لماذا يحب الناس قراءة موراكامي؟








لماذا يحب الناس قراءة موراكامي؟
بقلم: جَسْتِن وو
ترجمة: علي الصباح





هناك احتمال كبير بأنك ستجد العديد من روايات موراكامي في أي زيارة لمتجر الكتب. الروائي الياباني الذي بلغ ٦٤ عاما كَتَبَ أكثر من دزينة من الروايات بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة وكتب أخرى ليست أدبية, منذ صدور روايته الأولى "استمع لغناء الريح" عام ١٩٧٩. لاشك بأنه أحد أهم الكتاب المعاصرين, ولعدة سنوات كان الكثيرون يرون استحقاقه للفوز بجائزة نوبل للآداب. في العصر الذي لا تُقَدّر فيه القراءة مثل السابق والنسخ المطبوعة تتراجع تدريجيا لصالح النسخ الرقمية, تبقى الزيادة المستمرة في شعبية موراكامي حول العالم أمرا لافتا للنظر, (روايته الأخيرة "تسوكورو تَزاكي عديم اللون وسنوات حجه" الصادرة في ٢٠١٣ بيعت منها ٣٥٠ ألف نسخة في الأيام الثلاثة الأولى لصدورها في اليابان; ستصدر الترجمة الإنجليزية في ٢٠١٤). السؤال هو: لماذا يحب الناس قراءة روايات موراكامي؟ ما الشيء المميز في رواياته والذي يدفع الناس إلى شرائها بالرغم من عدم معرفتهم عن ماذا تتكلم؟ لماذا يحبه الناس؟

أحد الجوانب التي تميز روايات موراكامي هو أسلوبه غير المألوف في الكتابة. بعض النقاد لا يعدونه "كاتبا يابانيا", لأن نثره يبدو إنجليزيا حتى وهو في حالته الأصلية باللغة اليابانية. بتأثير واضح من كتّاب غربيين مثل فيتزجيرالد, ينحو موراكامي بعيدا عن الأسلوب الجدي والتراجيدي في كتابته إلى أسلوب أكثر فكاهة وعفوية. بل في الحقيقة, موراكامي نفسه اعترف بأنه حين يكتب يبدأ بكتابة جمله بالإنجليزية أولا ثم يترجمها إلى اليابانية. أسلوبه في كتابة فقرات قصيرة بتركيز على نفسية الشخصيات وتركيز أقل على البيئة المحيطة يفصله كذلك عن كتاب يابانيين نموذجيين مثل ياسوناري كاواباتا (أول كاتب ياباني ينال جائزة نوبل للآداب عام ١٩٦٨) أو يوكيو ميشيما (رشح لجائزة نوبل أكثر من مرة), والذي يسخّر العديد من الفقرات في وصف السياق. هذا يخلق أسلوبا فريدا في الكتابة يجده القارئ الياباني جذابا, ويجده القارئ الغربي سهلا للمتابعة.

سمة العزلة والإحساس بالخسارة سائدة في أغلب رواياته. وفي غالب الأوقات, يمتثل أبطال الرواية بالتقاليد المجتمعية بينما تتخلل العدمية كل أفعالهم. بينما هذا ليس شيئا جديدا بحد ذاته, إلا أنه من المهم أخذه بعين الاعتبار خاصة في سياق المجتمع الياباني بعد الحرب. واجه اليابانيون أوقاتا عصيبة بعد الحرب العالمية الثانية في عملية إعادة الإعمار المادي والمجتمعي. اجتاز الناس الستينيات مع الحراك الإحتجاجي الطلابي, وفترة النمو الإقتصادي في السبعينيات والثمانينيات, إلى أن انفجرت الفقاعة في التسعينيات. غالبا ما تقع روايات موراكامي في هذه السياقات المابعد حداثية. شخصياته ليست ضحايا مباشرة لهذه الأحداث, إلا أنك تستطيع أن ترى مدى تأثير هذه السياقات في نموهم وفي إدراكهم للعلاقات الإنسانية. مثل معضلة القنفذ, الشخصيات دائما منهكة من إقامة علاقات حميمية مع الآخرين, بسبب الخوف وطلبا لحماية أنفسهم والأشخاص الذين يكترثون لأمرهم. في هذا السياق, هناك انتقاد طفيف للرأسمالية وكذلك للتقدم التكنولوجي في اليابان الذي لا يجعل الناس يشعرون بأفضلية في حياتهم. من خلال هذا النقد للمجتمع الحديث بالإضافة لأسلوبه الفريد في الكتابة, يرينا موراكامي إلى أي مدى نحن بعيدين عن الأشخاص الآخرين.

