عالم هاروكي موراكامي


هاروكي موراكامي


عالم هاروكي موراكامي
بقلم: جيتا
ترجمة: علي الصباح

غلبني النعاس في إحدى الليالي حين كنت أقرأ رواية «بلاد العجائب القاسية ونهاية العالم» لهاروكي موراكامي، ثم حلمت بحيوانات ذهبية أحادية القرن. الآن، وأنا أستحضر ما حدث في تلك اللحظة، لست واثقة أين انتهت قراءتي وأين ابتدأ حلمي. نعم، تتسم كتبه بهذا القدر من السحر. تأخذ القراء في رحلة مخدرة دون أي مخدرات سوى كلماته.
الكاتب المحبوب كيرت ڤونيگت يأخذ قراءه في رحلات مخدرة أيضًا؛ ولكن جانبًا كبيرًا من تلك الرحلات هو مزيج من تجربة اجتماعية أكثر منها شخصيّة. يتلاعب ڤونيگت في عقول القراء من طريق تضبيب بعض الخطوط بين الخيال وقصة حياته الشخصية. موراكامي أيضًا، يضبب الحدود الفاصلة بين الأحلام والواقع.
ما زال أمامي درب طويل قبل أن أنتهي من قراءة كلّ الكتب الّتي كتبها هذا الكاتب الياباني المحبوب، هاروكي موراكامي. يصعب ألّا تهتز بعد قراءة ولو شيءٍ يسير من كتبه. أنا لست خبيرة ولا بأي أسلوب من الأساليب مطّلعة بما يكفي على الأدب الحديث. أنا أكتب عن الكيفية الّتي أثرت فيّ كتبه، والكيفية الّتي أدرك بها العالم على وجهٍ صُوِّر بوضوح في كتبه فحسب. ألف كتبًا أدبية وغير أدبية؛ ولكن هنا سأتعامل مع كتبه الأدبية فقط.
وُلد هاروكي موراكامي في مدينة كيوتو في اليابان عام ١٩٤٩. درس كِلا والديه الأدب الياباني؛ لذلك يبدو طبيعيا أن يقرأ موراكامي كثيرًا من الأدب في أثناء نشأته. نشأ قارئًا نهمًا لكنه يقرأ الأدب الغربي أكثر بكثير من الياباني. ليس الأدب فحسب، هو متأثر بشدة بالثقافة الغربية بوجهٍ عام.
لم يكن مكترثا بالتعليم التقليدي كثيرا. تزوج صغيرًا، وفتح حانة للجاز قبل أن ينهي دراسته الجامعية. في عام ١٩٧٨ صار كاتبا متفرغا بعد مشاهدته لمباراة بيسبول كما هو مشهور عنه.
رواية «الغابة النروجية» جعلته ظاهرة عالمية. يُبجل عالميًّا لأسلوبه الفريد في الكتابة. في الحقيقة، أحيانًا يُنتقد في موطنه اليابان لأنه يكتب بأسلوب غير ياباني. ربما هذا هو سبب جاذبيته العالمية. جانب آخر من جاذبيته العالمية هو: تحليله المجهري للأفراد.
هو مقتصد بشدة في استخدام الكلمات؛ مع ذلك يمكن لتلك الكلمات أن ترسم صورًا واضحة، ويمكنها أن تعبّر عن عواطف الشّخصيّات بخبرة جرّاح محنّك. هذا يجعل أعماله سهلة القراءة عالميا ويسهّل الارتباط معها.
اكتشفت موراكامي مصادفةَ حين كنت أنظر إلى قائمة كتب ذات أغلفة مميزة في مدونة أدبية. العنوان «كافكا على الشاطئ» جذبني كوني من محبي فرانز كافكا. تمنيت لو أني تعرفت إليه في وقت سابق، في بداية عشرينياتي حين يشعر المرء بالانعزال تماما مثل شخصيات عالم موراكامي. أنا في مهمة دؤوبة لإنهاء كل أعماله لأعوض معرفتي المتأخرة به. هو كاتب نشط لذلك مهما قرأت له أكثر هناك المزيد الّذي عليّ قراءته. إنه مزيج من التعب والترقب اللذيذين في آن.
يُصَنَّف أسلوب كتابته على أنه واقعية سحرية؛ لأنه يصف عناصر من السحر أو السريالية دون الحاجة إلى ابتكار عالم متخيّل مثل الأرض الوسطى Middle-Earth أو ويستيروزWesteros . تتجذر الواقعية السحرية في فكرة أن عالمنا يمكن أن يكون مليئا بالسحر والغموض. يجب التنبيه هنا أن الجريمة والقتل ليسا النمطان الوحيدان من الغموض. نحن نعيش في عالم يتكون من طبقات تلو طبقات من الغموض. أغلب كتب موراكامي هي رحلة للكشف عن الغموض. أحيانًا؛ تكمن أعظم الألغاز في عقول الشّخصيّات.
شخصياته بوجهٍ عام في عمر صغير مع بعض الاستثناءات مثل: سوكورو تَزاكي من رواية «سوكورو تَزاكي عديم اللون وسنوات حجه». هم مثل أكثر الناس، وحيدون ومثقلون بالحزن. بطريقة ما هم منعزلون أيضًا لأنهم بوجهٍ عام انطوائيون. هم أشبه بجزر فردية؛ ولكن لا يمكن لأي شخص أن يصير جزيرة.


