مناسبة كفاية لتنافس اللؤلؤ الطبيعي. وتجاربه الأولى لم تفلح، استدان أموالًا كثيرة ولم تكن النتائج مجدية. لكن ميكيموتو كان يتمتع بإصرار عالٍ صار بسببه إمبراطور اللؤلؤ بعد سنوات من بداياته الفاشلة. حقق نجاحه الأول  في عام ١٨٩٣ حين نجح بإنتاج أنصاف اللآلئ وحصل على براءة اختراع. وفي ١٨٩٨ بلغت جودة اللآلئ التي أنتجها مرتبة عالية، ففتح متجرًا في طوكيو يستقطب من خلاله الأجانب الذين اكتشفوا هذا النوع من اللآلئ لأول مرة. وفي لندن، أثناء تتويج إدوارد السابع ملكًا على بريطانيا، كان أحد الأمراء اليابانيين حاضرًا وأهدى الملك الجديد عيّنات من للآلئ ميكيموتو.
 استولت تلك اللآلئ على قلوب الناس في كل أرجاء العالم، وحصلت على أكثر من جائزة في المعارض الدولية. في ١٩٠٤ نشرت صحيفة "نيويورك هيرالد" مقالًا حول استزراع اللؤلؤ في اليابان، وتلك السنة يمكننا أن نعدّها الانطلاقة الحقيقية لـ اللؤلؤ الياباني التجاري، حيث أنتجت مزرعة ميكيموتو ٢٤٠٠٠ نصف لؤلؤة. توسع أكثر في عام ١٩٠٨ بفتح مزرعة جديدة يستزرع فيها عشرة آلاف محارة، وافتتح متاجر له في لندن وباريس ونيويورك وشيكاگو وبومباي.
وبعد سنوات قليلة، في ١٩١٦، حصلت نقلة أخرى بنجاحه في زراعة اللآلئ كاملة الاستدارة. وبفضل جهوده ومثابرته تربعت اليابان على عرش اللؤلؤ لعقود، وحاول اليابانيون قدر الإمكان الحفاظ على سر مهنتهم لأنفسهم من خلال الاقتصار على توظيف اليابانيين حتى في مزارع اللؤلؤ التي تقع في الفلبين وأستراليا وبولينيزيا.


في الخليج العربي، بدأت تجارة اللؤلؤ تتقلص منذ الربع الأول من القرن العشرين. حيث نضجت تجارب اللؤلؤ الياباني المستزرع وصارت جودتها تقارب جودة اللؤلؤ الطبيعي ما دفع باليابانيين إلى إغراق السوق بها. تبع ذلك أزمة اقتصادية شديدة في الولايات المتحدة ابتدأت سنة ١٩٢٩ واستمرت لعقد من الزمن، تأثر بها الاقتصاد العالمي وتراجع الإقبال على شراء المجوهرات. وجاءت الحرب العالمية الثانية لتؤثر على التبادل التجاري الدولي، وحالما انتهت صارت تجارة اللؤلؤ غير مربحة.

في البحرين، بلغت أعداد مراكب صيد اللؤلؤ سنة ١٩١٧ قرابة ٩٠٠ مركب، ثم تقلصت إلى ٥٠٠ مركب سنة ١٩٢٧، ثم وصلت إلى ٢٠٠ مركب في ١٩٤٠، حتى بلغت ١٠٠ مركب سنة ١٩٥٠.

في الكويت، قرر المجلس البلدي سنة ٢٠٠٠، إغلاق سوق المحار، لينهي بهذا القرار الاتجار باللؤلؤ الذي استمر طوال ٧٠٠٠ سنة في المنطقة. 



مراجع:
كتاب اللؤلؤ: التاريخ، الفن، العلم، الصناعة، تأليف جورج كونز وتشارلز ستيفنسون
اللؤلؤ، تأليف هوبير باري وديفيد لام
البترول والتغيّر الاجتماعي، تأليف محمد الرميحي
تاريخ الكويت، تأليف عبدالعزيز الرشيد