كثيرا ما يستدعي مخلوقات أو مشاهد سريالية في رواياته. من القطط الناطقة في "كافكا على الشاطئ" (٢٠٠٢) إلى المدينة ذات القمرين في "1Q84" (٢٠٠٩), إلى الشخصية التي ترى ذاتها المُتَخَيَّلَة في "سبوتنيك الحبيبة" (١٩٩٩) إلى الفتاة التي تنام لسنوات في "مابعد الظلام" (٢٠٠٤), غالبا ما يُضمن موراكامي بعض المشاهد الشبه فانتازيّة والتي تتحدى إدراكنا, مع ذلك بشكل ما, تشعر أنها منطقية. وأنت تقرأ فصول الرواية تعتريك الغرابة ولكن في نفس الوقت تجدها قابلة للتصديق بشكل كبير, كأنك كنت تنتظر وقوعها. بهذا المعنى, كأن موراكامي يطرح علينا سؤالا وجوديا: ما الذي تفعله لتوجد معنى لوجودك في عالم لامعقول؟ هل تقبله كما هو أم تفعل ما تستطيع لتعرف لماذا هو كذلك؟ المشاهد والشخصيات السريالية المتعددة في رواياته تستحث هكذا خواطر, من قارئ يفشل في فك هذه الرموز ومعرفة معناها الحقيقي.

المشاهد الفضولية تأخذنا إلى سمة أخرى مشتركة في روايات موراكامي: بأنه لا يفسر أبدا كل شيء. ما الذي حدث لتورو وميدوري في نهاية "الغابة النرويجية" (١٩٨٧)؟ من هم بالتحديد الناس الصغار في 1Q84؟ لمذا اختير تسوكور بالتحديد ليقع عليه اللوم في "تسوكورو تَزاكي عديم اللون وسنوات حجه"؟ موراكامي أبدا لا يقدم إجابات قطعية على هذه الأسئلة. عوضا عن ذلك, يدع المجال للقراء ليقرروا ما الذي حدث في النهاية. كثيرا ما يُنتقد من قراءه بأنه يرمي هذه المشاهد ويتوقع أنهم سيقبلونها كما هي. إلا أنه في نفس الوقت, من خلال هذه السياقات الغرائبية تكافح الشخصيات لتجد معناها الوجودي, من خلال الاستكشاف الجنسي (الجنس سائد في روايات موراكامي, سواء كان خيالا أو مضاجعة; بشكل أو بآخر, كل النساء في رواياته يرغبون بشدة في النوم مع الأبطال, والذين غالبا ما يكونون عاديون جدا), مغامرة في أرض أجنبية, التساؤل عن معنى الحياة, ومواجهة الرغبات الإنسانية. في هذا الجانب, موراكامي متمرس في علم النفس الشعبي حيث يستطيع وصف المشاعر الإنسانية بشكل دقيق ليجعل القارئ يجلس على حافة كرسيه ينتظر لمعرفة ما يحدث في عقل الشخصيات.

أحد الحوانب الأساسية في روايات موراكامي هو إصراره على تضمين الموسيقى. شغفه بالموسيقى معروف, فقبل كتابته لروايته الأولى كان قد افتتح بارا للجاز, فهو يُدخل في رواياته الموسيقى (بالتحديد الكلاسيكية والجاز) بلا مشقة. بينما تكون الموسيقى كقطعة مصاحبة للرواية, القراء المخلصون يجدون متعة بالاستماع إليها أثناء قراءة الرواية. على سبيل المثال, معزوفة سينفونيتا للملحن التشيكي ياناتشيك تكررت مرات عديدة في رواية 1Q84 وكانت تعمل كنقطة وصل بين الشخصيتين الرئيستين الرجل والمرأة. لن تتأثر القصة لو أُزيلت كل الإشارات إلى الموسيقى, لكن الموسيقى صارت سائدة في في رواياته بحيث لو خلت واحدة منها من أي إشارة لأي موسيقى كلاسيكية أو جاز فلن تبدو القصة موراكاميّة بما فيه الكفاية. تضمين الموسيقى يجعل عملية القراءة أكثر امتاعا, فكأنك تتصور المشهد في ذهنك بينما تستمع للموسيقى الخلفية التي تعمل في فيلم. (بشكل لافت, شغفه للموسيقى الكلاسيكية أناله تقديرا لدى صناع الموسيقى بحيث حالما يصدر موراكامي أي رواية تقفز مبيعات المقطوعات الموسيقية التي يذكرها.)