ليس هناك إنسان يعيش كجزيرة. ~ «نهاية يوميات طائر».


كجزر طافية، شخصيات عالم موراكامي في حالة بحث دؤوب عن مرساة أو يابسة يرتبطون بها.


لماذا يجب على البشر أن يكونوا بهذه الوحدة؟ ما الهدف من هذا كله؟ ملايين البشر في هذا العالم، كلهم في توق، ينتظرون من الآخرين أن يرضوهم، مع هذا ينعزلون بأنفسهم. لماذا؟ هل وُجِدَت الأرض لتعزز وحدة البشر فسحب؟ ~ «سبوتنك الحبيبة».


هؤلاء الشّخصيّات الوحدانية أو الجزر الطافية، إلى أن يصلوا إلى وجهتهم، يجب عليهم أن يعيشوا بعيدا عن العالم أو على حافة هذا العالم. يحاولون باستمرار حل لغز هذا العالم والعالم الّذي يقع خلف حافته. الحافة قد تكون نفقًا أو بئرًا أو صورة.
تعيش الشّخصيّات الرّئيسة حياة متقشفة بأقل الممتلكات الممكنة من العالم، وهذا الكم القليل من الممتلكات يتضمن دائما كتبًا، وموسيقى، وأحيانًا أفلامًا. من يمكنه أن ينسى مجموعة الكتب والموسيقى في كوخ أوشيما في رواية «كافكا على الشاطئ»؟!
حياتهم تتمحور حول الموسيقى والكلمات. يمكن للقراء أن يَلِجوا إلى عقول الشّخصيّات من طريق الموسيقى الّتي يسمعونها أو الكتب الّتي يقرؤونها.
كثيرًا من أسماء كتبه\شخصياته مقتبسة من موضوعات مرتبطة بالأغاني أو الكتب، مثل: «الغابة النروجية» أو سوماير -بنفسجي باليابانية- في «سبوتنك الحبيبة».


بحسب والدها، والدتها اختارت اسم (سوماير). أحبت مقطوعة لموزارت تحمل الاسم نفسه، وقررت منذ وقت طويل بأنها إذا ما وضعت طفلة سيكون هذا اسمها. ~ «سبوتنك الحبيبة».


ثم هناك موسيقى تساعد على صنع المعكرونة، حرفيا.


حين رن الهاتف كنتُ في المطبخ، أغلي وعاء مليئًا بالسباگيتي وأُصَفّر في حين أستمع إلى بداية مقطوعة The Thieving Magpie   لروسيني من إذاعة الأف أم، التي تُعَد الموسيقى الأنسب لطهي المعكرونة. ~ «نهاية يوميات طائر».


باستخدام معرفته الواسعة في الموسيقى والكتب، يملأ موراكامي نسيج رواياته بمختلف المقطوعات الموسيقية والكتب. لكل رواية مقطوعة موسيقية واحدة وكتاب\كاتب واحد كفكرة رئيسة ومساعدة على ضبط الموضوع المخصص لذلك الكتاب.
بوجهٍ عام، في كتبه هناك بعض الأفكار الرّئيسة الّتي قد تكون اقتباسًا، أو كتابًا، أو موضوعًا، أو مقطوعة موسيقية، وهكذا. هذه الأفكار الرّئيسة تُستخدم مرارًا وتكرارًا في الكتاب للتشديد على نقطة، ولإيجاد جو عام؛ لتوضيح ما لا يقبل التوضيح، أو لإضفاء بُعد روحاني على الأحداث. على سبيل المثال في كتاب «سوكورو تَزاكي عديم اللون وسنوات حجه» اُستخدم الاقتباس الآتي كموضوع:


Credit: Alexander Mostov
«يمكنك إخفاء الذكريات، كبتها، لكنك لا تستطيع أن تمحي التاريخ الّذي أنشأها». ~ «سوكورو تَزاكي عديم اللون وسنوات حجه».


في «1Q84» اُستخدم اقتباس أنتوني چيكوڤ عن المسدس كفكرة رئيسة:


حين يظهر المسدس في قصة، يجب أن يُستخدم.  ~«1Q84» .
الحديث عن الكتب في عالم موراكامي لا يمكن أن يكتمل دون التطرق إلى أعمق شيء تعلمته عن الكتب من ناگاساوا في «الغابة النروجية».


«ليس الأمر أنني لا أؤمن بالأدب الحديث»، أضاف، «لكني لا أريد تضييع وقت ثمين بقراءة أي كتاب لم يعمده الوقت. الحياة جدًّا قصيرة». ~ «الغابة النروجية».


هذه هي الوصية العليا لقراءاتي الآن.
خلافا لشخص آخر أعرفه، شخصيات موراكامي ليست دودة كتب قابعة على كرسيها. يمارسون الرياضة على وجهٍ منتظم ليحافظوا على أبدانهم رشيقة. التمارين نادرا ما تكون تفاعلية كلعب مباراة. هم بوجهٍ عام يمارسون رياضات فردية، مثل: السباحة، والركض، ...إلخ. بالطّريقة نفسها الّتي يقضون بها حياتهم، فرادى.
إضافةً إلى التمارين الرياضية، هم دقيقون فيما يتناولونه: التسوق للمحتويات، والطبخ، وشرب الماء، هي أجزاء مهمة من كتبه. هذه الخصلة لدى الشّخصيّات تأخذنا نحن القراء العاشقون للأكل إلى العالم المبهج للمطبخ الياباني ولا نستطيع إلا أن نرغب في بعض من شوربة الميسو، والسوشي، والسمك مع الرز في أثناء قراءتنا للرواية. هناك ظهور يسير لبعض الأطعمة غير اليابانية، مثل: المعكرونة.
الشّخصيّات الوحدانية ليست وحيدة بالمطلق بالتّأكيد. هناك بعض الشّخصيّات المساندة.
من بين الشّخصيّات المساندة القطط الموجودة في كل مكان. أحيانًا قطة ضالة تأخذ بزمام الأمور، أحيانًا رجل يستطيع أن يفهم كلام القطط، أحيانًا يتداعى عالمهم بسبب قطة مفقودة، وأحيانًا تأكل القطط بعض الأرواح الوحدانية.
أحيانًا يكون لديهم صديق أو صديقان قريبان ولكن خصوصية كل طرف تُحترم بوجهٍ عام. «الغابة النروجية» و «سوكورو تَزاكي عديم اللون وسنوات حجه» هما روايتان يؤدّي فيهما الأصدقاء أدوارا مهمة في حياة الشّخصيّات الرّئيسة.
للشخصيات عائلة أيضًا. أحيانًا يكونون في هرب من عائلتهم وفي أحيان أخرى يكون أفراد العائلة كالمخلوقات الفضائية في خلفية الأحداث، يعيشون على كوكب آخر. في «نهاية يوميات طائر» العائلة كانت مهمة جدا من ناحية الأزواج، الأخوان، والتأثير بين الأم والابن في هالة كل واحد منهما وفي حياته بوجهٍ عام.
ثم هناك حب. حبهم ليس بالمفهوم المعاصر بأن (يكونا معًا)، يقعون في حب يسحق الروح. أحيانًا يعبرون العوالم ليلتقوا بتوأم روحهم، وأحيانًا الحب يعتقهم، وأحيانًا يكون الحب مجرد تدمير.