الجانب الإنساني لدى موراكامي هو الذي جلب له احترام الناس, حتى غير المطلعين على رواياته التي عرّفت الناس به. بعد فترة قصيرة من إلقاء جماعة أوم شينريكيو الإرهابية لغاز السارين في مترو طوكيو عام ١٩٩٥ حيث قتل ١٣ شخصا وجرح الآلاف, شرع موراكامي بمقابلة بعض ضحايا الاعتداء لمعرفة كل ما مروا به في ذلك اليوم. جُمِعَت هذه المقابلات لاحقا لتنشر في أول كتاب غير أدبي له بعنوان "تحت الأرض". لم يكتفي بهذا, إنما شرع في العام الذي يليه بمقابلة ثمانية أعضاء من جماعة أوم شينريكيو ليجاوبوا على سؤال: لماذا ارتكبت الجماعة هذا الفعل, وما موقف أعضاء الجماعة منه؟ ثم أصدر كتابه الثاني "تحت الأرض ٢: الأرض الموعودة" (في النسخة الإنجليزية هذا الكتاب دُمج مع "تحت الأرض"). حين وجه الجميع أصابعهم تجاه أعضاء الجماعة, أشار موراكامي إلى أن هؤلاء الأعضاء لا يختلفون عن أي مواطن عادي في المجتمع, وانتقد المجتمع لانشغاله بما حدث عوضا عن محاولة فهم لماذا حدث.

تجعلك تشعر وكأنك تقرأ إحدى مقابلات شخصية جاك في رواية "نادي القتال" لتشاك پولانيك.

هناك حادثتان أخرتان تعززان سمعة موراكامي على أنه أكثر الكُتّاب إنسانية في وقتنا المعاصر. عام ٢٠٠٩, فاز بجائزة القدس, والتي قد أشعلت الغضب في اليابان وفي العديد من الدول الأخرى لأن إسرائيل كانت للتو قصفت غزة. اختار موراكامي الحضور واستلام جائزته بالرغم من كل الجدل المثار آنذاك, وفي خطابه انتقد بشكل ضمني ما ارتكبته الحكومة الإسرائيلية, وقال:

"ما بين جدار عال وقوي وبين بيضة تنكسر عليه, سأقف دائما إلى جانب البيضة. نعم, لا يهم مدى صحة الجدار أو خطأ البيضة, سأقف مع البيضة… إذا قام روائي, لأي سبب, بكتابة أدب يقف إلى جانب الجدار, فماذا ستكون قيمة هكذا أدب؟"

لا عجب أن يخيب ظن الكثيرين عندما أعلن عن فوز الكاتب الصيني مو يان بجائزة نوبل للآداب في العام الماضي, وهو الذي تربطه علاقات وثيقة مع الحكومة.

لا يخشى موراكامي من انتقاد حكومته في مواضيع حساسة. عقب كارثة فوكوشيما النووية عام ٢٠١١, انتقد سياسة الحكومة النووية وأدان دورها في تهميش الأصوات المعارضة بحجة "الكفاءة" و "الملائمة". كذلك تهكم على شجار اليابان مع الصين في النزاع حول ملكية جزر دياوو\سينكاكو في شرق بحر الصين. انتقد كلا الحكومتين في إثارتهم للمواطنين في كلا البلدين عوضا عن محاولة حلها دبلوماسيا. كانت عبارة جريئة من كاتب لم يُعتَد منه ممارسة البهرجة الإعلامية, مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه القضية كانت حساسة للغاية بين اليابان والصين. بالطبع, آراءه لم تغير الكثير من ناحية النتائج (فوكوشيما لا تزال خرابا, وقضية الجزيرتين لم تحل إلى الآن), لكنه أمر مهم لشخص مشهور على نطاق واسع مثل موراكامي ليتحدث ضد الجدار بينما لا يزال الجدار منتصبا بغطرسة.

قد يخيب أمل البعض من نبرة موراكامي الغامضة وأحداثه الميلودرامية. في الحقيقة, في غالب الأوقات قد يصاب الشخص بالحيرة أكثر حين يقلب الصفحة الأخيرة من الرواية ليجد أن لاشيء قد حُل. مع ذلك, مفتاح فهم سمعة موراكامي يقع في عملية استكشاف العالم. مثل محاولات تورو اليائسة لمخاطبة ميدوري في نهاية "الغابة النرويجية", نحن عالقون في عالم اللامكان, نسعى جاهدين لمعرفة ما سيأتينا, لكن لا نمتلك جوهر الحياة أو الوجود الإنساني. سؤال بسيط مثل "أين أنت الآن؟" كاف ليجعلنا نتسائل عن سبب وجودنا هنا. ما يهم, بالرغم من ذلك هو الشجاعة للمضي قدما بينما نعبر الشعور بالارتباك في عالم يبدو بالغ السخافة.