الحب الشديد، إعصار متقلب يكتسح السهول -يسطّح كل شيء في طريقه، يرمي بالأشياء عاليًا في الهواء، يمزقهم إربًا، يطحنهم كالفتات. ~ «سبوتنك الحبيبة».


مع هذا النوع من المشاعر الحادة والتوق للبعد، شخصيات موراكامي الأشبه بالنساك أيضًا يمارسون الجنس ولهم شهواتهم؛ ولكن نضع في الاعتبار أن هذا هو عالم موراكامي الجنسي؛ لذلك يكون أحيانًا تجريبيا، وأحيانًا سرياليا، وأحيانًا مجرد مجاز.


في ذلك الوقت، في خيالاتي -شيء أشبه بعالم الأحلام الّذي كتبت عنه سوماير- مارست الحب معها. والإحساس كان أكثر واقعية من أي جنس مارسته من قبل. ~ «سبوتنك الحبيبة».


الشهوة الجنسية الرّئيسة تبدو أنها شكل الآذان. كل ذكر يلاحظ آذان الإناث لأن هذا هو عامل الانجذاب الرئيس. ووصف الآذان دائما واضح. بحسب أحد الشّخصيّات، يمكن لعظمة داخل الأذن أن تحدد التوجه الجنسي للشخص.
الأشخاص في عالم موراكامي وحيدون ومنعزلون ولكنهم ليسوا معتلون اجتماعيا. يمكنهم إجراء محادثات صادقة دون جهد مع أشخاص يُشبهونهم أو في الأقل مع مستمع متعاطف أو أحيانًا مع غريب. مثل كتب ميلان كونديرا، الحوارات هي العمود الفقري لكتب موراكامي؛ في حين تكون حوارات كونديرا أكثر بين الكاتب والقارئ، حوارات موراكامي دائما بين الشّخصيّات.
شخصيات موراكامي لا تجري حوارات صغيرة عبثية. ليس في عالم موراكامي مكان للثرثرة أو لحوارات «كيف حالك» السطحية. حواراتهم عميقة عن الموسيقى، والكتب، والأحلام، والأفكار. يمكن للأحلام والأفكار أن تكون سخيفة أو سريالية؛ ولكنها لهم أحد الإمكانيات. إذا تحدث المتحدث بوجهٍ حاد يسمع إليه المستمع بإخلاص. ليس ثمة تحديق في هواتفهم أو تشاغل بها. يصقل موراكامي بوجهٍ مثالي الفن الضائع للمحادثات على وجهٍ كبير لدرجة أن القراء يتوقون إلى تلك الأوقات المفقودة بمشاعر عميقة من الحنين؛ مع أن أغلبهم قد لم يخبروها في حياتهم قط.
لكن الشّخصيّات المنعزلة بوجهٍ تام لا تشكل كل العالم. أي عالم، بما فيه عالم موراكامي، لن يكتمل دون أشرار؛ ولكن الأشرار في عالم موراكامي يستترون في الخلفية وفي الارتجاع الفني flashback أحيانًا الحياة نفسها تكون أعظم شرير على الإطلاق.
بعيدا عن المنعزلون والأشرار هناك صنف آخر من الشّخصيّات في كتبه: الشّخصيّات الّتي تكون صَدَفة خاوية؛ جراء حوادث وقعت في ماضيهم، فقدوا جوهرهم وغدوا مجرد جسد أجوف. قلوبهم ليست محطمة. ليس الأمر أنهم فقدوا أرواحهم لأنهم لم يتحولوا إلى أشرار، هم انقطعوا عن الحياة الّتي هم بالكاد فيها فحسب، مثل: ناكاتا والسيدة سايكي من «كافكا على الشاطئ» أو ميو من «سبوتنك الحبيبة».
ليس الجنس وحده مجازي في عالم موراكامي، المجازات في كل مكان في كتبه. تتحقق التّخمينات تحقّقًا مجازيًّا. تُشاهد الأحلام مجازا، وتحدث الوفيات والولادات مجازا في عالمه. أحيانًا الحدود الفاصلة بين المجاز والواقع تتضاءل مثل: حادثة حمل أومامي في «1Q84».

Source: hireanillustrator.com
بالنظر إلى الشّخصيّات يمكننا أن نلاحظ أن موراكامي أعطاهم امتدادا من شخصيته. الجميع يعرف حب موراكامي لسباقات الماراثون وحبه الأخير للترياتلون triathlon في الحقيقة هو ألّف كتابا عن الجري تحت عنوان «ما الّذي أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري». هو يعشق الموسيقى، وعلى الأخص موسيقى الجاز، وافتتح حانة للجاز. هو قارئ نهم؛ مع أنه كاتب مشهور، يعيش بعيدا عن الأضواء ونادرا ما يُجري مقابلات. تركه للدراسة الجامعية ليفتتح بارا يُظهر أنه ناقد لطريقة التعليم الرسمي بما في ذلك سياسات الجامعة. يمكننا أن نلحظ ذلك في كتبه، وقراره بأن يصبح كاتبا في أثناء مشاهدته لمباراة بيسبول، إلى أي حد من السريالية يمكن أن يبلغ ذلك! تجربة سريالية أخرى في حياته هي حين كان صبيا صغيرا سقط في بئر جافة ما أثّر في تفكيره لاحقا. استخدم هذه الفكرة في رواية «يوميات نهاية طائر» عبر تأمل تورو أوكادا في بئر جافة.
موراكامي هو رجل الكلمات القليلة، وهنا تكمن موهبته ككاتب. لا يثخن كتبه بتفاصيل غير ضرورية؛ مع ذلك لا يمكن القول إن كتبه خالية من التفاصيل. لديه أسلوبه الخاص. نادرا ما يصف الأشياء بالطريقة الّتي يفعلها أغلب الكتاب الآخرون. مع ذلك هو يصف بوضوح، عوضا عن أن يشرح، مشاعر الشّخصيّات. البيئة المحيطة توصف كامتداد للشخصية في كتبه. كأنك تشاهد الكتاب عوضا عن أن تقرأه. الصور الذهنية لتعابيره التصويرية تبقى مع القارئ مدة طويلة بعد أن ينتهي من الكتاب. لن أنسى بسهولة رحلة تورو واتانابي ليصل إلى ناوكو في مأواها. كان أشبه ببيئة كاملة ومناظر طبيعية تعكس الاكتئاب والمزاج النافر للشخصيات.


شعرتُ كما لو أنني ابتلعت سماءً ملبدة بالغيوم. ~ «سبوتنك الحبيبة».


كما ذكرت سلفًا، كتبه مليئة بالإحالات المتكررة أو الأفكار الرّئيسة من الكتب والموسيقى. يوظف عناصر من الطبيعة، مثل: القمر والماء، ...إلخ، كأفكار رئيسة أيضًا. ثم هنالك أفكار رئيسة أخرى، مثل: طائر يغرد في مكان ما، وعلامة على جسد، ...إلخ.
يمكن وصف موضوعات كتبه على أنها رحلة شخصية. قد ترمي الرحلة إلى حماية العالم، أو الهرب، أو العثور على الحب، أو الخلاص، أو لمجرد التجول بلا غاية. داخل هذه الخطوط العريضة هناك بعض الموضوعات القليلة الّتي تظهر على الدوام.
أحد هذه الموضوعات هو: الوصف الواضح لحرب أو اضطراب يأتي من الماضي. الصراعات أثّرت في بعض الشّخصيّات في الماضي، وكان لها بعض التأثير في الحاضر، يمكننا أن نلحظ بقايا أو تماثل لها. كالحرب العالمية الثانية في «نهاية يوميات طائر» أو الحرب الأهلية الإسبانية في «كافكا على الشاطئ» أو الشغب الطلابي في «الغابة النروجية». نحن دائما في حالة حرب، بالكاد يهم ما لو كانت خارجية أو داخلية.
ليس البشر وحدهم الذين يعانون في الحرب، الحيوانات أيضًا تعاني. هناك مجزرة دموية وتصويرية لحديقة حيوانات في «نهاية يوميات طائر» التي تذيب أشد القلوب برودة. هذا النوع من المجازر الحيوانية أو بالتحديد مجزرة القطط يمكن أن نجدها في «كافكا على الشاطئ» أيضًا. سيشعر القراء بالتقزز في أعماقهم وما سيرعبهم أنهم سينتبهون إلى أننا بالفعل نقيم مجازر للحيوانات وليس ثمة خيال في ذلك.
مثل مشاهد مجازر الحيوانات، مشاهد الجنس والعنف في كتبه دائما واضحة.
كما ذكرتُ سلفًا إن أسلوبه في الكتابة هو: الواقعية السحرية؛ لذلك من البديهي أن تتضمن كتبه عناصر من السريالية واللامعقولية؛ ولكن في لحظة ما يزداد نصيبهم ازديادًا جذريًّا، وسيظهر سرد تجريدي من مكان ما: عازف بيانو ذو ستة أصابع، مدينة القطط، جامع الرسوم يدق الأبواب، والمزيد من الألغاز الأخرى.
أخيرًا، بعض الكلمات حول خاتمة رواياته، أغلبها مفتوحة. النهايات المفتوحة قد تترك بعضنا ساخطا؛ ولكنها تحافظ على غموض شخصياته. أحب النهايات المفتوحة لأن الحياة هكذا. إنها دائما تستمر، لا تنتهي أبدًا ولا تتركنا مع خاتمة حقيقية. كقارئة، إنها متعة أن أبحث عن المعاني في كلماته المفتوحة على التأويلات. مع ذلك، ليست كل كتبه لها نهاية مفتوحة. «نهاية يوميات طائر» فيها أكثر نهاية تقليدية من بين كل كتبه الّتي قرأتها، «1Q84» نهايتها تقليدية أيضًا؛ ولكن فيها قمرين في الأقل. كلا الكتابين يمتلكان نهايات تقليدية نسبيا أو نهايات غير مفتوحة لأنهما تضمنا على كثير من التساؤلات الّتي لم يُجَب عليها، ونهايات فضفاضة في الأخير التي يمكن أن تُترك لتفسير القراء.
منذ السنوات القليلة الأخيرة، كان محبوه المهووسون (بما فيهم أنا) يشعرون بالأسى كل عام بعد أن تتجاهل الأكاديمية الملكية السويدية موراكامي. كنت أقنع نفسي بالتفكير أن جائزة نوبل تُعطى للأشخاص الذين تجاوزا قمتهم ولم يعودوا كتابًا نشيطين فحسب. قبل أيام قليلة شاهدت مجموعة من المقالات مكتوبة في «نيويورك ريفيو أوف بووكس» لتيم پاركس. في فقرة (ما خطب جائزة نوبل) ذكر كم هو قليل عدد الأشخاص الناطقين بالسويدية الذين يجب عليهم قراءة الأعمال الأدبية للعالم كله، ثم عليهم أن يتخذوا قرارا. يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على كثير من خبراء الأدب حول العالم للحصول على قائمة قصيرة؛ لذلك هم معرضون لانحيازات هؤلاء الخبراء. هذه الأعمال الموجودة في القائمة القصيرة ليست مترجمة إلى اللغة السويدية في الغالب؛ لذلك عليهم الاعتماد على معرفتهم السطحية بالإسبانية أو الفرنسية لقراءتها.
كما أشار بورخِس نفسه: «الجماليات صعبة، وتتطلب وعيًا خاصًّا وتفكيرًا عميقًا؛ في حين الانتماءات السياسية أسهل وأسرع للاستيعاب».
لذلك، لتجنب الوقوع في كل تلك الانحيازات، والحيرة، والحمل السياسي الثقيل؛ يغدو عامل الاختيار مهيمن بالمُقابلة مع الموهبة الأدبية الحقيقية.
هاروكي موراكامي مع نوبل أو من دون نوبل هو: أحد أفضل الأدباء في المشهد الأدبي المعاصر. من يعرف ذلك أكثر منا نحن القراء؛ لأن وقتما يدخل أحدهم في عالم موراكامي لا يوجد مجال للنظر إلى الوراء.